صدمت عمليّة طوفان الأقصى سلطات الاحتلال، كما صدمت الجميع، وضربت مبرّر وجود كيانه الاستعماري، المتمثّل في توفير الأمن والسّلام ليهود العالم. الإنجاز الأعظم لهذه العمليّة، هو كسرها لثقة المجتمع الصّهيوني بمؤسّساته الأمنيّة، والعسكريّة، والسّياسية، ما تسبّب بأزمةٍ وجوديّةٍ للكيان، لم يختبر مثلها من قبل. أمّا شركاء الاحتلال، فقد وضعتهم هذه العمليّة الفدائيّة في ورطةٍ، وقلبت حسابات العالم، الذي يشهد أصلًا تخبّطًا وتحوّلاتٍ عميقةً منذ سنواتٍ. في هذا المقال، يحاول الكاتب توضيح بعض جوانب التّداعيات العالميّة لهذه العمليّة التّاريخيّة، رغم أنّ الأحداث ما زالت تتطوّر وتتفاعل مع استمرار المعركة في غزّة، ما يُبقي هذه التّداعيات مفتوحةً على سيناريوهاتٍ عدّةٍ، في المنطقة والعالم.
فوجئ الكثيرون من مدى شراكة الإدارة الأميركيّة في حرب الإبادة البشعة في غزّة، عبر دعمها عسكريًّا وتغطيتها سياسيًّا. لقد هزّت عمليّة المقاومة الفلسطينيّة أركان نفوذ أميركا الإمبريالي في المنطقة، وعطّلت مشاريعها الاقتصاديّة، كذلك أثبتت مشاركتها في الإجرام، أن لا علاقة لمشاريعها بـ "ازدهار المنطقة وشعوبها"، بل تبيّن لنا جميعًا، بأنّها تحتقر إنسانيّتنا ودولنا، وحتّى حقّ أطفالنا في الحياة. لقد ظهر لنا أنّ أميركا لا تريد من مشاريعها سوى نهب المنطقة، وفرض هيمنتها الإمبرياليّة علينا، من خلال إخضاعنا لحليفتها وأداتها الاستعماريّة، التي توّظفها للقضاء على قوى التّحرّر فينا.
الرّعاية الأميركيّة للتّجريف العرقي في غزّة، تشجّع الحكومة المتطرّفة في "إسرائيل"، على تسريع سياسة تهجير الفلسطينيّين في غزّة والضّفّة إلى مصر والأردن. ما يتسبّب بشرخٍ في علاقةِ أميركا مع دول المنطقة، التي تَعتبر ما يجري تهديدًا لاستقرارها يدفعها نحو الجحيم. تُجاهد أميركا لاحتواء هذه التّداعيات، أملًا بالتّقليل من الأضرار التي ستكون لصالح الصّين وروسيا، اللّتين تسعيان إلى الاستفادة من الصّراع، في هذه السّاحة الضّروريّة استراتيجيًّا للهيمنة على العالم. لكن الأكيد هو أنّ ما لا يمكن لأميركا إصلاحه في المدى المتوسّط على الأقلّ، هو علاقتها مع شعوب المنطقة. لقد بنت الفاشيّة الأميركية سورًا كبيرًا بينها وبين شعوبنا، يحتاج هدمه إلى عقودٍ.
من الحسابات التي تشغل بال الإدارة الأميركيّة تأثير حرب الإبادة؛ التي تخوضها بالوكالة، على تماسك مؤسّسات دولتها، التي شهدت بعض الاستقالات والاحتجاجات، بالإضافة لانقساماتٍ واحتجاجاتٍ في وسط جيل الحزب الدّيمقراطي الجديد، وانفجار الرّأي العامّ المتصاعد رفضًا للحرب. كلّها أمورٌ تهدّد فرص نجاح جو بايدن، وحزبه في الانتخابات القادمة قريبًا. ناهيك طبعًا عن صورتها، وعلاقاتها العالميّة، وهي التي تأذّت كثيرًا في مقابل خصومها، الذين انتهزوا الفرصة للتّشهير بأميركا أخلاقيًّا، وفضحها سياسيًّا، أمام العالم.
تختزل القضيّة الفلسطينيّة الطّبيعة الفاشيّة للنّظام الدّولي، بفضل مقاومة شعبنا وتضحياته، كما بدأت شعوب العالم، وقواه المناضلة من أجل العدالة والسّلام، في رؤية هذه الطّبيعة الفاشيّة
أتت عمليّة المقاومة في وقتٍ يعيش فيه العالم حالةً من الصّراع، والتّحوّل من نظامٍ مهيمنٍ عليه أميركيًا، إلى آخرٍ تتقاسم أميركا الهيمنة عليه مع قوىً أخرى، على رأسها روسيا والصّين. لقد أربكت العمليّة حسابات حرب أميركا بالوكالة مع روسيا في أوكرانيا، التي يدفع شعبها هو الآخر فاتورة الصّراع الهمجي للقوى العالميّة. إذ سيكون من الصّعب على أميركا وحلفائها تحمّل أعباء حربين بهذا الحجم، خصوصًا لو اتّسعت الحرب في منطقتنا، ما دعا أميركا لرسم خطٍ أحمر منذ بداية الأحداث، ببوارجها العسكريّة قبالة سواحل لبنان، لردع حزب الله، وفي بحر العرب لردع إيران. لذلك، وبغض النّظر عن تصريحاتها العلنيّة، فإنّ من مصلحة روسيا إغراق أميركا في مستنقع غزّة، كما هو الحال مع الصّين التي تنتهز كعادتها، أيّ فرصةٍ لممارسة ابتزازها السّياسي، وربّما تنفيذ طموحها في "احتلال تايوان"، كما تقول أميركا وحلفاؤها، أو "إعادة توحيد الصّين"، كما تقول الصين وأصدقاؤها.
كما على المستوى الرّسمي، تتصاعد الاحتجاجات الشّعبيّة في العالم، مُطالبةً بوقف الحرب، ومندّدةً بجرائم الاحتلال وبمشارَكة أميركا فيها، وبتقاعس مؤسّسات "المجتمع" الدّولي. هناك استقطابٌ عالميٌ حادٌ وغير عادي، بين نخبةٍ دوليّةٍ تسيطر على مؤسّسات العالم، ومعظم ثرواته، منخرطةٍ بشكلٍ أو بآخرٍ في منظومة الإمبرياليّة الأميركيّة، تقف جميعها في صفٍ، في حين يقف بقيّة العالم بأسره؛ المصدوم من التّدمير الهستيري، في صفٍ آخرٍ. لقد انفضحت طبيعة النّظام العالمي، الذي يدّعي نشر الدّيمقراطيّة، والدّفاع عن حقوق الإنسان، كما سقطت صدقيّة منظومة "العمل الدّولي المشترك"، وأثبتت أنّها أداةٌ إمبرياليّةٌ.
تختزل القضيّة الفلسطينيّة الطّبيعة الفاشيّة للنّظام الدّولي، بفضل مقاومة شعبنا وتضحياته، كما بدأت شعوب العالم، وقواه المناضلة من أجل العدالة والسّلام، في رؤية هذه الطّبيعة الفاشيّة، وأدركت تشابك قضيّة فلسطين مع قضاياها المختلفة، ضدّ نفس الفاشيّة، والعنصريّة، والاستغلال الطّبقي الذي تتعرّض له. لم يغب عن وعي الشّعوب إرث هذه المنظومة الموغل في اضطهاد شعوب أفريقيا، وآسيا، والقارّة الأميركيّة، وأوروبا التي عانت شعوبها، بمن فيهم اليهود، لعقودٍ من الحروب الهمجيّة. هذا الرّبط الذي بدأ بالانتشار في الوعي البشري، يؤسّس لمرحلةٍ جديدةٍ من صراع الشّعوب لنيل حقوقها، ويضعها في تحالفٍ طبيعيٍ مع الشّعب الفلسطيني، الذي هو لمرّةٍ أخرى، رأس حربة نضال شعوب المنطقة والعالم، ضدّ هذه المنظومة الفاسدة، الذي فضح فاشيّتها، وجعل سياسيّيها يقفون عراةً أمام شعوبهم.
بدأ هذا الوعي العالمي؛ الذي يتطوّر، يدرك أنّ قيم المنظومة الرّأسماليّة مزيّفةٌ، وأنّها في سعيها للهيمنة والرّبح، تعمل على تدمير حضارتنا، وتهدّد استمرار جنسنا البشريّ، الذي أفقرته هذه المنظومة وجوّعته وقهرته، بل وتسحق بيئته الطّبيعيّة. تعميق هذا الوعي الثّوري، هو خطوةٌ ضروريّةٌ لوقف التّدهور العالمي، وتحرير الأرض والإنسان من هذه الهمجيّة. أحرار العالم؛ كما تخاطبهم المقاومة، مُطالبون بتجذير ساحات النّضال وتوحيدها دفاعًا عن كرامتنا الإنسانيّة، وقضايانا العادلة، فالحدود ترابٌ، والنّضال واحدٌ.