فرنسا... باب ندياي مشروع رئيس من الأقلية السوداء

27 مايو 2022
ندياي متخصص في الأقليات والتاريخ الاجتماعي الأميركي (لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -

تعيين المؤرخ باب ندياي وزيراً للتربية الوطنية في فرنسا، هو مفاجأة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية ولايته الرئاسية الثانية، وقبل الانتخابات التشريعية في 12 و19 يونيو/حزيران المقبل.

وجرت العادة أن يقوم رئيس الدولة الفرنسية بتشكيل حكومة جديدة ما بين دوري الانتخابات الرئاسية والتشريعية، اللتين يفصل بينهما قرابة شهر، كي تتولى التحضير للتشريعية، وفق توجهات وخطط وبرامج الرئيس في الولاية الثانية، وهو ما توحي به التركيبة الجديدة للحكومة التي تشكلت في الحادي والعشرين من مايو/أيار الحالي برئاسة وزيرة العمل السابقة إليزابيث بورن، ذات الأصول الاشتراكية.

ويتوجه ماكرون إلى إحداث صدمة ثقافية هوياتية، في ظلّ مشهد سياسي واجتماعي يتسم بالتعقيد، عكست جانباً منه الحملة من أجل الانتخابات الرئاسية التي جرت في دورتيها الأولى والثانية في 10 و24 إبريل/نيسان الماضي.

وأسفرت الحملة والانتخابات عن تنامي تيارين متنافرين، اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان التي حصلت على نسبة 23 في المائة في الدورة الأولى، و41 في المائة في الدورة الثانية بمواجهة ماكرون، بينما جاء في المرتبة الثالثة في الدورة الأولى زعيم معسكر اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون بنسبة 22 في المائة.

ومن الواضح أن ماكرون ميّال إلى إقامة سد أمام هذا الزحف من الطرفين، ليبقى القوة الرئيسية صاحبة الأغلبية، وهذا أمر سوف تقرره صناديق الاقتراع في الانتخابات التشريعية التي باتت على الأبواب.

يتوجه ماكرون إلى إحداث صدمة ثقافية هوياتية، في ظلّ مشهد سياسي واجتماعي يتسم بالتعقيد

وإذا نجح رهان الرئيس الفرنسي في الوصول إلى أغلبية، فإنه سيحاول المضي في تنفيذ برامجه التي بدأها في الولاية الرئاسية الأولى، وإلا فإنه سيصبح أسيراً لنزاع تياري اليمين واليسار المتطرفين، الذي بات يهدد بتسميم المناخ العام في فرنسا، وتعميق الشرخ بين جزء من الفرنسيين تستهويهم الطروحات العنصرية، وأكثرية المجتمع المناهض لهذه الأفكار.

فرنسا: وجوه حكومية بإشارات سياسية

وكدليل على توجه ماكرون لفتح ورشات جديدة، فإنه ذهب نحو الميدان التربوي والثقافي، فاختار وزيرة للثقافة من أصول لبنانية ريما عبد الملك (هاجرت مع أهلها إلى فرنسا عندما كان عمرها 10 سنوات)، ووزير من أصول أفريقية للتربية الوطنية والشباب باب ندياي. وعلى الرغم من المكانة التي تحتلها الثقافة، فإنها ليست محل تجاذب كبير بقدر ما تشكله التربية والتعليم.

وهنا تتوجب الإشارة إلى أن وزير التربية السابق جان ميشيل بلانكير، الذي تسلّم المنصب منذ وصول ماكرون إلى الإليزيه في عام 2017، هو وزير تقليدي، وكان صاحب رؤية للعودة بالمدرسة الفرنسية إلى الخمسينيات، وضد الجندرة. وحلّ في مكانه اليوم وزير ذو صبغة سياسية صريحة، هاجسه قضايا الأقليات على الطريقة الأميركية.

واستغل ماكرون أن الوزير السابق لم يكن يحظى بشعبية بسبب ما أثاره من ردود الفعل الغاضبة ضده، نتيجة مواقفه في ما يخص قضية مقتل المدرس صاموئيل باتي في أكتوبر/تشرين الأول 2020 على يد لاجئ شيشاني.

واعتبر عالم الاجتماع ميشال فيفيوركا أن ماكرون أراد إرسال إشارة سياسية باختياره للوزير الجديد المعروف بأفكاره اليسارية، لموازنة مواقف الوزراء السابقين في التعليم والشباب والتعليم العالي والداخلية الذين نددوا في الأشهر الأخيرة بالتقارب بين اليسار والإسلام السياسي. ولهذا السبب، فإن الوزير الجديد مستهدف من قبل اليمين المتطرف، بحسب صحيفة "لوموند".

وعنونت صحيفة "لوبينيون": "التربية الوطنية: باب ندياي، من أجل طي صفحة بلانكير". ورأت الصحيفة أنه تم تقديم المؤرخ والمتخصص في شؤون الأقليات على أنه "مناهض لبلانكير"، وهو مثقف وأكاديمي معروف وناشط، يمثل قطيعة مع الوزير السابق.

باب ندياي لإضعاف ميلانشون

يعد الوزير الجديد مؤرخاً بارزاً. وهو متخصص في الأقليات والتاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة، ومؤلف كتاب "الشرط الأسود"، الأمر الذي اعتبرته وسائل إعلام فرنسية "مفاجأة" في تشكيل الحكومة الجديدة، ولذلك تم تسليط الضوء عليه إعلاميا من سائر أعضاء الحكومة، واثار ردود فعل واسعة غاضبة من قبل اليمين المتطرف والتقليدي، وترحيباً واسعاً من قوى اليسار وأوساط الهجرة وحقوق الإنسان.

وعلى الرغم من ذلك، هناك من يعتبر أن هذه الخطوة عبارة عن ضربة استباقية من ماكرون موجهة ضد ميلانشون تحديداً، الذي تلتف من حوله قوى اليسار وترشحه لرئاسة الحكومة، في حال نالت الأكثرية النيابية في الانتخابات التشريعية المقبلة. وتدل على ذلك بالتصويت له بكثافة في الرئاسيات من قبل الجاليات من أصول أفريقية، وقد حل في الترتيب الأول في بعض الجزر الفرنسية ذات الأغلبية من أصول أفريقية مثل المارتينيك. وأحد أهداف خطوة تعيين الوزير الجديد هو إضعاف ميلانشون.

من ناحية أخرى، يعد التوقيت مهماً في لحظة تشهد فيها فرنسا انقساماً بين اتجاه عام، يدعو إلى مقاربة المشاكل الداخلية باعتماد المعيار الاجتماعي، وتمثله أوساط الهجرة واليسار، وبين يمين شعبوي متطرف وعنصري، يفضل المعيار القومي والديني أو "الإثني - العرقي"، والذي وصل إلى مراتب متقدمة على مستوى أوروبا.

وشكّلت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا ساحة مفتوحة لإبراز عضلات وقوة هذا التيار، الذي باتت تحسب حسابه أطراف اليسار واليمين التقليدي والوسط، وترى فيه مساراً يمكن أن يقود إلى إلحاق ضرر عام بالسلم الاجتماعي، ويولد ردود فعل هوياتية ذات طابع حاد، تدفع بعض الأوساط إلى مزيد من التخندق والانغلاق. ومن هنا تعتبر محاولة ماكرون من أجل تشكيل مسار تربوي واجتماعي ثقافي مختلف ضربة من شأنها أن تعيد خلط الأوراق، وتغيير المواقع والتحالفات.

ندياي على خطى أوباما

هناك آراء يجري تداولها حول قرار ماكرون بتعيين وزير من أصول أفريقية في موقع مهم، وثمة من يرى في ذلك إشارة صريحة لفتح الطريق أمامه كي يصبح رئيسا لفرنسا من هنا إلى 20 عاماً.

الوزير الجديد مستهدف من قبل اليمين المتطرف، بحسب صحيفة "لوموند"

بل إن أصحاب نظرية المؤامرة، يعتبرون أن ماكرون قد وضع باب ندياي عن وعي وتخطيط، على هذا الطريق، وهو بذلك غير بعيد عما يحصل من تحولات في الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود على مستوى ما يعرف بـ"القوة السوداء" الهوياتية، والتي قادت إلى وصول باراك أوباما إلى الرئاسة في عام 2009. ويأتي في هذا الاتجاه ما يقوم به الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من تعويم للأقليات، وخصوصاً من أصول أفريقية، والتي باتت تحتل مناصب مهمة مثل نائبته كامالا هاريس ووزير الدفاع لويد أوستن.

وتلتقي في شخصية الوزير الجديد مزايا عدة، ويشغل عدة وظائف منذ العام الماضي: منصب المدير العام لمتحف تاريخ الهجرة، كما يتولى في المركز الوطني للسينما رئاسة لجنة "صور التنوع"، ومدرس في كلية العلوم السياسية في باريس. وهو شقيق الروائية ماري ندياي، الحائزة على أرفع جائزة أدبية في فرنسا "غونكور" عام 2009، وهي معروفة بموقفها من قضية حقوق الإنسان، وسبق لها أن أعلنت عن مغادرة فرنسا للعيش في ألمانيا حين وصل الرئيس الأسبق نيكولا ساكوزي إلى الإليزيه عام 2007.

وبالتالي فإن الوسط العائلي الذي يتحدر منه الوزير على قدر معقول من التسييس. والده تيديان ندياي مهندس سنغالي ووالدته أستاذة علوم طبيعية فرنسية. حاصل على الدكتوراه من مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، وأجرى دراسات أخرى معمقة في التاريخ، وحاز على دكتوراه من جامعة فرجينيا الأميركية.

يعد هذا الكاتب والمثقف الفرنسي ذو الأصل الأفريقي من بين المتأثرين بثقافة "الزنوجة"، التي تقوم على أساس أهمية الشعور بالانتماء لأفريقيا، وارتباط جميع ذوي الأصول الأفريقية في جميع أنحاء العالم. ووضع أساسها في ثلاثينيات القرن الماضي الشاعران الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور والمارتينيكي إيميه سيزير.

وبالتالي فإن باب ندياي من أشد المدافعين عن قضايا السود في فرنسا. وفي مقال له في صحيفة "ليبراسيون"، قال إنه يؤيد "الإحصاء العرقي"، وهي ممارسة مثيرة للجدل ومحظورة في فرنسا. وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة "لوموند" في عام 2017، أكد مؤلف كتاب "الشرط الأسود" أن الجمعيات التي تنظم اجتماعات في إطار عدم الاختلاط العرقي "يمكن أن تساهم بشكل مفيد في الحياة الديمقراطية". كما استنكر "العنصرية البنيوية في فرنسا".

وفي عام 2018، صنع باب ندياي اسماً لنفسه من خلال إعلانه في مقال بـ"لوموند" أن محو مفردة "العرق من الدستور الفرنسي يمثل نكسة". وفي عام 2020، كتب تقريراً عن التنوع في أوبرا باريس، أوصى فيه بالترويج لمدرسة أوبرا للرقص والمعاهد الموسيقية لأشخاص من خلفيات متنوعة. ووفقاً له، إذا لم يكن هناك موسيقيون سود في الأوركسترا الكلاسيكية، فليس ذلك لأنهم فشلوا في مسابقات التوظيف، بل بسبب عدم وجود أي منهم يقدم نفسه.

لم يخف باب ندياي قط التزامه السياسي. وفي عام 2012، شارك في كتابة برنامج "من أجل جمهورية جديدة"، الذي نُشر في مجلة "لونوفيل أوبزرفاتور"، حيث دعا إلى التصويت للرئيس السابق فرانسوا هولاند، المرشح الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية حينها.

وهذا أحد أسباب اختيار ماكرون له ليكون عضواً في حكومة تقودها امرأة ذات ماض اشتراكي، ولكنها تحولت إلى الليبرالية كي تنهض بتنفيذ رؤى ماكرون في هذا الاتجاه، هو الآتي من عالم المصارف والشركات، والذي يعمل على تحويل فرنسا من نظام تلعب فيه الدولة الدور الأساسي إلى خصخصة القطاعات كافة، وهذا ما لم يتمكن من تحقيقه في ولايته الأولى، بسبب المعارضة الشديدة التي لقيها من النقابات التي تميل في صورة عامة إلى اليسار.

 

المساهمون