عامٌ من إبادة غزة... ومحاكمة إسرائيل لم تبدأ بعد

08 أكتوبر 2024
جلسة للمحكمة الجنائية الدولية، 19 يوليو 2024 (نيك غامون/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في 7 أكتوبر 2023، شنت إسرائيل تصعيدًا عسكريًا في غزة، متجاهلة القانون الدولي، وتسعى لتجنب الملاحقة القانونية عبر استراتيجيات علنية وسرية، مستفيدة من تجارب سابقة.

- كشفت تقارير عن دور الموساد في تعطيل تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية، مع ضغوط أمريكية لحماية المسؤولين الإسرائيليين من الملاحقة القانونية.

- رغم الجهود القانونية الدولية، تستمر إسرائيل في سياساتها تجاه غزة والضفة الغربية بدعم أمريكي وغربي، بينما يحقق الفلسطينيون نجاحات قانونية تتطلب دعمًا سياسيًا دوليًا.

فاق الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصور وحسابات الجميع، مع تسجيل جيش الاحتلال أبشع الصور في إبادة غزة الجماعية. لم تحترم إسرائيل في السابق القانون الدولي، ومن الواضح أنها لن تحترمه في المستقبل القريب. مع ذلك، تحسب المؤسسة الإسرائيلية وقادتها حسابات الملاحقة في المحاكم الدولية ويعملون للحيلولة دون ذلك بكافة الطرق الممكنة علناً وسراً. بدأت مساعي محاكمة إسرائيل بسبب سياسات الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني أمام المحاكم الدولية قبل سنوات عديدة، من قبل مؤسسات حقوقية فلسطينية ودولية، وكان الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية عام 2004، حول جدار الفصل العنصري، أول النجاحات للفلسطينيين في استخدام أدوات القانون الدولي لملاحقة الاحتلال الإسرائيلي. وعلى الرغم من أهمية القرار ومخرجاته القانونية، لم يفض ذلك إلى تفكيك الجدار كما قالت المحكمة، بل توغل الجدار والاستيطان بوتيرة غير مسبوقة بهدف منع قيام دولة فلسطينية وضم أراض من الضفة الغربية المحتلة لإسرائيل.

تقارير ضد إسرائيل

وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية الأولى على قطاع غزة بين عامي 2008 و2009، برز تقرير للمحقق الدولي، ريتشارد غولدستون، ناهز عشرة آلاف صفحة، وخلص إلى أن إسرائيل خالفت الفصل 13 من القانون الدولي الإنساني، إضافة إلى انتهاك سلطات الاحتلال اتفاقية جنيف الرابعة. غير أن السلطة الفلسطينية قررت بعد ضغوط أميركية وإسرائيلية رضخت لها، إرجاء البت والتصويت على توصيات التقرير أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف. تعلمت إسرائيل الدرس من غولدستون في حروبها التالية على غزة، وبدأت تستبق كل محاولات التحقيق الدولي بجرائمها، كما فعلت مع مساعي لجنة وليام شاباس للتحقيق في الحرب على غزة عام 2014، من خلال اختيار يوسف شابيرا، مراقب الدولة في إسرائيل، لفتح تحقيق مع المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين بشأن مجزرتي الشجاعية ورفح، تجنباً واستباقاً لتقرير وليام شاباس، الذي استقال من منصبه لاحقاً بعد حملة إسرائيلية ضده.


تطرقت تقارير دولية عدة إلى جرائم الحرب الإسرائيلية

وكان اختيار إسرائيل لرئيس المحكمة العليا الإسرائيلية السابق، أهارون باراك، لرئاسة الطاقم القانوني في محكمة العدل الدولية مطلع العام الحالي، للدفاع عن تهم جنوب أفريقيا بحق إسرائيل في ارتكاب إبادة جماعية في غزة، رسالة مفادها بأن لإسرائيل نظاما قضائيا مستقلا ونزيها وديمقراطيا، يمكنه أن يقوم بأي تحقيق في أي جرائم مزعومة. وهي نقطة طرحها الوفد الإسرائيلي في معرض دفاعه، وطُرحت من دول دافعت عن إسرائيل في نفس المحكمة في قضية أخرى، وهي قضية الرأي الاستشاري حول العواقب القانونية للاحتلال الإسرائيلي.

وباراك هو وجه إسرائيل "الليبرالي" الذي قام بالثورة الدستورية في بداية سنوات التسعينيات والتي تُدرّس في أقسام القانون في جامعات بارزة حول العالم. لكن باراك اختار الاستقالة لاحقاً من الطاقم الإسرائيلي في لاهاي لأسباب شخصية كما قال، وسط ترجيحات بأنه اختار ألا يرتبط اسمه في نهاية مشواره المهني بالدفاع عن جرائم الحرب الإسرائيلية ومنها إبادة غزة التي لم يعد يمكن إخفاؤها. وقاد باراك التوجه الإسرائيلي القائل إن إسرائيل يجب أن تشارك في محكمة العدل الدولية كونها جزءا من الأسرة الدولية ووقعت على اتفاق روما، وأن تدافع عن نفسها هناك بالطرق القانونية. في المقابل، لم يتوقف العديد من السياسيين الإسرائيليين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن مهاجمة المؤسسات الأممية الدولية، ومحاولة اتهامها بالعداء للسامية بسبب سعيها إلى التحقيق بجرائم الاحتلال. لكن المستجد الذي كُشف عنه في العام الحالي، هو دخول المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على خط التصدي الإسرائيلي للمحاكم الدولية.

وجاء الكشف عن دور الموساد في تحقيق استقصائي لصحيفة ذا غارديان البريطانية، في مايو/أيار الماضي، ليظهر كيف شنت إسرائيل حرباً سرية دامت قرابة عقد على المحكمة الجنائية الدولية، عن طريق وكالات الاستخبارات الخاصة بها لمراقبة وقرصنة وتشويه وتهديد كبار موظفي المحكمة الجنائية الدولية، والضغط عليهم، في محاولة لتعطيل تحقيقات المحكم، التي شملت المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا التي بدأت العمل على فلسطين عام 2015، والمدعي العام الحالي كريم خان الذي يقود إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة بنيامين نتنياهو ووزير الأمن يوآف غالانت بسبب مساهمتهما في إبادة غزة منذ أكتوبر 2023.

تصدّي الاحتلال للمحاكم الدولية

لم تقتصر عمليات التجسس على المحكمة الجنائية الدولية على جهة أمنية إسرائيلية واحدة، بل شملت إشرافاً من مستشارين للأمن القومي، وجهوداً لوكالة المخابرات (الشاباك)، وكذلك مديرية الاستخبارات العسكرية (أمان)، وقسم الاستخبارات السيبرانية (وحدة 8200). وجرت مشاركة المعلومات الاستخباراتية المستخلصة من الاعتراضات مع وزارات الحكومة للعدل والشؤون الخارجية والشؤون الاستراتيجية. وتجندت كافة المؤسسات الإسرائيلية في التصدي للمحاكم الدولية، مع ممارسة الولايات المتحدة ضغوطاً هائلة من أجل ذلك أيضاً، وهو ما أشار له مدعي عام المحكمة الجنائية كريم خان في أكثر من تصريح صحافي في الأشهر الأخيرة، من دون أن يسمي الولايات المتحدة مباشرة، لكن تحركات الولايات المتحدة تفشي ذلك، وقد وصلت إلى حد تهديد عمل المحكمة الجنائية الدولية وفرض عقوبات عليها. وأعلن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في شهر مايو الماضي، أنه سيعمل مع المشرعين الأميركيين لبحث إمكانية فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن كشف كريم خان أنه يسعى لإصدار أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين كبار. وتجند الحزب الجمهوري والعديد من السياسيين في الحزب الديمقراطي للدفاع عن إسرائيل في هذا الشأن.


لم تقتصر عمليات التجسس على المحكمة الجنائية الدولية على جهة أمنية إسرائيلية واحدة

وحتى الآن، لم يُصدر قضاة الجنائية الدولية موافقة على طلب كريم خان باستصدار مذكرات الاعتقال التي طلبها، والتي شملت أيضاً القادة في حركة حماس، وهم رئيس المكتب في الحركة يحيى السنوار، وقائد كتائب القسام محمد الضيف، ورئيس المكتب السياسي لحماس المغتال إسماعيل هنية. ولا يُعرف كم من الوقت سيحتاج الأمر لصدور القرار الذي سيشير إلى وجود تهم معقولة وأساس جدي لتقديم لائحة اتهام بحق الشخصيات المذكورة، وأن سبب الاعتقال أو الدعوة للتحقيق هو منع استمرار المتهم من تنفيذ الجريمة، وأيضاً لضمان عدم المس بالبيانات المتعلقة بالقضية، كما يحق للمتهم الاستئناف.

أما في محكمة العدل الدولية، المتخصصة في مقاضاة الدول وليس الأشخاص كما في الجنائية الدولية، فقد كان لتوجه جنوب أفريقيا للعدل الدولية، ولاحقاً انضمام دول أخرى للطلب، أثر بالغ على الصعيد الدولي، بعد إصدار المحكمة للتدابير المؤقتة، وهو ما يعني إمكانية محاكمة إسرائيل بتهم الإبادة الجماعية الأمر الذي سيحتاج سنوات. واعتبر القرار بالنسبة لحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني في الغرب، وسيلة حماية لنشاطهم أمام أي ملاحقات وتضييق من قبل حكوماتهم، وتعزيزاً لسردية ضرورة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، بعد أن أصبحت جرائم إسرائيل مطروحة في أعلى هيئة قضائية دولية. وأمام جنوب أفريقيا مهلة حتى 28 أكتوبر الحالي لتقديم الأدلة إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لمواصلة الدعوى التي رفعتها ضد إسرائيل بسبب انتهاكات اتفاقية منع الإبادة الجماعية خلال إبادة غزة أخيراً. وهو ما ستقوم به رغم التحديات والضغوطات عليها لثنيها عن ذلك، وهي ضغوط إسرائيلية تسعى لها من خلال الكونغرس مفادها أن هناك عواقب وخيمة لمواصلة الإجراءات القضائية ضد إسرائيل قد تطاول جنوب أفريقيا.

سياسة إبادة غزة

على الأرض، لم تدفع تحركات الجنائية الدولية والعدل الدولية قادة الحكومة الإسرائيلية لتغيير سياسات إبادة غزة وجرائم الحرب وانتهاكات الضفة الغربية أو احترام القانون الدولي، على العكس تماماً، استمرت إسرائيل بنفس السياسات والمجازر وفق تقارير حقوقية عديدة. كما أن إبادة غزة قد تتكرر في لبنان قريباً بحسب العديد من المراقبين. ويبدو أن الدعم الأميركي وعدد من الدول الغربية هو الذي يُشجع نتنياهو على عدم الاكتراث، وإن كان "مهووساً وقلقاً" بالملاحقة القضائية الدولية بحسب ما نشرته وسائل إعلام إسرائيلية، ولعل هذا ما يبرر محاولة نتنياهو الشهر الماضي دفع المستشارة القضائية الإسرائيلية غالي بهراف ميارا، إلى فتح "تحقيق جنائي صوري" وإغلاقه، للاحتيال على المحكمة الجنائية الدولية لمنع إصدار مذكرات اعتقال ضده وضد غالانت. وفي حال صدرت مذكرات الاعتقال، فهذا مسار سيحتاج سنوات أيضاً وليس من المضمون تحقق العدالة في ظل موازين القوى التي تميل إلى إسرائيل. وكان للفلسطينيين هذا العام أيضاً نجاح آخر في العدل الدولية التي أصدرت رأياً قانونياً هاماً بعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي للمناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، وكل ممارساته ومحاولاته لضم الأراضي وخلق واقع استيطاني يمنع من قيام دولة فلسطينية. هذا القرار الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحاجة لجهات سياسية فاعلة على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي، للعمل من أجل الضغط على الدول بإنهاء التواطؤ مع الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.