تعود اليوم الذكرى الأولى لوفاة قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، الذي وافته المنيّة أربعة أيام فقط بعد تسلّم الرئيس الجديد عبد المجيد تبون لسدة الحكم وتكريمه له بأعلى وسام في الجمهورية، بعدما كان قايد صالح قد أدى دوراً بارزاً في إدارة الأحداث منذ اندلاع مظاهرات الحراك الشعبي في 22 فبراير/ شباط 2019، ضد محاولة محيط الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، فرض ترشيحه لولاية رئاسية خامسة.
بعد عام من وفاته، تغير الكثير من معالم النظام السياسي وتوجهاته، وسط بروز واضح لملامح التوجه نحو محو كل آثار ما يعرف بـ"القايدية" (نسبة إلى قايد صالح)، ومراجعة الكثير من القضايا السياسية ومساراتها القضائية التي لعب فيها دورا بارزا، وأحاديث لافتة حول وجود تراجع سياسي عن خطوط رسمها خلال سيطرته على السلطة العام الماضي، ومنها جنوح القيادة الجديدة للجيش، برئاسة قائد الأركان السعيد شنقريحة، لإجراء تسويات عسكرية عسكرية مع مجموعة من الجنرالات والعسكريين المرتبطين بنظام بوتفليقة، وقائد جهاز المخابرات الأسبق الجنرال القوي محمد مدين المدعو توفيق، الذي ساقه قايد صالح إلى السجن برفقة قائد جهاز المخابرات السابق بشير طرطاق والسعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق، على خلفية اجتماع مارس/آذار 2019، الذي كانت هذه المجموعة ترتب فيه لإطاحة قايد صالح وتداول فكرة تشكيل هيئة رئاسية تتسلّم السلطة من بوتفليقة.
ليس هؤلاء فقط، فقد كان قايد صالح قد دفع نحو ملاحقات قضائية ضد ما كان يصفها بـ"العصابة"، ومجموعة أخرى من العسكريين، كقائد جهاز الأمن العام وكبار الضباط في جهاز المخابرات، وقائد جهاز الدرك وقادة مناطق عسكرية ساقهم قايد صالح إلى السجن، وإلى ملاحقات قضائية أخرى بتهم الفساد أو تعريض الوحدة الوطنية للخطر. لم يكن أحد يتخيل أن يساق هؤلاء إلى السجن، وكذا أن تحال شخصيات عسكرية على التقاعد، كالجنرال حسين بن حديد وعلي غديري، وهي التي حاولت أداء دور في تطور الأحداث ومسار الحراك الشعبي، ووصفت بأنها "جنرالات فرنسا"، واتهمت بتوريط الجيش في الأزمة الأمنية في التسعينيات. كذلك، أسهم قايد صالح في إسناد القضاء المدني لملاحقة وسجن عدد كبير من رجالات الكارتل المالي والسياسي ورؤساء حكومات ووزراء بتهم الفساد.
لعل ما هو أخطر في الوقت الراهن التحسس من المسارات الديمقراطية والخوف من الانفلات، ووجود "ردة" كبيرة عن خطه، بعودة لافتة للمجموعة العسكرية النافذة التي واجهها قايد صالح عام 2019
خلال تلك الفترة، كان قايد صالح قد أحكم قبضته على المشهد الجزائري بكل تفاصيله، بما في ذلك الإعلام الذي وجدت مؤسساته نفسها مرغمة على تبني بعض المقاربات السياسية، كدور الجيش في مرافقة الحراك وتعظيم دوره في الحفاظ على البلاد.
وأصر قائد الأركان الراحل على دفع الأحداث باتجاه البقاء داخل المسار الدستوري، ومنع أية تفاهمات سياسية تقود إلى مرحلة انتقالية، أو إلى الحياد عن الدستور، وهو المسار الذي رافقه الجيش، برغم رفض الحراك الشعبي وغالبية مكوناته السياسية والمدنية له، إلى غاية رسم قنوات المرور نحو الانتخابات الرئاسية عبر تشكيل هيئة حوار وطني انبثقت منها هيئة مستقلة للانتخابات وانتهت بتنظيم انتخابات 12 ديسمبر 2019.
يحسب لقايد صالح منعه توجيه البندقية إلى الشعب، وحرصه على منع إراقة الدماء وإلزام قوات الأمن بشكل مشدد، منذ مارس 2019، بحسب معلومة سُرِّبَت حينها، بعدم استخدام أي نوع من أنواع الرصاص ضد المتظاهرين. لكنه يُتهم حتى الآن بالوقوف وراء حملات الاعتقالات التي طاولت عدداً كبيراً من الناشطين والشخصيات البارزة، على غرار المناضل الثوري لخضر بورقعة، كذلك يتهم بأنه كان وراء قرار منع دخول المتظاهرين إلى العاصمة في أيام الجمعة، إضافة إلى التسبب في أكبر " فتنة" سياسية كانت لها تداعيات مجتمعية خطيرة، بعد منع رفع الراية الأمازيغية، وإطلاق حملات دعائية تتهم السكان الأمازيغ بمحاولة تقسيم البلاد، وكذا إغراق البلاد والمجال العام في مناخ اتهامات بوجود الأيادي الأجنبية والمؤامرة الخارجية وغيرها من تلك المفردات، خاصة أنه وضع كامل سياق خياراته ضمن ما وصف بسياسة "قطع دابر فرنسا في الجزائر"، وتفكيك لوبيات المصالح التي تخدم المصلحة الفرنسية.
جملة من هذه القرارات والخيارات السياسية والمناخ الدعائي ما زالت تضع شخصية قايد صالح - بعد عام على وفاته - محل جدل سياسي وتباين في المواقف، بين متفهم لدوره كقائد لأبرز مؤسسة حيوية في البلاد، ووفقاً لطبيعة المرحلة المتوترة التي استدعت فائضاً من الحزم لحماية البلاد وحملها إلى بر الأمان، وبين من يحمّله المسؤولية عن إضاعة فرصة تاريخية على الجزائريين لتحقيق انتقال ديمقراطي بعد ستة عقود من نظام سياسي قاد البلاد من أزمة إلى أزمة، ومنعه حدوث تفاهمات بين القوى الجزائرية إزاء ذلك، خاصة أنه قضى 14 سنة كقائد أركان في ظل حكم الرئيس بوتفليقة بكل ما حملته تلك الفترة من فساد سياسي ونهب للمال العام.
ولعل ما هو أخطر في الوقت الراهن، التحسس من المسارات الديمقراطية والخوف من الانفلات، ووجود "ردة" كبيرة عن خطه، بعودة لافتة للمجموعة العسكرية النافذة التي واجهها قايد صالح عام 2019. أبرز معالم هذه الردة، ليس فقط تحول المعركة القضائية في اتجاه معاكس تماماً، نحو ملاحقة محيط قائد الأركان الراحل، سواء محيطه العسكري الذي أدار المرحلة السابقة معه، على غرار سكرتيره الخاص قرميط بونويرة، أو قائد جهاز المخابرات واسيني بوعزة، أو محيطه العائلي، بعد توجيه اتهامات ونشر بلاغات مودعة لدى القضاء عن فساد أربعة من أبنائه، ولكن أيضاً من تسوية الملفات القضائية لعدد من العسكريين والإفراج عن بعضهم، وأبرزهم الجنرال حسين بن حديد وعلي لغديري، والجنرال توفيق وبشير طرطاق اللذين أدينا بـ15 سنة سجناً، وتقررت إعادة محاكمتهم قريباً، تمهيداً للإفراج عنهما، وأخيراً عودة وزير الدفاع السابق خالد نزار من الخارج، برغم أنه مدان في القضية نفسها، مع المذكورين، بالسجن 20 سنة مع أمر دولي بالقبض، وهي تطورات نتاج تسويات عسكرية عسكرية يبدو الرئيس عبد المجيد تبون على هامشها، وربّما لم تكن لتحدث لو بقي الرجل على قيد الحياة أو في منصبه.