ذكرى احتجاجات هونغ كونغ: تحولات سياسية تقضم ديمقراطية الجزيرة

10 يونيو 2024
مؤيدون للديمقراطية من هونغ كونغ، تايبيه، أمس (آي هوا تشينغ/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- اندلاع احتجاجات شعبية في هونغ كونغ عام 2019 ضد مشروع قانون تسليم المجرمين، أدت إلى اعتقال أكثر من 10,000 شخص وتغيير المشهد السياسي بشكل جذري بعد فرض قانون الأمن القومي في 2020.
- تطويع بكين لهونغ كونغ وقضم مظاهر ديمقراطيتها، مما أدى إلى استقالة قضاة بارزين واعتقال أو نفي قادة المعارضة، ما يعكس تغيرات جذرية في النظام القضائي والسياسي.
- هجرة غير مسبوقة من هونغ كونغ إلى الدول الغربية تعكس حالة من اللامبالاة والإحباط بين الشباب، مما قد يؤدي إلى تدهور الحكم في المدينة بدون وجود معارضة فعالة.

حلّت، أمس الأحد، الذكرى الخامسة للاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في هونغ كونغ في التاسع من يونيو/حزيران عام 2019 ضد مشروع قانون تسليم المجرمين الفارين المثير للجدل، الذي قدمته بكين ثم ألغته لاحقاً، لنقل الجناة من الجزيرة ومحاكمتهم في البر الرئيسي الصيني، فيما جاءت ذكرى احتجاجات هونغ كونغ وسط تغييرات عدة شهدتها الجزيرة، تمكنت خلالها بكين عملياً من تطويع الأولى وقضم تدريجي لمظاهر ديمقراطيتها عبر سلسلة من الخطوات لا تزال متواصلة إلى اليوم.

وخرج ما يقدر بنحو مليون من سكان المستعمرة البريطانية السابقة إلى الشوارع في التاسع من يونيو 2019، للتظاهر ضد مشروع قانون تسليم المجرمين. وقُبض آنذاك في احتجاجات هونغ كونغ على أكثر من عشرة آلاف شخص معظمهم من الشباب وطلبة الجامعات، وأدينوا بجرائم شملت أعمال العنف والشغب والتجمع غير القانوني والاعتداءات على الأملاك العامة والحرق العمد والأضرار الجنائية خلال احتجاجات هونغ كونغ. ومنذ ذلك الحين، وبعد مرور خمس سنوات، شهدت هونغ كونغ تغييراً جذرياً في بيئتها السياسية. ووصفت الحكومة الحالية في الجزيرة، بهذه المناسبة، أول من أمس الجمعة، العصر الجديد بأنه انتقال من الفوضى إلى النظام، مع التركيز الآن على استعادة الرخاء، بينما قالت وسائل إعلام صينية إن هونغ كونغ لم تعد مدينة متمردة.

وكانت السلطات الصينية قد تسلّمت هونغ كونغ من المملكة المتحدة في الأول من يوليو/تموز عام 1997، لينتهي بذلك حكم بريطاني للجزيرة دام 156 عاماً (ضمت بريطانيا جزيرة هونغ كونغ إليها باعتبارها جزءاً من معاهدة نانجينغ عام 1842، بعد أن انتصرت على الصين في ما يُعرف بحرب الأفيون). وجاء تسلّم الصين السلطة على المدينة بموجب الإعلان المشترك الذي وقّعت عليه حكومتا البلدين عام 1984، وقضى بعودة هونغ كونغ إلى الصين، في إطار صيغة "دولة واحدة ونظامان"، أي احتفاظ الجزيرة بنظام قانون مستقل تماماً، وإن كانت تابعة لجمهورية الصين الشعبية بصفتتها منطقة إدارية ذات درجة عالية من الحكم الذاتي.

وأتاح نظام عودة هونغ كونغ المشروطة إلى الصين هامشاً من الحرية والديمقراطية لسكان الجزيرة، على خلاف الصينيين المحكومين بسياسة الحزب الواحد. ومع مرور الوقت، أصبحت المدينة مركزاً مالياً واقتصادياً مهماً في شرق آسيا، وقد حظيت بعلاقات وطيدة مع الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، التي منحتها ميزة تنافسية في أسواق المال والأعمال العالمية استمرت عدة سنوات.

وحسب الإعلان المشترك بين الصين والمملكة المتحدة، فإنه ليس من حق السلطات الصينية، خلال خمسة عقود من تاريخ استعادة هونغ كونغ، التدخّل في سياسات هونغ كونغ الداخلية. لكن بعض الثغرات في بنود الاتفاق (اختيار الرئيس التنفيذي يكون على أساس الانتخابات الداخلية، ومن ثم يُعيّن بالتشاور مع الحكومة المركزية في بكين) دفع الصين إلى أول تدخّل في شؤون هونغ كونغ الداخلية عام 2014، حين أقر البرلمان الصيني إصلاح النظام الانتخابي في الجزيرة، الذي قضى باختيار ثلاثة مرشحين لمنصب الرئيس التنفيذي من قبل بكين قبل إجراء التصويت الشعبي. وتسبب هذا الأمر في اندلاع حركة احتجاجية غير مسبوقة في هونغ كونغ، عُرفت بـ"ثورة المظلات"، طالب فيها أكثر من 200 ألف متظاهر بالحرية والديمقراطية ووقف تدخّل الصين في شؤونهم الداخلية، قبل أن تعود الاحتجاجات في 2019 وتفرض تداعياتها المستمرة إلى اليوم واقعاً جديداً في الجزيرة.

ملامح التغيير عقب احتجاجات هونغ كونغ

تغير المشهد السياسي جذرياً بعد احتجاجات هونغ كونغ ومنذ أن فرضت بكين قانون الأمن القومي على المدينة في يونيو/ حزيران 2020. فقد قُضي على المعارضة، وأصبح العديد من قادتها الأساسيين خلف القضبان أو في المنفى. ومع استمرار المحاكمات لمن يعرفون باسم النشطاء المؤيدين للديمقراطية، وسط أرقام أفادت بأنه أجريت 2320 محاكمة منذ بدء احتجاجات هونغ كونغ في 2019، فإن محكمة الاستئناف النهائية، وهي أعلى محكمة في الجزيرة، شهدت في الأيام الأخيرة استقالتين. وأكد لورانس كولينز (83 عاماً) وجوناثان سامبشن (75 عاماً)، القاضيان السابقان في المحكمة العليا البريطانية، لوكالة فرانس برس، الأسبوع الماضي، استقالتهما. ويُدعى قضاة من دول يطبق نظامها القضائي القانون العام كي يكونوا أعضاء غير دائمين في أعلى محكمة في هونغ كونغ، وهي محكمة منفصلة عن النظام القضائي في الصين المسيطر عليه من قبل الحزب الشيوعي.

من جهة أخرى، تتكون الهيئة التشريعية اليوم بالكامل من أولئك الذين يعتبرون وطنيين بعد التغيير الانتخابي الذي أجرته بكين على دستور الجزيرة، وإقرار تشريع قانون في 2021 يلزم المرشحين بالولاء الوطني شرطاً للترشح للانتخابات التشريعية، والذي عد يومها أداة لاستبعاد أي مرشح معارض.

شهدت هونغ كونغ أيضاً خلال السنوات الأخيرة هجرة غير مسبوقة باتجاه الدول الغربية

وشهدت هونغ كونغ أيضاً خلال السنوات الأخيرة هجرة غير مسبوقة باتجاه الدول الغربية. وحسب أرقام حديثة صدرت عن مكتب الهجرة في المدينة في شهر مارس/ آذار الماضي، فإنه منذ احتجاجات هونغ كونغ، انتقل أكثر من 144 ألف شخص من سكان الجزيرة إلى المملكة المتحدة مستفيدين من برنامج الهجرة الذي توفره، في حين تدفق عشرات الآلاف إلى كندا وأستراليا في إطار مخططات وبرامج مماثلة. كما أنه وفق مقارنات البيانات السكانية في الجزيرة، فإن عدد سكان هونغ كونغ في الفئة العمرية بين 30 و50 عاماً تراجع بنحو 45 ألفاً في عام 2023 عما كان عليه الحال في عام 2019، وهو إشارة  إلى أن نسبة كبيرة من الشباب انتقلت إلى أماكن أخرى في السنوات الأربع التي تلت اندلاع احتجاجات هونغ كونغ.

لا مبالاة واضحة

وفي السياق، قال الطالب في جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا جو ميغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "معظم أصدقائي غادروا المدينة ويكملون دراستهم الجامعية الآن في الخارج، لم نعد نتحدث في الشأن العام، يبدو أننا بتنا نعاني أزمة انتماء لهذه الجزيرة التي كنا نحلم بأن تستمر في مسارها الديمقراطي". واستدرك بأنه "بعد أحداث يونيو 2019 وما تلا ذلك من إجراءات تأديبية وتقييدية للشباب، أصبحنا على الهامش، إذ لا دور لنا الآن في أي مشاركة". وأضاف أن "الجميع محبط، والنقاشات العقلانية والبناءة لم تعد موجودة، هناك حالة من اللامبالاة عند من بقوا في المدينة، أما الذين غادروا فيبدو أنهم اندمجوا تماماً في المجتمعات الغربية التي لجأوا إليها".

من جهته، اعتبر الناشط الحقوقي المقيم في هونغ كونغ جيانغ براون، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الطريقة التي جرى فيها التعامل مع الاحتجاجات الشعبية الواسعة أدت إلى تآكل الثقة وتدهور العلاقة بين الحكومة والشباب". وعبّر عن أسفه "لأنه لم تجرى مراجعة كاملة للأسباب التي أدت إلى الاضطرابات، خصوصاً أنها لم تكن صدى لقضية أمنية أو سياسية، بل كانت انعكاساً لأزمة ثقة وشعور عام بأن قادة المدينة متجهون نحو الانصهار التام في بوتقة البر الرئيسي الصيني".

ولفت إلى أن "طريقة تعامل السلطات مع صوت الشباب واتهام كل متظاهر بأنه انفصالي وغير وطني دفعا باتجاه عكسي وولدا حالة من الانطوائية واللامبالاة عند شريحة كبيرة من المجتمع". وأوضح أن "ما يؤكد حالة اللامبالاة أنه في أعقاب احتجاجات عام 2019، سُجّلت نسبة إقبال منخفضة بشكل قياسي في انتخابات العام التالي في ظل الإصلاحات التي أدخلتها بكين، فيما "كان الانخفاض واضحاً خصوصاً في الفئة العمرية بين 18 و30 عاماً، إذ انخفض إلى أقل من 8% حسب استطلاعات رأي محلية".

حرص مجتمعي

في المقابل، رفض الباحث في معهد لياونينغ للدراسات السياسية وانغ تشي يوان، في حديث مع "العربي الجديد"، فكرة أن سكان هونغ كونغ قد انسحبوا من الحياة الاجتماعية والمشاركة السياسية. وقال إن "هجرة الشباب كانت قائمة حتى قبل الاحتجاجات، سواء باتجاه البر الرئيسي الصيني حيث يبحث الشباب عن سبل تحسين مستوى المعيشة، أو باتجاه المملكة المتحدة التي دأبت على تقديم تسهيلات لسكان الجزيرة".

وانغ تشي يوان: الشباب الذين لم يتقبلوا أن هونغ كونغ جزء من الصين دفعوا الثمن وعليهم العودة إلى رشدهم

وأضاف أن "المظهر العام بأن الشباب غير مبالين بالشأن العام هو مجرد انعكاس للحرص المجتمعي ووعي الشباب بحدود وهامش المساحة التي يمكن أن يعبروا فيها عن آرائهم". ولفت إلى أن "الشباب الذين لم يتقبلوا فكرة أن هونغ كونغ هي جزء لا يتجزأ من الصين ضمن صيغة "دولة واحدة ونظامان" دفعوا الثمن، وعليهم العودة إلى رشدهم قبل المطالبة بالصفح عنهم وتأهيلهم للاندماج في المجتمع من جديد".

وبرأي مراقبين، فإنه من غير المرجح إقدام  بكين على أية خطوة باتجاه إصلاح سياسي لضمان تخفيف متطلبات الترشح للانتخابات في السنوات المقبلة مقارنة بالسنوات الماضية، إذ كان لدى أكبر حزب معارض في المدينة (الحزب الديمقراطي) ممثلون في المجلس التشريعي والمجالس المحلية أكثر من عقدين من الزمن، في حين أن الحزب المعارض الآن لم يعد لديه أي أعضاء منتخبين بعد التغيير السياسي. ووفق هؤلاء، فإنه مع مرور الوقت، سيعاني الحكم في المدينة من دون معارضة، إذ إن معظم سكانها الآن لا يريدون الانخراط في مناقشات جادة، وكل ما يريدون فعله هو السخرية من سياسات الحكومة، وهو اتجاه غير صحي حسب وصفهم.

المساهمون