ما تشهده الولايات المتحدة الأميركية، اليوم، وما تكشّف عما شهدته في الأيام الأخيرة من رئاسة دونالد ترامب، بالكاد يحصل في بعض دول العالم الثالث وليس كلها، ومنه لا يحصل حتى في مثل هذه البلدان.
أمور تثير الاستغراب بقدر ما حرّكت مخاوف المعنيين والمسؤولين لما تنطوي عليه من تهديدات غير مسبوقة، خاصة أن فصولها لم تنته بعد. ففي بلد العلم، تجري محاربة هذا الأخير نكاية بالخصم لحرمانه من قطف ثماره السياسية.
وفي الولايات المتحدة التي تعتبر الانتخابات جوهر ديمقراطيتها، تتسارع المحاولات في عدة ولايات لوضع قواعد وسنّ تشريعات تكفل تعليب النتائج وضمان فوز حزب معيّن، بصرف النظر عمّا تأتي به صناديق الاقتراع.
والأخطر بالنسبة للأميركيين أنه في بلد الدستور الذي لم تعرف تجربته الانقلابات العسكرية، جرت محاولة من هذا النوع قبل أشهر وكادت أن تنقل بلادهم من جمهورية إلى "رايشتاغ" على حد تعبير رئيس هيئة الأركان الجنرال ميلي. وعلى كل هذه الجبهات تدور معارك طاحنة، تحركها كيدية سياسية مندفعة في حرب كسر عظم لتحديد هوية الولايات المتحدة ولونها.
على الصعيد الصحي، رغم عودة فيروس كورونا عبر متحول "دلتا" وبقوة في بعض الولايات حيث بات يشكل 20% من الإصابات، ما زالت معاندة الرافضين للتلقيح على حالها. 99% من وفيات كوفيد - 19، في الأيام الأخيرة، من غير الملقحين. الإصابات اليومية هبطت إلى تحت الأربعين ألفاً بفضل التطعيم.
مع ذلك، ما زال حوالي 27 – 30% من الأميركيين يمانعون اللقاح، ليس من باب التشكيك في سلامته بل في معظم الحالات بتأثير للحملة السياسية ــ الإعلامية التي يقوم بها اليمين وإعلامه الموالي للرئيس السابق دونالد ترامب لحمل جمهور المحافظين على رفضه.
الحملة تسخّف المناعة المكتسبة، وتعمل على تصوير دعوة الرئيس الديمقراطي جو بايدن للإقبال على التطعيم بأنها مجرد عملية إكراه وإجبار الناس على القيام بما لا يرغبون به. الغرض تعزيز الرفض وبما يفاقم الجائحة وبالتالي إفشال دعوة بايدن وحرمانه من جني ثمار إلحاحه على التطعيم، على أن يترجم ذلك في هبوط رصيده الانتخابي.
بالنسبة للعملية الانتخابية، تقوم الولايات التي يسيطر عليها حاكم جمهوري وكونغرس بأكثرية من حزبه ـ وهي الغالبةـ بسن قوانين تؤدي إلى تصعيب شروط الاقتراع لناحية كيفية ووقت وطريقة ممارسة هذا الحق الدستوري، معظمها مصمم بشكل من شأنه إبعاد الأقليات عن صندوق الاقتراع بسبب التضييق على السبل التي كانت متاحة للإدلاء بالأصوات بالشكل الذي يلائم الناخب، سواء من خلال الاقتراع بالبريد أو في وقت مسبق، أو خلال عطلة الأسبوع وغير ذلك.
لكن أخطر ما في هذه القوانين التي تسنها هذه الولايات أن القرار الأخير بتحديد نتائج الاقتراع يقرره كونغرس الولاية، لو نشأ حولها نزاع كما حصل في الانتخابات الأخيرة. وبما أن غالبية الولايات الحاسمة يسيطر عليها الجمهوريون، عندئذ تصبح النتائج مضمونة مسبقا لصالحهم.
في ولاية تكساس، غادر النواب الديمقراطيون الولاية ليمنعوا التئام النصاب الذي يضمن تصويت الجمهوريين على مثل هذا التشريع. أتوا إلى واشنطن للسعي مع الكونغرس لسن قانون فيدرالي يحبط مساعي الولايات الجمهورية للتحكم في البت بنتائج الانتخابات، لكن سعيهم حتى الآن محكوم بالفشل لأن إقرار قانون من هذا النوع يتطلب موافقة 60 سناتوراً أي عشرة من الجمهوريين إلى جانب الديمقراطيين. وهذا متعذر حتى الآن برغم نزول البيت الأبيض بثقله لصالح هذا المشروع. وبهذا وفي حال فشل إحباط قوانين الولايات، تصبح تشريعات هذه الأخيرة وصفة جاهزة لمشكلة كبيرة وخطيرة في انتخابات الكونغرس في 2022 والرئاسة في 2024.
الأخطر من هذا كله ما سمعه الأميركيون في اليومين الأخيرين عمّا جاء في كتاب جديد للمؤلف مايكل باندر بعنوان "انهيار"، احتوى على اقتباسات منسوبة لرئيس هيئة أركان القوات المسلحة الجنرال مارك ميلي، خلال الأيام الأخيرة من رئاسة ترامب.
يروي الكتاب أن المسؤول العسكري الأول أبدى خشيته من أن تكون تلك الفترة "لحظة رايشتاغ" أميركية، كالتي جاءت مع قدوم أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا.
ونسب إليه قوله إنه "شبّه أنصار ترامب الذين اجتاحوا الكونغرس بمليشيا هتلر"، معرباً عن خشيته من نية الرئيس اللجوء إلى انقلاب والتشبث بالسلطة وعدم المغادرة.
وأفصح بأن النية العسكرية كانت في تلك الأيام الحرجة، بأن لا يطيع الجيش أوامر الرئيس فيما لو جاءت في هذا الاتجاه.
أجواء البنتاغون غير المؤاتية ربما ساهمت في اقتناع ترامب بصرف النظر عن مثل هذه المخاطرة. لكن مجرد أن تكون فكرة الانقلاب واردة لدى الرئيس الأميركي بصورة جدية، كانت كافية لإثارة الهواجس والمخاوف من الأخطار التي تهدد النظام والتي كادت أن تنتهي بانفجار واسع ومجهول العواقب لو نجحت غزوة الكونغرس في 6 يناير/كانون الثاني الماضي في قلب نتائج الانتخابات.
والمقلق لكافة الجهات المعنية أن خطاب "سرقوا الانتخابات" الترامبي ما زال ساري المفعول في أوساط المحافظين الموالين له، والذين تردد أوساطهم أنهم يعملون "لإعادة تنصيب" ترامب في الرئاسة خلال أغسطس/آب القادم.
تاريخياً، العوارض الثلاثة كانت من بين الممنوعات الأميركية المتوافق عليها. أميركا عرفت الانفصال الذي أدى إلى حرب أهلية، لكنها لم تعرف الانقلابات العسكرية، ولا حتى الإعداد لها. كما لم يسبق أن شهدت توظيف الموجبات الطبية الوطنية الطارئة لصالح الحسابات الانتخابية، ولا التلاعب إلى هذا الحد بحق الاقتراع المكفول بالدستور والقوانين. الخروج عن السائد والمتعارف عليه في هذه الأمور، يطرح علامات استفهام كبيرة حول المستقبل الأميركي.