فرنسا: إضرابات العمّال أصعب تحدّ لماكرون

19 أكتوبر 2022
من التظاهرة العمّالية في رين، غربيّ فرنسا، أمس (داميان ماير/فرانس برس)
+ الخط -

في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة الوقود في فرنسا، مع استمرار الإضراب المفتوح منذ 4 أسابيع في مصافٍ تابعة لمجموعة "توتال إنرجيز" (8 مصافٍ على طول البلاد)، اختارت الحركة الاجتماعية الفرنسية، وقوامها الحركة العمّالية على وجه الخصوص، زيادة الضغط على حكومة إيمانويل ماكرون، مع تنفيذ نقابات عدّة وحركات طلابية، أمس الثلاثاء، إضراباً عن العمل، للمطالبة برفع الأجور، ما أحدث شللاً كبيراً في مرافق حيوية عدة.

ويعدّ إضراب أمس، أول تحدٍ اجتماعي وعمّالي واسع النطاق يواجه ولاية ماكرون الثانية، بعد إعادة انتخابه رئيساً في إبريل/نيسان الماضي. ويدخل ذلك في إطار الكباش المفتوح بين الرئيس عن حزب "النهضة" الوسطي، وتحالفه الرئاسي والبرلماني الضيّق، وبين الحركة العمّالية، وتحديداً الاتحاد العام للعمّال (أو الكونفدرالية العامة للشغل) "سي جي تي"، لاسيما بعد الاستدعاءات المتواصلة من قبل الحكومة للمُضربين، ومطالبتهم بالعودة إلى العمل.

ويستند ماكرون في الاستدعاءات، إلى نسبة تأييد شعبية عالية لخطوته هذه، رفضاً لتعطل البلاد، بعد مشاهد الطوابير الطويلة لسيارات المواطنين أمام محطات الوقود، منذ أسابيع، والتي تشهدها مناطق عدة من فرنسا.

تحاول الحكومة تجنب إدارة طاولة حوار وطني حول زيادة الحدّ الأدنى للأجور

من جهتها، تستند الحركة العمّالية المُطالبة برفع أجورها، إلى حقّ التظاهر والاعتراض والإضراب، الذي يتمتع بقدسية استثنائية في فرنسا، فيما يشكّل أي إضراب وتحرك مطلبي تنفذه النقابات العمّالية الكبرى، مصدر قلق دائم لحكومات البلاد المتعاقبة.

ويسعى اليسار الفرنسي إلى الاستثمار في الأزمة، لاسيما بالنسبة لزعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلاشون، فيما يرى متابعون أن الأخير لا يزال يأمل بأن يدفع أي تفاقم للحراك، الرئيس الفرنسي، للدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، في ظلّ الأكثرية الضئيلة التي يملكها "النهضة" وحلفاؤه في البرلمان.

رفع الأجور مقابل "تحسين القدرة الشرائية"

وشهدت فرنسا أمس، اضطرابات كبيرة، في ظلّ التزام النقابات العمّالية الإضراب والتظاهر للمطالبة برفع الأجور، والتوقف عن إجبار العاملين المُضربين في مصافي ومستودعات "توتال إنرجيز" على العمل. وأثّر إضراب أمس، على وجه الخصوص، على شركات السكك الحديدية (سي أن أس سي أف)، وشركات النقل العام في باريس (أر آي تي بي).

وجاء يوم التعبئة العمّالي في سياقٍ أصبح قابلاً للاشتعال بسبب الإضراب في مصافي التكرير، الذي عطّل بشكل كبير توزيع الوقود في جميع أنحاء البلاد منذ حوالي أسبوعين، خصوصاً في الشمال والوسط ومنطقة باريس.

وردّت الحكومة على ذلك عبر استدعاء المضربين من أجل إعادة فتح بعض مستودعات الوقود. كذلك، استدعى الرئيس الفرنسي أول من أمس الإثنين، رئيسة الوزراء إليزابيث بورن والوزراء المعنيين لتقييم الوضع. وقال ماكرون: "سنواصل بذل قصارى جهدنا"، مضيفاً أنه يريد حلّ هذه الأزمة "في أسرع وقت ممكن" ومؤكداً أنه يقف "إلى جانب جميع مواطنينا الذين يكافحون والذين سئموا هذا الوضع".

من جهته، قال وزير الاقتصاد والمالية برونو لومير، إنه ينبغي "تحرير مستودعات الوقود والمصافي التي تمّ منع الوصول إليها واللجوء إلى وسائل لإصدار أوامر تفرض على الموظفين العمل". وأضاف: "ولى وقت التفاوض، كان هناك تفاوض، وكان هناك اتفاق، وهذا يعني أن القوة يجب أن تبقى مع صوت الأغلبية"، في إشارة إلى الاتفاق المبرم بين "توتال إينرجيز" ونقابتين (لزيادة الأجور بنسبة 7 في المائة)، لكن لم يوقع عليها الاتحاد العام للعمّال الذي بدأ حركة الإضراب، مطالباً برفع الأجور بنسبة 10 في المائة.

في المقابل، دعا الأمين العام للاتحاد العام للعمّال فيليب مارتينيز، أول من أمس، الحكومة إلى "الجلوس حول الطاولة" مع النقابات لـ"مناقشة رفع الحد الأدنى للأجور". كذلك، أكد الأمين العام لنقابة "القوة العاملة" فريديريك سوييو، الذي شارك أيضاً أمس في يوم الإضراب، أن "إجبار الموظفين على العمل بأمر رسمي غير مقبول، وليس الحلّ الصحيح أبداً".

ومن الأسباب التي تقف وراء عدم رضا ملايين الموظفين: التضخّم الذي يؤثر على القوة الشرائية، والتشديد المقبل لقواعد إعانات البطالة، وإصلاح المعاشات التقاعدية المتوقع في نهاية العام الحالي. 

وجاء إضراب أمس غداة تظاهرة ضد "غلاء المعيشة" نظمتها الأحزاب اليسارية، ومنها "فرنسا الأبية" بزعامة ميلانشون في باريس. وبلغ عدد المشاركين فيها 140 ألف شخص وفق المنظمين، و30 ألف شخص وفق الشرطة الفرنسية، و29 ألفاً و500 شخص، وفق تعداد لمركز "أوكورانس" ونشرته وسائل إعلامية عدة، من بينها وكالة "فرانس برس" للأنباء.

وتظهر عواقب الإضراب في مصافي "توتال إنرجيز" الفرنسية، في العديد من القطاعات بالبلاد: صعوبات في الوصول إلى العمل، وقلق في المناطق الريفية في خضم موسم الحصاد، والخوف من تعطيل المغادرين في إجازات وإلغاء الحجوزات. ولهذا تحظى الاستدعاءات الحكومية للعمّال للعودة للعمل، بشعبية متزايدة، مع تواصل مشاهد طوابير الانتظار أمام محطات الوقود، والتي تزيد من معاناة الفرنسيين، بالإضافة إلى الغلاء المتفاقم الذي يراكمه استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.

أجواء سياسية ملبدة

وحتى اللحظة، تحاول حكومة ماكرون، أخذ مسافة من إضراب عمّال "توتال إنرجيز"، وتصوّر المسألة على أنها أزمة خاصة بين الشركة وموظفيها.

ويرى متابعون، أن هذا الموقف نابعٌ من محاولة الحكومة الفرنسية، ومن خلفها الإليزيه، تجنب الذهاب إلى "سجال وطني" أو "طاولة حوار وطني" لمناقشة مسألة رفع الحدّ الأدنى للأجور. وترى حكومة ماكرون، أن أي رفع للأجور في الوقت الحالي، سيقود حتماً إلى ارتفاع نسبة التضخم، والأسعار. كما تخشى الحكومة الفرنسية، أن يؤدي رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى الإضرار بالشركات والمؤسسات الصغيرة في البلاد، والتي تكافح أصلاً في ظلّ الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومنها المصانع الفرنسية الصغيرة أو المتوسطة الحجم والتي تضررت كثيراً بسبب ارتفاع تكلفة المحروقات.

ويريد ماكرون، عوضاً عن ذلك، إرضاء العمّال، بمواصلة سياسته المبنية على التقديمات الاجتماعية، والمكافآت، والحوافز (مرسوم "درع التعرفة" أو "مكافأة ماكرون" على سبيل المثال)، التي تقدمها الحكومة لمواجهة الأزمة، مستخدماً دائماً مصطلح "تحسين القدرة الشرائية"، عوض "تصحيح الأجور". ويأتي ذلك علماً أن عدداً من هذه التقديمات، سيتوقف مع نهاية العام، وأن العديد من المساعدات تُصرف فقط في الشركات والمؤسسات التي تعمل بشكل جيّد.

وتأتي الإضرابات أيضاً، وسط أجواء سياسية متوترة، إذ تستعد الحكومة الفرنسية لإقرار ميزانية 2023 باستخدام صلاحيات دستورية خاصة (قانون 49.3)، تمكنها من اجتياز التصويت على الموازنة في البرلمان، وهو أمر متوقع أن يحصل اليوم الأربعاء. ومع تصاعد التوتر في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، امتدت الإضرابات في فرنسا بالفعل إلى أجزاء أخرى من قطاع الطاقة، ومنها شركة الطاقة النووية العملاقة "إلكتريستي دو فرانس"، حيث ستتأخر أعمال الصيانة الضرورية لإمدادات الطاقة في أوروبا.

وتضع جميع هذه التحديات، حكومة ماكرون بقيادة إليزابيث بورن، بموقف حرج، وأمام الأخذ سريعاً بزمام المبادرة، في ظلّ تصلب كونفدرالية العمل وتمسكها بموقفها. ويأتي ذلك، فيما تحاول حركة ميلانشون، وضع الأزمة في إطار أزمة ثلاثية: مطلبية اجتماعية، وبيئية، ودستورية. من جهتها، تواصل حكومة بورن اتخاذ موقف دفاعي، أو "محايد" بأقل تعبير، لاسيما مع دعوتها الأحد الماضي "جميع المؤسسات القادرة إلى زيادة الأجور".  


 

المساهمون