مع مراهنة روسيا على حسم الصراع في أوكرانيا بالقوة العسكرية، وتصوير رئيسها فلاديمير بوتين المعركة بأنها "نضال من أجل بقاء روسيا"، تنكبّ القيادة الروسية على تطوير وزيادة ترسانتها الحربية، ولا سيما الصواريخ والقذائف الموجّهة بدقة، في اتجاه لا يعكس فقط توجّه موسكو لرفع وتيرة الحرب في أوكرانيا، بل يشكّل تهديداً متواصلاً للغرب بحرب عالمية جديدة، خصوصاً بعد انسحاب موسكو من معاهدة "نيو ستارت" أواخر فبراير/شباط الماضي.
وبغض النظر عن أداء الجيش الروسي والتقنيات العسكرية الروسية في ظروف الحرب الحقيقية الأولى التي خاضتها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن قضية تأمين الذخائر والقذائف المدفعية والصواريخ بمختلف أنواعها تعد حاسمة في تحديد مسار الحرب.
وفي الشهور الأخيرة اشتكى رئيس مجموعة مرتزقة "فاغنر" يفغيني بريغوجين من عدم حصول مرتزقته على الأسلحة والقذائف اللازمة لمواصلة المعركة، ووجّه انتقادات حادة لوزارة الدفاع. وعلى الرغم من حدة الخلافات بين بريغوجين وجنرالات الجيش الروسي، فمن الواضح أن المشكلة تتعدى الخلافات إلى وجود مشكلات حقيقية في توفير الكميات اللازمة من الذخائر والأسلحة.
في المقابل، يبدو أن الجانب الغربي أيضاً عاجز عن تأمين كميات الأسلحة والذخائر اللازمة للجيش الأوكراني ويركز على تدريب الأوكرانيين على تقنين وترشيد استخدام القذائف المدفعية والصاروخية.
إنتاج الذخيرة تضاعف مرات عديدة
وفي مؤشر إضافي إلى توظيف روسيا جميع إمكاناتها الصناعية والمالية من أجل زيادة إنتاج الأسلحة والذخائر لمواصلة الحرب على أوكرانيا، قالت وكالة "روستيخ" المسؤولة عن قطاع التصنيع العسكري والتقنيات، إن "إنتاج الذخيرة في روسيا وصل إلى مستوى حالة الحرب"، مشيرة إلى أنّ "إنتاج أنواع معينة من الذخيرة، تضاعف مرات عدة".
ومع التقارير الإعلامية والميدانية عن وجود نقص في الذخيرة والصواريخ، وجّه وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، يوم أمس الثلاثاء، بزيادة إنتاج الصواريخ والقذائف الموجهة بدقة. وأثناء جولة على مصنع لإنتاج الصواريخ التكتيكية قرب موسكو، أشار شويغو إلى أن المصنع يفي بشكل كافٍ بأمر الدفاع الحكومي، إلا أنه أصدر تعليماته بمضاعفة إنتاج الأسلحة عالية الدقة.
وجّه سيرغي شويغو، أمس، بزيادة إنتاج الصواريخ والقذائف الموجهة بدقة
وأكدت وزارة الدفاع الروسية أن قطاع التصنيع العسكري لديه متخصصون ذوو مؤهلات عالية ومنشآت إنتاج. ولهذا وعلى الرغم من الضغوط والصعوبات فإن مهمة زيادة الإنتاج ممكنة. وفي تصريحات نقلتها وكالة "نوفوستي" عن مصدر في شركة "روستيخ"، أكدت الشركة أن إنتاج الذخيرة ازداد عدة مرات لبعض الأنواع وأن إنتاج الذخيرة وصل إلى مستوى أوقات الحرب.
وزاد المصدر أن الشركة "تنتج وتورد جميع أنواع الذخائر من طلقات البنادق إلى الأسلحة عالية الدقة لتلبية احتياجات القوات، ونما الانتاج عدة مرات، وفي بعض الأنواع عشرات المرات".
ومنذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، المسمى الرسمي للغزو الروسي، ارتفع إنتاج الأسلحة والذخائر بشكل لافت. وفي 19 فبراير/شباط الماضي، قال رئيس شركة "روستيخ" الحكومية سيرغي تشيميزوف إن شركته "زادت بشكل كبير من إنتاج أنواع معينة من الذخيرة، ومنها صواريخ "كينجال" (الخنجر) فرط الصوتية".
وذكر تشيميزوف في لقاء مع قناة "زفيزدا" التابعة لوزارة الدفاع الروسية إن الزيادة في إنتاج بعض الذخائر ارتفعت قرابة 50 مرة، موضحاً أن "جميع مؤسساتنا تعمل في نوبتين أو حتى ثلاث نوبات، من دون أيام إجازة أو عطل. نحن نعمل باستمرار لضمان هذا الحجم من المنتجات التي نحن ملزمون بتسليمها للجيش".
وأقرّ المسؤول بأن العقوبات الغربية أثرت على شركته، وأجبرتها على تعزيز خطط توطين الإنتاج، نظراً لأن العقوبات كانت أشد بكثير مما كانت عليه في 2014 حين ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم. ووفقاً لتشيميزوف، فإن الإنتاج العسكري في "روستيخ" بلغ قرابة نصف الإنتاج العام في مصانع الشركة الحكومية القابضة التي يعمل فيها ملايين الروس في قطاعات إنتاج الأسلحة وصناعات مدنية مثل السيارات والتقنيات والأدوات المنزلية وغيرها.
وبعد تقارير منذ الخريف الماضي عن نقص حاد في الذخائر لدى القوات الروسية، واضطرار موسكو إلى الاستعانة بكوريا الشمالية وإيران للحصول على صواريخ وطائرات مسيّرة، قال تشيميزوف في حوار مع وكالة "نوفوستي" الحكومية نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي إن استهلاك الذخيرة بجميع أنواعها كبير حقاً بسبب سير العملية العسكرية في أوكرانيا، لكن التقارير الإعلامية الغربية وتصريحات السياسيين الأوكرانيين حول نقص الذخائر "هراء كامل". وأشار إلى أن "روستيخ" استثمرت عشرات المليارات من الروبلات في عملية تحديث وإعادة تجهيز مصانع لإنتاج مواد كيميائية ومكونات الذخيرة لزيادة الإنتاج.
وفي يوم المدافعين عن الوطن في 23 فبراير/ شباط الماضي، ظهر بوتين في فيديو قصير، وقال عشية مرور عام على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، إن "جيشاً وبحرية عصريين وفعالين هما ضمانة لأمن بلد وسيادته، ضمانة لنموه المستقر ومستقبله".
بوتين: الكرملين عازم على قيادة التطوير المتوازن والعالي النوعية لكل مكونات القوات المسلحة
وتابع "سنولي كما من قبل اهتماماً بالمقام الأول لتعزيز قدراتنا الدفاعية"، مشيداً بـ"الزيادة الحالية في إنتاج كل أنواع الأسلحة التقليدية"، داعياً قطاع الصناعات العسكرية الروسي إلى بذل المزيد. وخلص إلى أن الكرملين عازم على "قيادة التطوير المتوازن والعالي النوعية لكل مكونات القوات المسلحة"، من خلال تجهيز الجيش بـ"أنظمة ضاربة جديدة وأجهزة استطلاع واتصال ومسيّرات وأنظمة مدفعية".
ارتفاع موازنة الدفاع والتسليح الروسية
وفي 19 سبتمبر/أيلول الماضي وفي لقاء مع مسؤولي المجمع الصناعي العسكري، أشاد بوتين بتطور الصناعات العسكرية الروسية ما مكّنها من احتلال مركز مهم في السوق العالمية بصادرات وصلت إلى 6 مليارات دولار في السنة الأخيرة، حسب بوتين.
ومع تأكيده أن "الأسلحة الروسية المستخدمة خلال العملية العسكرية تظهر كفاءة عالية، وفي المقدمة يتعلق الأمر بالطيران، والصواريخ بعيدة المدى عالية الدقة، وأسلحة الطيران، والمدفعية الصاروخية، والأسلحة المدرعة وغيرها"، قال بوتين إن الاجتماع سيكرس من أجل "التركيز على أكثر المشكلات تحديداً وإلحاحاً: التنظيمية والمالية والتكنولوجية، وفي مقدمها القضايا المتعلقة بتزويد القوات بالأسلحة والمعدات والذخيرة".
ومنذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، ارتفعت موازنة الدفاع والتسليح إلى مستويات غير مسبوقة، وحسب الموازنة الثلاثية (2023-2025) التي أقرها النواب، فإن التركيز نفقات الدفاع تصل إلى قرابة ثلث الموازنة.
وفي موازنة 2023 تبلغ نفقات الدفاع 9.3 تريليون روبل (الدولار 75 روبلاً) من أصل 29 تريليوناً، مع بند خاص شدد عليه بوتين أكثر مرة وهو أنه في حال تراجع واردات الخزينة فإن موازنة الدفاع يجب ألا تتغير. وفي مؤشر إلى أن النفقات الدفاعية ربما تكون أكثر بكثير، فإن ربع بنود الإنفاق الحكومي سرية وفق بيانات وزارة المالية المقدمة لمجلس الدوما (البرلمان) الروسي.
وقدّرت مجلة فوربس-أوكرانيا في تقرير نشرته في 27 فبراير الماضي أن روسيا أنفقت 114 مليار دولار في العام الأول من حربها على أوكرانيا، أي قرابة 10 مليارات دولار شهراً، وهو ما يمثل ثلث الموازنة الروسية. ونقلت المجلة عن وزارة الدفاع الأوكرانية أنه كان لدى روسيا 2727 صاروخ كروز طويل المدى وصواريخ باليستية وأكثر من 8500 صاروخ قصير المدى (حتى 200 كيلومتر)، استخدم منها قرابة 4000 صاروخ في الحرب على أوكرانيا.
وأشارت المجلة إلى معدل القصف بهذه الأنواع من الصواريخ انخفض في شكل لافت من 250-300 شهرياً إلى 110-130 صاروخاً شهرياً في الشهور الثلاثة الأخيرة ما يعني أنه تم استنفاد مخزون الصواريخ تدريجياً.
ومعلوم أن أجهزة الاستخبارات الغربية أشارت في تقاريرها منذ الخريف إلى أن روسيا تستنفد مخزوناتها من الصواريخ وتضطر لاستخدام الأسلحة الباليستية على الرغم من أنها مهمة جداً لقضايا التوازن الاستراتيجي مع الغرب وحمل الرؤوس النووية.
وحسب تقديرات الاستخبارات الغربية، فإن روسيا لا تنتج أكثر من 80 صاروخاً شهرياً، وأن العدد في تناقص مستمر بسبب العقوبات الغربية المفروضة على التقنيات مزدوجة الاستخدام واعتماد الشركات الدفاعية الروسية على الرقائق والشرائح الالكترونية الغربية في إنتاج كثير من الأسلحة.
إصرار على الحسم العسكري في أوكرانيا
وبالتوازي مع زيادة الإنتاج الحربي، يصرّ الكرملين على أن أهداف روسيا في أوكرانيا لا يمكن تحقيقها في الوقت الراهن إلا بالقوة العسكرية. ونقلت وكالات أنباء رسمية روسية عن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف قوله أمس الثلاثاء: "علينا تحقيق أهدافنا. لا يتسنى تحقيق هذا في الوقت الراهن إلا بالوسائل العسكرية نظرا للموقف الحالي للنظام الحاكم في كييف".
بيسكوف: لا يتسنى تحقيق أهدافنا إلا بالوسائل العسكرية نظرا للموقف الحالي للنظام الحاكم في كييف
وأضاف بيسكوف أن أوكرانيا سيكون عليها تقبّل "الحقائق الجديدة" التي ظهرت منذ بدء موسكو ما تسميها "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا. وأضاف "جميع متطلبات موسكو معروفة جيداً. الوضع الراهن والحقائق الجديدة معروفة جيداً أيضاً. إذا لم تؤخذ هذه المجموعة من القضايا في الحسبان، الانتقال إلى تسوية سلمية مستحيل".
وفي موازاة ذلك، كان بوتين يقول أمس إن روسيا تناضل من أجل وجودها، وتلك مهمة بقاء تواجهها، وذلك في تصريحات خلال زيارته أمس مدينة أولان أودي عاصمة جمهورية بورياتيا الروسية.