فاليري غيراسيموف... جنرال الحرب الروسية الجديدة أمام الاختبار الأوكراني

24 مارس 2022
خدم غيراسيموف في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي (ألكسندر نيمنوف/فرانس برس)
+ الخط -

نظام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مغلق وشخصي، حيث العلاقات المباشرة مهمة أكثر من التسلسل الهرمي البيروقراطي. وأقرب شخص إليه اليوم هو وزير الدفاع سيرغي شويغو، الذي يتمتع بسلطات واسعة ومطلقة، ولا يخضع لأي رقابة أو مساءلة إلا أمام الرئيس.

ويعتمد نظام القيادة والسيطرة في الجيش الروسي بشكل كبير على الضباط وهيكل القيادة الرأسية، الذي يتمتع فيه الضباط بأعلى درجة من السلطة على مرؤوسيهم، ويأتي في أعلى سلم هذا التراتب رئيس هيئة الأركان العامة، وهو الضابط الأعلى رتبة في القوات المسلحة الروسية.

وبصرف النظر عن القيادة الاستراتيجية والعملياتية، فإنه هو "المترجم" المركزي والوسيط بين الجيش والقيادة المدنية، وما يربط هذا الجنرال بوزير الدفاع يشكل إحدى ركائز العلاقات العسكرية الروسية.

بل تعتمد فعالية القيادة العسكرية الروسية المعاصرة على العلاقة بين وزير الدفاع ورئيس الأركان، إذ يتعيّن على الأول أن يوازن بين الأهداف العسكرية وتحقيق الأهداف العامة للدولة، بينما يشكل الثاني العقل العسكري المدبر.

وصول فاليري غيراسيموف إلى رئاسة هيئة الأركان العامة

أعاد شويغو بناء وزارة الدفاع بسرعة من خلال تعيين جنرالات محترفين في مناصب عليا. ويعتبر خبراء عسكريون من الغرب والشرق أن قراره الأكثر نجاحاً هو اختيار الجنرال فاليري غيراسيموف رئيساً لهيئة الأركان العامة، والذي حوّل الجهاز إلى مركز عسكري قابل للتكيّف والتطلع للمستقبل.

وعلى الرغم من أن سمعة غيراسيموف ذاعت خلال الفصل الأول من الحرب في الشيشان (1994-1996)، فإنه أظهر فعاليته في أوكرانيا، من خلال عملية احتلال وضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014، وتشكيل الجيب الانفصالي في إقليم دونباس، والتدخل في سورية عام 2015، الذي غير مجرى الأحداث كلياً وحافظ على نظام بشار الأسد الذي كان على وشك السقوط، حسب تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

الجنرال غيراسيموف مشهود له بأنه ضابط ذو مهارات استثنائية

وينسب خبراء لغيراسيموف أنه أعاد هيكلة وتدريب القيادات العسكرية الأساسية، وتحديث الترسانة العسكرية الروسية، من خلال تحويل سورية إلى حقول تجارب.

انضم غيراسيموف إلى هيئة الأركان العامة في 2010، نائباً لرئيس الأركان الجنرال نيكولاي ماكاروف، وسرعان ما حل في منصب رئيس الأركان العامة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012، بعد تولي الوزير شويغو وزارة الدفاع، بناءً على قرار بوتين، الذي أراد تعزيز المجمع الصناعي العسكري، وتفعيل جهود إعادة التسلح، وزيادة التعاون داخل الجيش وفعالية الاستجابة للكوارث المدنية والعسكرية.

وأصبحت هيئة الأركان العامة المؤسسة الرئيسية المسؤولة عن تنسيق العديد من الوكالات المدنية الفيدرالية والإقليمية، وجرى دمج وكالات الدفاع والأمن.

وهذا ما عزز علاقة شويغو بغيراسيموف، الذي يقود الجيش، ويقترح تعديلات وتغييرات تماشياً مع التطورات العسكرية والسياسية، فيما يقوم الوزير بتوفير الموارد وينسق مع الفروع المدنية الأخرى، لكنه يوجه بدقة أولويات بوتين الاستراتيجية إلى خطوط توجيهية عسكرية.

الجنرال غيراسيموف مشهود له بأنه ضابط ذو مهارات استثنائية. وُلِد في مدينة قازان عاصمة جمهورية تتارستان الروسية عام 1955، وبعد الدراسة الثانوية، التحق بثلاث كليات عسكرية، اثنتان للقوات المدرعة، وأكاديمية الأركان العامة.

وخلال الحكم السوفييتي، خدم غيراسيموف في جميع أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق وحلف وارسو، وقام بسحب القوات الروسية من إستونيا بعد استقلالها عن الاتحاد عام 1991، وترأس أركان الجيش الثامن والخمسين أثناء الحرب في الشيشان.

وعلى الرغم من أن كافة الضباط الروس تورطوا بارتكاب مجازر ضد المدنيين، فقد ذاع صيت غيراسيموف بسبب الاستخدام المفرط للقوة. ويُقال إنه قارئ للقائد العسكري الروسي في القرن الثامن عشر، الذي لم يخسر معركة واحدة، ألكسندر سوفوروف.

ويقوم عمل غيراسيموف في الأركان وفق منهج صارم، يجمع بين التنبؤ العسكري الاستراتيجي والاستجابة الديناميكية بشكل حاسم، وأهمية تطوير تفوق عسكري ساحق ضد أي تهديد، معروف وغير معروف، بدلاً من الاستعداد لنوع واحد من الحرب.

عقيدة فاليري غيراسيموف و"الحرب الهجينة"

وارتبط به مفهوم "الحرب الهجينة" أو المختلطة. وفي مقال نشره عام 2013 في مجلة صناعة الدفاع الروسية، حدد العناصر الأساسية لما أصبح يُعرف باسم "عقيدة غيراسيموف"، التي يمكن وصفها بأنها دمج عناصر مختلفة من القوتين الناعمة والصلبة عبر مجالات مختلفة.

وبالنسبة لخبراء عسكريين غربيين، هي ليست "عقيدة"، وتعني في المعجم الروسي "مجموعة أساسية من المعتقدات حول أنواع الحروب التي ستخوضها الدولة في المستقبل وكيف ستنتصر فيها". إنما تعني الحروب في القرن الحادي والعشرين، التي تقوم على تكتيكات جديدة، تركز على نقاط ضعف العدو وتتجنب المواجهات المباشرة والعلنية.

وأهم سطر في المقال هو الذي يقول فيه "لقد نما دور الوسائل غير العسكرية في تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية، وفي كثير من الحالات، تجاوز قوة الأسلحة في فعاليتها".

ذاع صيت غيراسيموف بسبب الاستخدام المفرط للقوة في الشيشان

وهذا اعتراف صريح، ليس فقط بأن جميع النزاعات هي في الواقع وسائل لتحقيق غايات سياسية، ولكن يتوجب على روسيا أن تنظر، بشكل متزايد، إلى الأدوات غير العسكرية.

لجأت روسيا إلى الحرب المختلطة في حملتها ضد جورجيا عام 2008، واستخدمت الهجمات الإلكترونية والتضليل، وتشغيل الوكلاء في منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية في الفترة التي سبقت الحرب.

ومع ذلك، أثبتت القوة الصلبة أنها هي التي كانت حاسمة وضرورية في تحقيق أهداف الكرملين: إعادة ترسيخ الهيمنة الروسية في الفضاء السوفييتي السابق، وإثبات أن روسيا مستعدة لخوض الحرب لتأكيد التفوق الإقليمي، بينما لم تكن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" مستعدين لذلك.

واتضح من تجربة جورجيا أن "الحرب الهجينة" وحدها ما كانت قادرة على توصيل الرسالة المركزية لروسيا، بل إن القوة الصلبة هي التي أكدت استعداد موسكو لخوض الحرب سعياً وراء أهدافها.

في المقابل، اختلف الأمر في تجربة أوكرانيا عام 2014، فإن الذي سيطر على شبه جزيرة القرم هو المخابرات العسكرية بدعم من الوحدات العسكرية النظامية، فيما شجعت دائرة الأمن الفيدرالية، التي اخترقت تماماً جهاز الأمن الأوكراني، الانشقاقات ورصدت خطط كييف.

كذلك، استخدم مسؤولو وزارة الداخلية الروسية اتصالاتهم مع نظرائهم الأوكرانيين لتحديد "العملاء" والمصادر المحتملة، وجرى استخدام الجيش لقرع طبول الحرب بصوت عالٍ على الحدود، وكان ذلك حاسماً كأداة ضغط على حكومة أوكرانيا من أجل استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم.

وبالتالي، واجهت أوكرانيا حرباً غير معلنة في الشرق، لعب فيها العملاء السرّيون الروس والوحدات العسكرية أدواراً حاسمة، ما عزز القناعة بأن "الحرب الهجينة" هي الأسلوب الروسي الجديد في الحرب، وحتى المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الروسية.

ولاحقاً، استخدم الروس المعلومات والمعلومات المضللة لتشكيل الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة، بما في ذلك التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، ومغازلة الكرملين الأحزاب والحركات السياسية في اليمين واليسار المتطرف.

كما استخدمت موسكو منصات التواصل الاجتماعي لتوليد ردود فعل وخلق انقسامات في البلدان التي تعتبر معادية لروسيا، ما عزز الانطباع بأن "عقيدة غيراسيموف" هي المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الروسية، وهو ما يعتبره خبراء غربيون خاطئاً.

فالتدخل الروسي في سورية عام 2015 سلط الضوء على حدود القوة الروسية الصارمة، وعدم أهمية "الحرب الهجينة" في الصراع. وحتى الأسلحة النووية التي يجرى التلويح بها في الحرب الحالية على أوكرانيا، لم يكن لها أي دور في سورية. فهي قد تردع القوى الكبرى الأخرى، لكنها لم تردع الفصائل التي تواجه النظام السوري.

لا يختلف الجنرال غيراسيموف في هذا الصدد عن أسلافه. إن ما يسمى بعقيدته ليست دافعاً لسياسة الأمن القومي الروسي. بدلاً من ذلك، إنها محاولة لتطوير مفهوم عملي لمؤسسة الأمن القومي الروسي لدعم مواجهتها المستمرة مع الغرب.

"عقيدة غيراسيموف" هي ملخص موجز لوجهات النظر الرسمية لروسيا حول مزيج من وسائل الحرب غير العسكرية والعسكرية

بدلاً من عقيدة جديدة، يقدم غيراسيموف استراتيجية لتنفيذ العقيدة الفعلية التي وجهت السياسات الخارجية والدفاعية الروسية لأكثر من عقدين وهي "عقيدة بريماكوف" (وزير الخارجية الأسبق يفغيني بريماكوف، الذي شغل المنصب بين 1996 و1998). وبالتالي، فإن "عقيدة غيراسيموف" هي عبارة عن ملخص موجز لوجهات النظر الرسمية لروسيا حول مزيج من وسائل الحرب غير العسكرية والعسكرية.

يذكر أن "عقيدة بريماكوف" تقوم على أولوية روسيا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي، والسعي لتحقيق تكامل أوثق بين جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة وروسيا، ومعارضة توسّع "الناتو"، وبذل الجهود لإضعاف المؤسسات عبر الأطلسي والنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، والشراكة مع الصين. وهذا ما يشكل ركائز السياسة الخارجية الروسية اليوم.

من جهته، كتب الباحث العسكري السوفييتي البارز ألكسندر سفيشين، في أحد تعليقاته، أنه "من الصعب للغاية التنبؤ بظروف الحرب. من الضروري تحديد خط معيّن للمسار الاستراتيجي لكل حرب. كل حرب هي حالة فريدة من نوعها، تتطلب إنشاء منطق معيّن وليس تطبيق قالب ما".

وهذا النهج لا يزال صحيحاً. تقدم كل حرب نفسها كحالة فريدة تتطلب فهم منطقها الخاص وتفردها. هذا هو السبب في صعوبة التنبؤ بطبيعة الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، حيث تبدو كل النظريات في أكاديمية العلوم العسكرية لا قيمة لها، إذا لم تكن النظرية العسكرية مدعومة بوظيفة التنبؤ.

سمات الحرب الروسية الحالية على أوكرانيا

والسمات المميزة للحرب في أوكرانيا اليوم، حسب البيانات الروسية، هي الاستخدام المكثف للأسلحة الدقيقة وأنواع أخرى من الأسلحة الجديدة، بما في ذلك تكنولوجيا الروبوتات.

ويبدو أن الأولوية هي لتدمير الأهداف الاقتصادية ونظام سيطرة الدولة، بالإضافة إلى المجالات التقليدية للأعمال المسلحة، وكل ذلك مقرون بالخبرة القتالية المكتسبة في سورية.

وحسب تقديرات عسكرية غربية، فإن جميع قادة القوات الروسية في المناطق العسكرية وجيوش الأسلحة المشتركة وجيوش القوات الجوية والدفاع الجوي وجميع قادة الفرق تقريباً، وأكثر من نصف قادة الأسلحة وقادة الأفواج وطواقمها، كوّنوا خبرة قتالية في سورية.
هذا فضلاً عن تجريب أكثر من 320 سلاحاً، حسب تصريحات شويغو في يوليو/ تموز الماضي، والذي قال "نحن نمتلك مثل هذه الأسلحة اليوم بفضل العملية في سورية".

واليوم، يتعامل المتخصصون العسكريون الأفراد مع الصراع العسكري في سورية على أنه نموذج أولي للجيل الجديد من الحروب.
ولكن تقديرات مسؤولين وخبراء عسكريين غربيين ترى، بعد نحو شهر على غزو أوكرانيا، أن الجيش الروسي يتعثّر ويواجه مقاومة شديدة تهدد بتحويل آمال موسكو في تحقيق نصر سريع إلى حرب طويلة الأمد ومكلفة.

على الرغم من أنه لم يكن ينوي وضع الخطوط العريضة لعقيدة استراتيجية جديدة لروسيا، إلا أن العديد من الموضوعات التي انعكست في مقال غيراسيموف تجلت في تشابه مذهل أثناء احتلال شبه جزيرة القرم وأيضاً الصراع اللاحق شرقي أوكرانيا في عام 2014.

 

 

المساهمون