شهر من غزو روسيا لأوكرانيا: وحدة غربية يتهددها انقسام حول عقوبات الطاقة في أوروبا

24 مارس 2022
جنود أوكرانيون بعد جولة من القتال في كييف (Getty)
+ الخط -

منذ أن أطلقت موسكو في 24 فبراير/شباط الماضي ما أسمته "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا، تسارعت وتيرة الاستجابة الغربية، ومعها تسارع أيضا العمل لمحاصرة تأثير موسكو في شقّ الصفوف، وإن كان على المستوى الاقتصادي، في سياق فرض مقاطعة شاملة على روسيا، بما يشمل الطاقة.

في الآثار المباشرة لأسابيع الحرب على مستوى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي تكرر هدف روسيا المعلن بإبعاده عن حدودها، تبدو الأمور على غير ما أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

تعزيز تواجد الناتو 

في دول البلطيق، التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، يمكن ملاحظة عمق المتغيرات التي جلبها الغزو الروسي في أوكرانيا.  

هذه الأيام، وعلى بُعد 140 كيلومترا فقط من الحدود الروسية، قرب مدينة تابا في إستونيا، بات "الناتو" حاضرا بقوة. بريطانيا، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي، تبدو هذه الأيام تلعب دورا محوريا منسقا لجهود الانتشار العسكري الغربي في البلطيق، وبمشاركة الدنمارك وفرنسا والنرويج كجزء من خطة دفاع عن الجناح الشرقي الشمالي للناتو.

على بُعد 140 كيلومترا فقط من الحدود الروسية، قرب مدينة تابا في إستونيا، بات "الناتو" حاضرا بقوة

عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل، تشهد تحركا بالغ الأهمية. فقادة نحو 30 دولة من "الناتو" والاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع، بمن فيهم الرئيس الأميركي جو بايدن، يجتمعون على قضية محورية تتعلق بالاستجابة العملية المتواصلة لغزو أوكرانيا. 

صحيح أن الأرض الأوكرانية، مع دخول الحرب شهرها الثاني اليوم، تشهد ما يشبه "جموداً" في تموضع القوات الروسية، بل، إذا صدقت التقارير، تقهقرًا لخطة عسكرية هدفها كما قال المراقبون "اجتياح خاطف وتعيين حكومة موالية في كييف"، إلا أن الغربيين يدرسون كل الاحتمالات. 

ما يلفت في التطورات الجارية أن السيناريو القائل بأن جنود "الناتو" لن يخوضوا حربا مع روسيا، الذي طرحه خبراء الشؤون الأمنية والعسكرية، ومن بينهم أحد قادة الجيش الدنماركي، الكولونيل بيتر إلس، يوم 24 فبراير/شباط، بات اليوم جزءا من الماضي. 

ونشرت الصحافة في كوبنهاغن، اليوم الخميس، رد إلس على سؤال وجهه أهالي الجنود الدنماركيين الذين أرسلوا بشكل متزايد نحو دول وبحر البلطيق، معتبرا أنه "لا يمكن ضمان ألا ينخرط جنودنا في حرب مع روسيا، فبوتين يتصرف بجنون، ويمكن له أن يهاجم إستونيا، وبالتالي هو وضع مختلف عن مهاجمة أوكرانيا". 

الحشود العسكرية للناتو في دول البلطيق تعزز أحجامها، وتقارير تفيد بأنه "لا يوجد ما يكفي من ثكنات وأماكن إقامة للجنود الغربيين، حيث يضطر البريطانيون للنوم في خيام، بينما يقضي الفرنسيون الليل في مهاجع مخصصة للمركبات"، على ما ذهب تقرير لصحيفة "بوليتيكن" الدنماركية اليوم الخميس.

أحد قادة الجيش الدنماركي: لا يمكن ضمان ألا ينخرط جنودنا في حرب مع روسيا، فبوتين يتصرف بجنون

لسنوات طويلة، حاولت موسكو الاستمرار في بناء قوة متزايدة في منطقة البلطيق. وشكّل جيبها كالينينغراد نقطة ارتكاز، ونشرت فيه صواريخ إسكندر القادرة على حمل رؤوس نووية. اليوم ليست دول البلطيق فقط وحدها تعج بالجنود الغربيين، بل معظم منطقة بحر البلطيق، وبمشاركة سويدية وفنلندية من خارج حلف الناتو. 

يجادل الغربيون، من المتخصصين في المسائل الدفاعية والعسكرية، أن موسكو "تبدو اليوم على الجانب الآخر من البلطيق أقل قوة عما كانت عليه قبل ثلاث سنوات ماضية"، وفقا لما يذكره بيتر إلس.

عمليا، لا يخفي هؤلاء أن سلاح حلف شمال الأطلسي، الذي يمدون أوكرانيا به، تسبب في خسائر روسية وبإشغالها لوقت من أجل تعويضها.

وإلى جانب سياسة تعقيد مهمة الكرملين وأهدافها في أوكرانيا، على المستوى العملياتي العسكري، ثمة مزيد من العمل والجهد الغربي الذي تراكم خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة.

ففي بروكسل، بقي التحضير الدبلوماسي لاجتماعات القادة اليوم الخميس يركز على سد الثغرات والعيوب والتشبث بالتوافق والتماسك الغربي. وفي طريقه إلى جولة أوروبية واجتماعات بروكسل، كان بايدن يتحدث عن مزيد من العقوبات وعن سد الثغرات حتى لا تتمكن روسيا من إيجاد طرق لتخفيف الأزمة الاقتصادية. ووعد بايدن بمزيد منها بحق موسكو.

بالطبع، يسود الخوف لدى دول حلف شمال الأطلسي من تحول المواجهة غير المباشرة مع روسيا، في سياق الإجراءات الاقتصادية الخانقة والعسكرية المدمرة، أو المعيقة لتحقيق الأهداف المعلنة، منذ انطلاق "العملية العسكرية"، إلى مواجهة ساخنة ومباشرة، كأحد مخارج ما يسمونه "حالة اليأس والإحباط" التي يشعر بها بوتين.

ورغم ذلك، أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، الأربعاء، أن الحلف بصدد عرض المزيد من المساعدة لأوكرانيا. وتفيد التقارير بأنه بالفعل تزايد إرسال الأسلحة والوقود إلى الجيش الأوكراني. 

ستولتنبرغ شدد أيضا، بعد انقضاء شهر على الحرب، على استمرار تعزيز دفاعات الجناح الشرقي من الحلف، مع ملاحظة تأكيده أن وسائل حماية من "التهديدات الكيميائية والبيولوجية والنووية" بالفعل يجري نشرها داخل أوكرانيا، وفي دول الجوار الروسي. 

إذا، على مستوى الدفاعات الأوروبية (الغربية) من الواضح أن حرب أوكرانيا شكلت فرصة كبيرة لمزيد من تحركات "الناتو". ويتوقع أن يوافق قادة الحلف على نشر المزيد، وخصوصا في الجزء الشرقي.

بعض الخبراء في الشؤون العسكرية يتحدثون عن أن الحلف غيّر من خططه القتالية، ويعتمد اليوم على "مجموعات قتالية بأساليب مجموعات منفصلة ومنسقة". والحديث هنا يدور عن نشر تلك المجموعات في البلطيق وبولندا وبلغاريا والمجر ورومانيا وسلوفاكيا.

عمليا، هذا يعني أن مطالب روسيا بعدم نشر قوات وأسلحة في شرق أوروبا باتت صعبة التحقيق. بل يصفها أستاذ العلوم السياسية في كلية الدفاع في روما ستين رونينغ بأنها "ماتت، بتزايد وتوسع الانتشار". 

التحديات التي تواجه الغربيين اليوم تكمن في إمكانية انضمام بيلاروسيا إلى حرب بوتين في أوكرانيا. وذلك برأي رونينغ سيجعل المناقشات حول استجابة الناتو "صعبة للغاية"؛ فدخول مينسك بشكل علني سيعني تجاوزا يتطلب من القادة الغربيين الاستجابة له. 

صحيح أن "الخطوط الحمراء" التي وضعتها موسكو بشأن عضوية الدول الجديدة في الناتو، وانتشار قواته شرقا، باتت لا تؤخذ جديا من الحلف، إلا أن احتمالية توسع الحرب، والأسوأ ذهاب بوتين إلى الخيار الصفري بالتلويح بالسلاح النووي التكتيكي، يضع الناتو في مأزق.

ورغم ذلك، لا يتوقع أن يتراجع الحلف عن خياره المفضل في تعميق المأزق الذي تعيشه العسكرية الروسية في أوكرانيا، بعد انقضاء الشهر الأول من حربها. وعجلت أيضا الحرب الروسية في توجه الأوروبيين نحو ما يسمونها "البوصلة الاستراتيجية"، ببناء قوة تدخل سريع تتكون من نحو 5 آلاف فرد، وهي خطوة امتد نقاشها لعامين قبل أن تمرر بسهولة.

إمدادات الطاقة والخشية من الانقسام 

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي يبدو متسقا مع حليفه الأميركي، إلا أنه يواجه معضلة في تعاطيه مع العقوبات. فمسألة سوق الطاقة، وإيجاد بدائل، في سياق معركة طحن عظم اقتصادية، كوقف تدفق النفط والغاز الروسي، حيث لا تبدو ألمانيا وإيطاليا، ودول أخرى، متحمسة لفرض عقوبات تامة على واردات الطاقة.

وعلى الرغم من أن الخطوة مدمرة لموسكو، إلا أن الأخيرة تراهن على المخاوف الأوروبية. وحتى بعد أن اتخذ المستشار الألماني الجديد، أولاف شولتز، انعطافة كبيرة في مواقف برلين التاريخية، بالتحرر قليلا من عقدة التاريخ النازي، إلا أن شولتز عبّر أخيراً عن اعتقاده بأن العقوبات الغربية لا يجب أن تصيب الأوروبيين أكثر من إصابتها القيادة الروسية. وأشار أخيرا إلى أنه "لن يستفيد أحد منا من المقامرة بقاعدتنا المالية".  

وحتى بدخول أوروبا فصل الربيع، تبقى شرايين الاقتصاد الأوروبي مربوطة بخطوط الطاقة الروسية. وتخصيص الاتحاد الأوروبي لمزيد من الأموال لدعم المتأثرين من المقاطعة، وتقديم نحو مليار يورو للأوكرانيين، يعتبره الأوروبيون محاولة لإظهار بعض المخالب في مواجهة الدب الروسي، بعد سنوات من روح المهادنة التي سرت في مواجهة موسكو، وهو أمر أكده مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الأربعاء، حين ذكر أنه رغم أن النادي الأوروبي ليس عسكريا، إلا أنه يقود مع واشنطن جهود مواجهة موسكو، "بما في ذلك إرسال السلاح".  

وبمعنى آخر، أدت الحرب الروسية بشكل متزايد إلى تحرر الأوروبيين من قيود ومخاوف كثيرة، وإن بقيت المخاوف الاقتصادية وتبعات المقاطعة الشاملة أحد مكامن الضعف الأوروبي، في غياب البدائل. وتدفع أوروبا حالياً مئات ملايين اليوروهات التي تغذي الاقتصاد الروسي، الذي استفاد أيضا بشكل غير مسبوق منذ 15 سنة من ارتفاع الأسعار عالميا.

الخشية من ارتفاع الأسعار مضاف إليه ما خصصته أوروبا من زيادة في حجم إنفاقها الدفاعي، يضع القارة الأوروبية أمام مصاعب كبيرة في التخلص التام، على الطريقة الأميركية، من الاعتماد على الطاقة من روسيا.

وأزمة الاعتماد على الطاقة الروسية تخلق انقساما في أوروبا، وبشكل خاص تتمايز مواقف ألمانيا وإيطاليا والمجر وبلغاريا عن بقية الدول الأقل اعتمادا على موسكو.

برلين، التي تسعى إلى عدم تفويت فرصة عودتها الريادية إلى أوروبا، دفعت بوزير الاقتصاد والمناخ روبرت هابيك في زيارة إلى قطر لإقامة تعاون في مجال الغاز، وتعتبر تلك الخطوة الأولى التي تعبر عن نهج ألماني جديد بالفعل.

وإذا توقف تعامل برلين مع موسكو، فهذا يعني تراجعا في الناتج المحلي الإجمالي بنحو 3 في المائة عن 2022، وبالتالي سيطرح الألمان على أنفسهم خلال الفترة القادمة ما إذا كان الأمر يستحق، وإن كانت بوادره، كتخصيص نحو 100 مليار يورو لتعزيز الدفاع، تشير إلى أن برلين مستعدة للخوض في تلك الخيارات، التي ستسحب معها أيضا دولا أوروبية أخرى حال قررت سحب ورقة الطاقة من موسكو.  

ويبقى أيضا أمام الأوروبيين تحدٍ آخر يتمثل بتوقعهم قدوم نحو 8 ملايين لاجئ من أوكرانيا، كما قدّرت وزيرة خارجية ألمانيا أنالينا بيربوك الاثنين الماضي.

وطالبت برلين دول أوروبا بإظهار "جو تضامني" لتحمل أعباء هذا التدفق الكبير، الذي تتهم أوساط أوروبية موسكو بتقصده تحت بند "إغراق أوروبا باللاجئين". 

إذا، الآن تقف أوروبا أمام مفترق طرق، فإما أن تجد أرضية مشتركة لاستمرار الحد الأدنى من اتفاقها الذي أظهرته خلال شهر الحرب الأول، أو أن تفسح الخلافات والمصالح المجال أمام بوتين الذي يراهن على تداعي وحدة الموقف وبروز الانقسام.