ربما يكون ريشي سوناك أول بريطاني من أصول هندية يسكن في داونينغ ستريت بالعاصمة البريطانية لندن، وقد يكون فوزه بهذا المقعد عن حزب المحافظين البريطاني فوزاً ثانياً للأجيال المتتالية من المهاجرين من مناطق امتداد "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" سابقاً، إلى عاصمة الضباب وحاكمته في الحقبة الفيكتورية وما قبلها، أيام كانت بريطانيا "تحكم العالم".
فالفوز الأول حققه السياسي من أصل باكستاني صادق خان بعد انتخابه عمدة للندن لكن بترشيح من حزب العمال، أكبر الخصوم السياسيين للمحافظين.
ولكن ذلك الفوز مرهون بالاتجاه الذي ستحدده بوصلة قاعدة أعضاء حزب المحافظين، التي ستصوت على انتخاب أحد الواصلين إلى "النهائي الكبير"، لتزعم الحزب ورئاسة وزراء بريطانيا: فإما سوناك أو وزيرة الخارجية ليز تراس.
أسمر البشرة، في السنة الثانية من العقد الرابع من عمره، بلغ ريشي سوناك الدور الحاسم والأخير من السباق على زعامة حزب المحافظين ورئاسة وزراء بريطانيا، بمرتبة أولى في كل الأدوار الخمسة الأولى من الانتخابات الداخلية في حزب المحافظين، وهو ما يؤكد على أن المنافسة في الدور الحاسم مع وزيرة الخارجية ليز تراس ستكون محتدمة.
الكلمة السحرية لسوناك في حملته الانتخابية هي "السيطرة على التضخم"، وذهب بعيداً حتى في أطروحاته الاقتصادية للقيام بذلك: فهو لا يرى ضرورة لتخفيف السياسة الضريبية المفروضة على البريطانيين بحجة أن ذلك قد لا يمكن من السيطرة على التضخم المستمر والذي وصل إلى مستويات خيالية في بريطانيا منذ أكثر من 40 سنة، ليصل إلى 9.4 بالمائة في شهر يونيو/حزيران، حسب الإحصائيات التي نشرها مكتب الإحصاءات الوطني البريطاني.
"امتصاص التضخم لا خفض الضرائب"
ويبدو أن استثمار سوناك في هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، هو الذي قاده إلى هذا الدور الحاسم في السباق نحو داونينغ ستريت، حيث إن كل البريطانيين على مختلف "ألوانهم السياسية" والأيديولوجية لم يعد لديهم هم إلا حلحلة الاقتصاد.
وقد يكون استثمار "التضخم" ومواجهته العنوان الثاني في طريقه للمنافسة على الزعامة، لكن أول "خبطاته" السياسية في هذا الطريق أنه كان أول من كسر درجات السلم وأول من سحب البساط من تحت أقدام رئيس الوزراء المتخلي بوريس جونسون.
فقبل يوم من إعلان صاحب "الفضائح المدوية" تنحيه عن المنصب، كان سوناك (ومعه وزير الصحة ساجيد جاويد)، من أول الوزراء المستقيلين من الحكومة في يوم "الثلاثاء العظيم"، 5 يوليو/تموز، أو كما وصفته وكالة رويترز للأنباء بـ"واحد من أكثر الأيام تقلبا في التاريخ السياسي البريطاني الحديث"، فكانت تلك الاستقالة بداية لتساقط قطع "الدومينو" في حكومة جونسون الذي واجه تمرداً داخل حزبه، دفعه للاستقالة بعدها بيومين.
بذلك خرج ريتشي سوناك بهالة البطل، الذي لم يرض بتصرفات جونسون ولا بفضائحه، وآخرها فضيحة وزير السوط السابق كريس بينشر الجنسية، بالرغم من أن سوناك شارك في فضيحة "الحفلات" أيام الإغلاق الكبير بسبب جائحة كوفيد 19، والتي تسببت في تغريمه.
تلك الاستقالة دفعت سوناك إلى الصفوف الأولى من المرشحين لخلافة جونسون، وهي التي مكنته من رصيد سياسي كبير داخل أروقة حزب المحافظين، بدأ بالغرف منه في الأدوار الخمسة الأولى من محطات "الطريق نحو داونينغ ستريت، ليصطدم بخصمة قال إنها تسعى لأن تكون خليفة للمرأة الحديدية مارغريت تاتشر ليز تراس، التي ذهبت في حملتها عكس سوناك في تشديده على السياسة الضريبية.
ولعل هذا الاختلاف المبني على نظرية "التعبئة" وإقناع القاعدة الحزبية في الحملة الانتخابية، قد يؤثر على نتائج سوناك في هذا الدور الحاسم، وخصوصاً أن العناوين الكبرى للمعركة الانتخابية التي بدأت منذ اليوم ستكون منحصرة في تحسين الاقتصاد وخاصة المقدرة الشرائية المهترئة للبريطانيين، وهنا يرى "المرشح الأسمر" أنه يجب وضع "خطة طموحة جديدة لضمان استقلالية المملكة المتحدة على صعيد الطاقة بحلول العام 2045 لتجنّب أي تسارع للتضخم في المستقبل على صلة بملف الطاقة، بعدما أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الوقود"، حسب تصريحاته التي نقلتها "فرانس برس".
"كل البيض في سلة المناظرات"
من جهتها، نقلت صحيفة "ذا غارديان" عن سوناك، المتمسك بسياسة عدم التخفيض الضريبي قبل معالجة أسباب التضخم، أن ذلك سيزيد من ارتفاع الأسعار، محذرا من إخبار الناخبين "بالحكايات الخرافية المطمئنة" بقوله إنه يجب "العودة إلى القيم الاقتصادية المحافظة التقليدية، وهذا يعني الصدق والمسؤولية، وليس القصص الخيالية".
بهذه النظرة يدخل سوناك للدور الأخير والحاسم من معركة خلافة جونسون، وهي عناوين قد يكون صداها موجودا في أروقة مجلس العموم وكتلة المحافظين داخله، إلا أنها قد لا تجد انعكاسها متوهجا لدى قواعد الحزب، الذين سيكونون حاسمين في هذا الدور الأخير، حيث تشير قناة "بي بي سي" إلى أن استطلاع موقع "يوغوف"، الذي أجري بين 725 من أعضاء الحزب يومي الاثنين والثلاثاء (أي قبل الدور قبل النهائي)، أشار إلى أن سوناك سيخسر إما لصالح موردانت، وإما لصالح تراس.
هنا يدفع سوناك "بكل بيضه في سلة" المناظرات الانتخابية التي أعلنت كل من قناتي "بي بي سي" و"سكاي نيوز" عن تنظيمها (ستجري الأولى الاثنين، بينما يتوقع بأن تجري مناظرات أخرى محتملة قبل انتهاء تصويت أعضاء الحزب بالبريد في الثاني من سبتمبر/أيلول القادم)، أو على الأقل ذلك ما فهم من كلام الوزير السابق ديفيد ديفيس المؤيد لوزيرة الدولة لشؤون التجارة الخارجية بيني موردانت التي خسرت في التصويت قبل الأخير، حيث اتهم سوناك بـ"تجيير أصوات لتراس لمواجهتها في التصويت النهائي، مضيفاً في تصريحات نقلتها فرانس برس أن سوناك "يريد مقارعة ليز لأنها ستخسر المناظرة معه".
هذه الاستراتيجية الانتخابية لسوناك، التي يبدو أنها ترتكز على الدفع بالمواجهة والاستفادة من بعض الكاريزما وحسن الخطابة التي يمتلكها لكي يطيح ليز في النهائي الكبير يوم 2 سبتمبر/أيلول.
هذا السباق الذي أوصل سوناك بعد أن كان سياسياً مغموراً قبل سنة 2020 لتدفع به "جائحة كورونا إلى الصفوف الأمامية لحزب المحافظين، بعد سياسات الإنفاق غير المسبوق في الإغلاق الكبير عندما كان وزيراً للمالية، وليكون تمرده على جونسون في سنة 2022 سببا في سحب البساط من تحت رجليه محطة في طريق بحثه عن زعامة حزب المحافظين، ويكون بذلك أول بريطاني من أصل آسيوي ينافس على موقع الساكن الجديد في 10 شارع داونينغ ستريت.