مع اللحظات الأخيرة لحملة انتخابات الرئاسة، يختلط الحابل بالنابل في التوقعات والترجيحات الأميركية. الديمقراطي متفائل لكنه متخوف من أن تخونه الأرقام. الجمهوري متشائم محبط ويخشى من أن تَصدُق الأرقام. لحظة زئبقية فاصلة لها رهبتها. يختلط فيها التمني بالريبة والخشية من الحكم النهائي لصندوق الاقتراع.
في اليومين الأخيرين تكثفت الجولات الانتخابية للمرشحين، الرئيس دونالد ترامب، ومنافسه جو بايدن؛ أفرغ خلالها كلاهما ما في ترسانته من ذخيرة لخلخلة المعادلة لصالحه، خاصة في الولايات الست التي تتحكم بالميزان. رافق ذلك تسخين نوعي في الخطاب وتصعيد في حرب الأعصاب وعملية الاستنفار، فضلاً عما واكبه على منصات الإعلام الموالي والمعارض من دعايات وإشاعة معلومات موجهة للإرباك ولزعزعة الثقة وزرع الارتياب. وبالذات على مواقع التواصل الاجتماعي. بنتيجة ذلك دخلت على أرقام الاستطلاعات تغييرات استوقفت المراقبين ولو أنها طفيفة لكن بدرجة كشفت عن تقلّص الفارق لصالح الرئيس ترامب في بعض الولايات الحاسمة، وبالتحديد ولاية بنسلفانيا التي قد تلعب الدور الحاسم في المعركة إذا جاءت الحصيلة متقاربة.
وما عزز هذا التقدير أن الحزب الجمهوري كان كما تبيّن، قد عمل على تسجيل الآلاف من مؤيديه في هذه الولايات والذين يعتقد أنهم تركوا تصويتهم إلى يوم الانتخاب، غداً الثلاثاء. بالإضافة إلى ذلك تردد أن شرائح من الأقليات خاصة السود واللاتينو، وفي ولايات أساسية مثل فلوريدا، قد كشفت عن حالة من التراخي "وقلة الحماس" للتصويت لصالح بايدن وإن ذلك أثار حالة من "القلق" في صفوف حملة هذا الأخير مما جعل الاستعانة بالرئيس السابق باراك أوباما ضرورية لإقامة مهرجان انتخابي آخر في مناطق هذه الفئات بغية شدّ عصبها وحملها على الإقبال بقوة للإدلاء بأصواتها لمصلحة بايدن.
لكن في مقابل فورة اللحظات الأخيرة هذه والتي لا يستهان بمضاعفاتها وتأثيرها المحتمل على المعادلة النهائية، يشدد المراقبون على أهمية الجوانب التي بقيت ثابتة طيلة حملة بايدن الانتخابية وعلى وجوب اعتمادها بمثابة المؤشر الرئيسي لوجهة رياح المعركة، على رأسها أن الرئيس ترامب لم يقو على الرغم من أفضلية موقعه الرئاسي، على زحزحة بايدن من موقعه المتقدم كما أنه لم يقو ولو لمرة واحدة على بلوغ معدل الـ50% أو ما يتاخمه.
ثانياً وبالإضافة إلى ذلك وربما يتقدمه، أن أرقام كورونا بات من شبه المستحيل فصلها عن الأولويات التي تتحكم بخيار الناخبين المستقلين والمترددين على وجه الخصوص. فأرقام الوباء صارت شبه متلازمة مع أرقام الانتخابات وموازينها بل متحكمة بها. وعلى سبيل المثال ولو في الشكل، سجلت الإصابات رقم 92 ألفا فيما وصل عدد أصوات التصويت المبكر اليوم إلى 92 مليونا. وكأن الثاني بات يتزايد بالتناغم مع الأول؛ علماً بأن الأكثرية الراجحة من هذه الأصوات المبكرة محسوبة في خانة المرشح بايدن وفق التقديرات الغالبة.
وهناك مؤشر ثالث يصب في هذا المجرى وهو أن بعض الولايات التي لم تصوت للديمقراطي منذ 1976 مثل تكساس وأريزونا وحتى جورجيا، باتت اليوم على قاب قوسين أو أقل من الانحياز إلى بايدن. مجرد تموضعها في هذه الموقع يؤشر إلى مساحة التغيير أو القرب منه، الذي أصاب الخريطة الانتخابية. هذه العلامات وغيرها حملت البعض ليس فقط على ترجيح فوز بايدن بل على إمكانية تحقيق نصر كاسح "بحدود ما يزيد على 400 صوت من المجمّع الانتخابي" (من أصل 538)، حسب جورج ويل عميد أحد أجنحة الفكر المحافظ الكلاسيكي والمنحاز بقوة للمرشح بايدن.
الانتخابات بالنهاية عملية حسابية للأصوات، تبدأ مع إقفال صناديق الاقتراع بعد حوالي 48 ساعة من الآن في شرق الولايات المتحدة و51 ساعة في غربها. مع التاسعة مساء بتوقيت واشنطن تبدأ الصورة الأولية للنتائج بالظهور، إذ تكون الصناديق قد أقفلت في أكثر من نصف الولايات: 28 ولاية.
لكن عملية احتساب النتائج قد تطول إذا تقاربت أو التبست الأرقام. وقد تقصُر إذا جاءت كاسحة لصالح ترامب أو بايدن. بعد حوالي سنة ونصف السنة من المنافسة والجولات والتسويق وصل ترامب وبايدن إلى لحظة المحاسبة الحقيقة، الكل على أعصابه، والتخوف من حصول عنف وشغب في الشارع لا تخفى دلائله. بعض البنايات وسط واشنطن بدأت في تحصين مداخلها وواجهاتها بالألواح الخشبية. وكأن هناك حالة تحسب للأسوأ من دون استبعاد أن تنقضي بسلام. لكن أجواء التخوف لا تخطئ. جاء في أحد الاستطلاعات أن 80 بالمائة من الأميركيين يشعرون بالقلق من حصول تطورات غير اعتيادية. ويبقى كل شيء مرهونا بسير عملية الانتخاب، والأهم بوصولها إلى نتائج تتكلل بالقبول والتسليم الواسعين.