طموحات روسيا الأفريقية: أحلام وأوهام العودة إلى قارة السوفييت المحببة

05 مارس 2023
لافروف في مالي، 7 فبراير الماضي (فاتوما كوليبالي/رويترز)
+ الخط -

منذ بداية حربها على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، زادت روسيا من نشاطها الدبلوماسي في مناطق عدة في العالم. وأبدى الكرملين اهتماماً كبيراً بالقارة الأفريقية، التي كرس لها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ثلاث جولات منذ الصيف الماضي، من ضمنها جولتان في الشهرين الماضيين. ووصل عدد البلدان التي زارها لافروف في جولاته الثلاث إلى 15 دولة، لم تقتصر على حلفاء موسكو التقليديين، بل شملت جغرافياً جميع مناطق القارة في الشمال والجنوب والشرق والغرب.

ازدواجية روسية

وفي حين سعت موسكو إلى الترويج لروايتها حول الحرب في أوكرانيا وتشبيهها بالحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، أي سنوات خوض روسيا الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) ضد ألمانيا النازية، ربطت تصريحات المسؤولين الروس التقارب مع أفريقيا بمحاولات الكرملين إفشال مخططات "الغرب الجماعي" لتدمير روسيا ومحاصرتها، وسعي أفريقيا إلى التحرر من "الاستعمار الجديد"، ما يضع الطرفين في جبهة واحدة لبناء نظام عالمي جديد أكثر عدلاً.

كما حدث في حقبة الحرب الباردة (1947 ـ 1991) حين ساعدت روسيا كثيراً من البلدان الأفريقية على الاستقلال من الاستعمار القديم، ودعمتها سياسياً واقتصادياً وتقنياً، وساعدت كثيراً منها على بناء مؤسسات الدولة، وإعداد الكوادر العلمية، وتسليح جيوشها بمختلف صنوف الأسلحة.

روسيا تنطلق من أن بلداناً عدة لم تدعم مشاريع القرارات لإدانة حربها على أوكرانيا

وعلى الرغم من أن ممارسات روسيا في أوكرانيا منذ ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، وتشجيع الانفصاليين في إقليمي دونيتسك ولوغانسك منذ ربيع العام نفسه على مواجهة كييف، لا تختلف كثيراً عن ممارسات المستعمرين الأوروبيين في القرن الماضي، فإن موسكو تنطلق من أن جميع البلدان التي لم تدعم مشاريع القرارات الغربية في الأمم المتحدة لإدانة حرب روسيا على أوكرانيا بالتصويت الصريح ضد القرارات، أو الامتناع عن التصويت أو التغيب عن الجلسات، تدخل في إطار الدول الساعية لتغيير النظام العالمي الحالي، وتدعم الجهود الروسية لبناء عالم جديد "أكثر عدلاً وتوازناً".

ومن الملاحظ تجاهل المسؤولين الروس حقيقة أن روسيا لا تملك قدرات الاتحاد السوفييتي السابق اقتصادياً وعسكرياً وتقنياً، وأن علاقات موسكو الجديدة لا تعتمد على الأيديولوجيا بل على المصالح المشتركة. وهو ما يطرح أسئلة حول قدرة روسيا على تقديم ما تحتاجه القارة السمراء اقتصادياً وتقنياً، وإمكانية منافسة الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أو حتى تركيا.

وبالتالي، يقود ذلك إلى التساؤل عن الأهداف الحقيقية للانفتاح الروسي على أفريقيا، وهل ينضوي في إطار استراتيجية شاملة أم مجرد "أوهام" للتسويق الداخلي، ومحاولات لإيهام الغرب بأن روسيا قادرة على تجميع جبهة عالمية وبناء تحالفات متينة مع بلدان الجنوب؟

قواعد عسكرية وتعاون ضد الإرهاب

تنوعت مواضيع البحث في جولتي لافروف الأخيرتين (23-26 يناير/ كانون الثاني و7-9 فبراير/ شباط الماضيين)، واختلفت أجندتاهما عن جولة يوليو/ تموز 2022، حين زار لافروف مصر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وإثيوبيا.

تقارير دولية
التحديثات الحية

وركز على ضرورة محاربة "الاستعمار الغربي" في الأمن الغذائي وأمن الطاقة، ومشاركة روسيا في مشروعات البنى التحتية. وفي جولتي لافروف في العام الحالي، اكتسب التعاون العسكري ومحاربة الإرهاب أهمية أكبر، خصوصاً في جنوب أفريقيا التي استضافت شواطئها مناورات عسكرية بحرية مع الصين وروسيا بمشاركة الفرقاطة "الأدميرال غورشكوف" المزودة بصواريخ "تسيركون" فرط الصوتية. وفي السودان، أكد لافروف أن بناء القاعدة البحرية في بورتسودان سينطلق قريباً بعد انتهاء مرحلة التصديق عليه.

وفي إريتريا، أكد لافروف استعداد بلاده لتلبية احتياجات أسمرة "في الحفاظ على القدرات الدفاعية" وتطوير التعاون العسكري التقني، ما قد يفتح المجال للتكهن برغبة روسية في إطلاق مفاوضات لبناء قاعدة بحرية روسية ثانية في البحر الأحمر، أقرب إلى مضيق باب المندب.

من تظاهرة داعمة لروسيا في الكونغو الديمقراطية، مارس الحالي (أرسين مبيانا/فرانس برس)
من تظاهرة داعمة لروسيا في عاصمة الكونغو الديمقراطية كينشاسا، مارس الحالي (أرسين مبيانا/فرانس برس)

ومن أنغولا، تعهد لافروف بتوسيع التعاون في مجال التقنيات الفائقة، بعد إشارته إلى مساعدة هيئة الفضاء الروسية "روس كوسموس" أنغولا في إطلاق قمر صناعي في خريف العام الماضي. ومن مالي، امتدح لافروف التعاون الروسي الأفريقي في محاربة الإرهاب، وأشار إلى وجود مقاتلي ومدربي مرتزقة "فاغنر"، وتعهد بمواصلة تزويد باماكو بالأسلحة والمعدات العسكرية.

اتهامات لنسف القمة الروسية الأفريقية

وفي تصريحات لوكالة "تاس" الحكومية نهاية الشهر الماضي، اتهم نائب وزير الخارجية الروسي، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى أفريقيا، ميخائيل بوغدانوف، الولايات المتحدة وحلفاءها بشنّ حملة غير مسبوقة لعزل روسيا سياسياً واقتصادياً، بما في ذلك تعطيل عقد القمة الروسية الأفريقية الثانية المقررة في مدينة سانت بطرسبرغ في يوليو المقبل.

وذكر أن "الغرب الجماعي يزيد بشكل كبير الضغط على الدول الأفريقية، من خلال التهديد بفرض عقوبات ووقف المساعدات المالية والإنسانية"، منذ بداية الحرب في أوكرانيا. واتهم واشنطن بتلفيق الاتهامات ضد بلاده حول تسبّبها بـ"مجاعة مقبلة"، وزيادة أسعار الوقود والحبوب والأسمدة، وتفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في القارة.

ومع تأكيده أن الاستعدادات متواصلة لعقد القمة والتوافق على جدول الأعمال، تجنّب بوغدانوف تحديد عدد الدول التي وافقت بشكل نهائي على المشاركة في القمة الروسية الأفريقية الثانية. وفي إشارة إلى إمكانية ألا تكون المشاركة واسعة، أكد بوغدانوف أن "بلادنا تتمسك بحزم بمبدأ الاختيار الحرّ لمسار التنمية للدول ذات السيادة، ونتلقى تأكيداً للمشاركة في القمة المقبلة من قادة دول القارة، وهذا مؤشر لنا على الدعم المبدئي من كتلة كبيرة من الدول، على الرغم من الضغط الهائل من الغرب".

وأوضح بوغدانوف أن من بين المهام الرئيسية لجولات لافروف الأخيرة في القارة الأفريقية: "الحصول على مقترحات مباشرة من أصدقائنا للقمة، على أن يجرى تحليلها بعناية والأخذ بها"، مشيراً إلى أن العمل على محتوى اجتماع القمة المقبل عمل مشترك للطرفين الروسي والأفريقي لمراعاة مصالح جميع الأطراف.

بوغدانوف: القضيتان الأهم على جدول أعمال القمة الروسية ـ الأفريقية هما الأمن الغذائي وأمن الطاقة

وكشف الدبلوماسي الروسي عن أهم القضايا المطروحة في القمة المقبلة، وذكر أن "المقترحات العديدة للدول الأفريقية تتوافق مع رؤيتنا المفاهيمية للمنتدى المستقبلي. وتعطى الأولوية لنقل التكنولوجيا والخبرة، وتطوير الصناعة والبنية التحتية الحيوية في القارة. من بين أمور أخرى، تجرى مناقشة مشاركة روسيا في مشاريع التصنيع والرقمنة والطاقة والزراعة والتعدين في أفريقيا".

وتابع: "ستكون أهم القضايا على جدول أعمال القمة مشكلة ضمان الأمن الغذائي وأمن الطاقة. وتوافقنا على الموضوعات المذكورة أعلاه لإعطاء دفعة قوية للتعاون الروسي الأفريقي المتكافئ متبادل المنفعة".

العودة إلى قارة السوفييت المحببة

منذ صعوده إلى الحكم، عمل الرئيس فلاديمير بوتين على إعادة بناء علاقات بلاده مع البلدان التي كانت حليفة للاتحاد السوفييتي، ومن ضمنها العلاقات مع القارة الأفريقية، في إطار رؤية تهدف إلى إعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، من خلال استعادة النفوذ الروسي وتوسيعه لتعزيز دور روسيا في النظام العالمي كدولة عظمى. ومن هذه الزاوية، تبرز أهمية أفريقيا من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية.

واللافت أن الأدوات التي تستخدمها روسيا لإعادة بناء علاقاتها مع الدول الأفريقية وتطويرها تحاكي، في الكثير من جوانبها الرئيسية، الأدوات التي استخدمها الاتحاد السوفييتي، سواء في أسس العلاقات السياسية والاقتصادية مع الأنظمة الحليفة أو الصديقة (حينها) أو السعي لامتلاك قوة ناعمة عبر المنح الدراسية ونشر اللغة الروسية وإعداد الكوادر العلمية للتأثير على تلك الدول ومجتمعاتها.

لكن هناك فارقاً جوهرياً هو أن السياسات السوفييتية كانت في إطارها العام ضمن محددات دعم حركات التحرر وتعزيز مرتكزات الاستقلال الوطني والتنمية للدول التي تحررت من الاستعمار، بينما تقوم السياسات الروسية اليوم على براغماتية عالية، لا تقيم أي وزن للقيم التحررية أو الديمقراطية.

ولتنفيذ أجندتها منذ عام 2014، غيّرت موسكو كثيراً من أدواتها، فقد استخدمت مجموعات مرتزقة تحت يافطة ما يصطلح على تسميتها بـ"مجموعات أمن خاصة"، مثل "فاغنر"، التي أصبحت أكثر من عشر دول داخل القارة الأفريقية مرتعاً خصباً لها، منها ليبيا ومالي وتشاد وأفريقيا الوسطى. ومنذ عام 2006، ارتفع مستوى العلاقات في المجالات السياسية والاقتصادية والتعاون العسكري مع دول أفريقية، ثم بعد عام 2014، فتحت موسكو "عصراً جديداً" من التعاون الروسي الأفريقي، عبر تنفيذ مشاريع مشتركة تنهي صفحة تسعينيات القرن الماضي، حين انكفأت روسيا على ذاتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما تلاه من تراجع الاهتمام بحلفاء الأمس.

وارتفع التبادل التجاري بين روسيا والبلدان الأفريقية إلى أعلى مستوى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 2018 مسجلاً 20 مليار دولار، معظمها صادرات أسلحة روسية ومواد غذائية.

ويجب عدم إهمال أن معظم العلاقات الاقتصادية والتجارية تتركز في شمال القارة الأفريقية مع الجزائر ومصر، وعلى الرغم من انضمام جنوب أفريقيا إلى مجموعة "بريكس" (تضم جنوب أفريقيا، البرازيل، الصين، روسيا، الهند) فإن التبادل التجاري بين البلدين ضئيل للغاية. وفي المقابل، فإن الاحصاءات الصينية تشير إلى أن حجم التبادل التجاري مع القارة السمراء تجاوز 200 مليار دولار في 2018، ووصل في عام 2022 إلى مستوى تاريخي عند 282 مليار دولار.

وعلى الرغم من التطور الحاصل، يواجه الطموح الروسي للعودة إلى أفريقيا بقوة، الكثير من العقبات، في مقدمها الافتقار إلى استراتيجية روسية واضحة ومتكاملة، وعدم توافر الروافع المطلوبة للارتقاء بمستوى العلاقات الروسية الأفريقية إلى المستوى المنشود.

ويُضاف إلى ذلك عدم قدرة روسيا على المنافسة مع الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والتعامل مع الخريطة الجيوسياسية المعقّدة للقارة الأفريقية، وحالة الصراعات وعدم الاستقرار التي تعيشها الكثير من بلدانها، ربطاً مع نوعية التحالفات التي تقيمها روسيا مع العديد من الأنظمة.

الأمن والسلاح مقابل الموارد

وساعد وقوع أفريقيا ضحية لارتفاع تكاليف المعيشة والفقر والتضخم، وأخيراً وباء كورونا، في خلق أرضية خصبة لموسكو وفتح المجال لتصدير الأسلحة والتدريب العسكري.

ومنذ ضمّ شبه جزيرة القرم، نشرت روسيا 19 شركة عسكرية خاصة، بما في ذلك "فاغنر"، في الدول الأفريقية، لتوفير الأمن مقابل الوصول إلى الموارد في واحدة من "أسرع الأسواق نمواً في العالم".

وحسب "معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، شكّلت الأسلحة ما نسبته 49 في المائة من أجمالي الصادرات الروسية للقارة الأفريقية ما بين عامي 2015 و2019. وبلغت قيمة صادرات الأسلحة في تلك الفترة 15 مليار دولار، وعليه، تضاعفت بمقدار 3 مرات عن حجم الصادرات ما بين عامي 2000 و2004، وبزيادة قدرها 5 مليارات دولار عن الفترة ما بين 2010 و2014.

ارتفع التبادل التجاري بين روسيا والبلدان الأفريقية إلى أعلى مستوى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي

وتوظف روسيا حالة عدم الاستقرار التي يعيشها العديد من الدول الأفريقية لزيادة صادرات الأسلحة بمختلف أنواعها، حتى باتت أفريقيا سوقاً رئيسياً لها. وساعد في ذلك اعتماد الكثير من تلك الدول تقليدياً على السلاح السوفييتي، وأن موسكو لا تضع على صفقات الأسلحة أي شروط سياسية، أو شروط تتعلق بعدم انتهاك حقوق الإنسان.

كما أن الأسلحة الروسية تعتبر رخيصة مقارنة بالأسلحة الأميركية والغربية، فضلاً عن تقديم تسهيلات للسداد. وعادة ما تكون إجراءات عقد وتنفيذ الصفقات سريعة من دون المرور بهيئات رقابية وقيود، كما هو الحال في واشنطن وبروكسل. وفي المقابل، لا تركز غالبية الدول الأفريقية المستوردة للسلاح الروسي على وجود تقنيات عالية، وتكتفي عادة بنماذج محدثة من السوفييتية القديمة.

وتنشط شركات روسية كبرى في مجالات استخراج المعادن، مثل البلاتين واليورانيوم والذهب والكوبالت وإنتاج الألمنيوم، واستخراج أحجار الألماس، واستكشاف وإنتاج النفط والغاز واستثماره، وتوليد الطاقة، والصناعة والسكك الحديد والقاطرات، والزراعة والأسمدة والمواد الكيميائية وصيد الأسماك، والجيولوجيا والتكنولوجيا والاتصالات والأمن المعلوماتي، وبناء القدرات وإنشاء مناطق صناعية ومراكز تسوق.

بين قمتين

مثّلت القمة الروسية الأفريقية الأولى، التي عقدت في سوتشي يومي 23 و24 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، بحضور عشرات رؤساء الدول والحكومات الأفريقية، فرصة لروسيا لإظهار اهتمامها بالمصالح المشتركة مع أفريقيا ودفعها للأمام، واتخذت القمة قراراً بتأسيس منتدى شراكة "روسيا - أفريقيا".

وكان لافتاً تركيز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في القمة على التعاون الاقتصادي "من دون تدخل سياسي أو غيره"، وبعيداً عن أي قوالب أيديولوجية. ولا يقتصر الاهتمام الروسي المتزايد بأفريقيا على دوافع اقتصادية، بل يندرج في صلب الأهداف السياسية والاستراتيجية الروسية، إذ تسعى موسكو إلى اجتذاب أفريقيا كشريك رئيسي لها في عالم متعدد الأقطاب. وتعزز هذا النهج تنفيذاً لما أسماه بوتين باستراتيجية "التحوّل" باتجاه آسيا وأفريقيا عقب فرض العقوبات الغربية على بلاده بعد ضمّها شبه جزيرة القرم.

وتولي الدبلوماسية الروسية أهمية خاصة للعلاقات السياسية والدبلوماسية مع أفريقيا في ظروف المواجهة بين روسيا والغرب في المنظمات الدولية، نظراً لأن دول أفريقيا تملك أكثر من ربع الأصوات في منظمة الأمم المتحدة، ما يجعلها جهة سياسية فاعلة على الساحة الدولية.

عقبات أمام التعاون

وبعد عام على غزوها أوكرانيا، بدا واضحاً أن القارة الأفريقية تشغل مكاناً مركزياً في سياسات روسيا الخارجية، مع تراجع نفوذ فرنسا، ورغبة موسكو في استثمار أجواء عودة الحرب الباردة لتقوية مواقعها في القارة السمراء، ومحاولة اللحاق بركب التنافس على موارد القارة الطبيعية وأسواقها.

وكشفت جولات لافروف وتصريحات المسؤولين الروس عن توجّه روسي لتطوير استراتيجية مركّبة في التعاون مع أفريقيا، تنطلق من بناء علاقات معها ككتلة كاملة، ممثلة بالاتحاد الأفريقي، والدفع بمشروعات مشتركة شاملة، وكذلك التنسيق مع المجموعات الإقليمية الأصغر، وإطلاق مشروعات للتعاون في قطاعات محددة، ومن جهة أخرى، تطوير العلاقات الثنائية، وتطوير التعاون مع بلدان جديدة وليس الاقتصار على الدول الحليفة تقليدياً، مثل مصر والجزائر وجنوب أفريقيا.

وعلى الرغم من توجّه روسيا إلى الاستفادة من تجاربها السابقة مع القارة الأفريقية، ونتائج القمة الأولى، وهو ما ظهر في تركيز جولة لافروف الأخيرة على تنسيق أجندة القمة المقبلة مع البلدان المشاركة من أجل خلق انطباع حول الطبيعة المتساوية للعلاقات، واستعداد موسكو للاستماع إلى آراء الشركاء، فإن روسيا تواجه عقبات كبيرة في تطوير علاقاتها، من ضمنها ضعف الإمكانات المالية لتقديم القروض وإطلاق مشروعات ضخمة في البنى التحتية في أفريقيا وضخ استثمارات فيها، في ظروف الحرب والعقوبات الغربية القاسية بعد الحرب.

وإضافة إلى الجهود الغربية لمنع تمكين روسيا في أفريقيا، فإن دعم الكرملين الأنظمة الحليفة له، أو المتعاونة معه، يأتي في مواجهة الثورات والحراكات الشعبية المعارضة، وهي أنظمة ذات طابع قمعي وغير ديمقراطي، ويعرض روسيا لاحتمال خسارة نفوذها في حال نشوب أي اضطرابات تخرج عن نطاق السيطرة.

البلدان الأفريقية على الأرجح لن تخاطر بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة من أجل دعم روسيا غير القادرة عملياً على تقديم القروض والاستثمارات

وفي المجال الاقتصادي، يبقى التأثير الروسي من دون تحقيق هدف شراكة اقتصادية استراتيجية مع أفريقيا، لمحدودية إمكانيات الاقتصاد الروسي بالقياس إلى الاقتصاد الأميركي والأوروبي والصيني، وحجم ومرونة وشروط الاستثمارات التي يمكن أن تضخ من قبل روسيا. بالإضافة إلى الاختلاف في أولويات التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين روسيا والدول الأفريقية.

تواجه الأسلحة الروسية منافسة كبيرة من دول توسع حصتها في السوق الأفريقية، مثل الصين وتركيا والاحتلال الإسرائيلي

وحتى في مجال التسلح والتعاون العسكري الذي يعدّ الأكثر ربحية لروسيا في علاقاتها مع أفريقيا، تواجه الأسلحة الروسية منافسة كبيرة من دول توسع حصتها في السوق الأفريقية، مثل الصين وتركيا والاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وأوروبا. ومع اتساع الفارق تقنياً وتكنولوجيا بين الأسلحة الروسية ونظيراتها، وتطلع الدول الأفريقية إلى تحديث أسلحتها، يمكن أن تفقد روسيا تدريجياً ميزتها كمصدر للسلاح الرخيص من دون شروط أو قيود قانونية.

وتكشف التصريحات الروسية عن العلاقات مع القارة الأوروبية، والجولات الأخيرة للوزير لافروف، عن أن الكرملين بدأ في تغيير قواعد اللعبة لبناء عالم جديد، عبر التعاون مع بلدان الجنوب كبديل عن العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وتوحي التصريحات بأن روسيا باتت قوة كبرى قادرة على التنافس مع القوى الكبرى، وتملك أدوات تأثير كثيرة، ولديها إمكانات تقنية وعسكرية ومالية واقتصادية كما كان الحال في الحقبة السوفييتية.

وبعيداً عن صحة هذه الافتراضات، فإن رهانات موسكو على تفسير حياد معظم البلدان الأفريقية في موضوع الحرب على أوكرانيا بأنه اختراق دبلوماسي كبير يفتح على شراكات عميقة، وبناء محور ضد الغرب، قد تنطوي على مبالغات كثيرة إن لم تكن خاطئة تماماً، فالبلدان الأفريقية على الأرجح لن تخاطر بعلاقاتها مع الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة من أجل دعم روسيا غير القادرة عملياً على تقديم القروض والاستثمارات.

المساهمون