تتفق كلّ السرديات التاريخية على أنّ اتحاد "روس كييف" أو "روس الكييفية" الذي أسسه على أراضي أوكرانيا التاريخية، الأمير ياروسلاف الحكيم، في القرن الحادي عشر للميلاد، شكَّل مهداً للقبائل السلافية، المتوزعة اليوم بين أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، وأنّه أول كيان سياسي للسلاف الشرقيين وضع أسس هويتهم الوطنية، ودخول غالبيتهم الساحقة الديانة المسيحية وفق المذهب الأرثوذكسي.
إلّا أنّ روسيا وأوكرانيا تتنازعان حول الأحقية في إرث "روس كييف" والأب المؤسس الأمير ياروسلاف، وتبنيان على ذلك مطالب سيادية، توظف في الخطاب السياسي الروسي لنفي وجود أوكرانيا وأحقيتها تاريخياً ككيان مستقل، في مواجهة النهج السيادي لأوكرانيا بعيداً عن فلك نفوذ روسيا وهيمنتها.
وأدى الموقع الجغرافي لأوكرانيا دوراً مميزاً عبر التاريخ، كنقطة وصل بين روسيا وأوروبا، وهو ما حدا بالمؤرخين أن يطلقوا عليها اسم "بوابات أوروبا".
لكنّ هذا الموقع الاستراتيجي تحوّل إلى لعنة، آخر فصولها ما يجري اليوم من صراع محتدم بين مخططات روسيا لإعادة رسم خريطة جيوسياسية تفرض من خلالها هيمنتها على فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، وإلحاق أوكرانيا بسيطرتها تحت شعار "فضاء تاريخي وروحي واحد" و"شعب واحد"، وبين سعي الغرب لتوظيف الأهمية الجيوسياسية لأوكرانيا في احتواء روسيا وتطويقها، منعاً لتهديد أمن واستقرار أوروبا حسب الادعاءات الأميركية والأطلسية.
مع ملاحظة أنّ كلا الطرفين ينظران إلى الصدام الجيوسياسي بينهما، كصراع سيؤدي دوراً محورياً في تحديد مستقبل كلّ منهما، وإن بدرجات مختلفة.
اتسمت سياسات الإمبراطورية الروسية تجاه أوكرانيا بالعمل على تذويب الهوية الوطنية للشعب الأوكراني، وتقويض ثقافته ومحو لغته
وإذا كان يصح القول إنّ "روسيا من دون أوكرانيا، هي مجرد بلد، بينما روسيا مع أوكرانيا هي إمبراطورية" وإنّه "من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تصبح قطباً سيادياً لعالم متعدد الأقطاب"، فمن الصحيح أيضاً أنّ "أوكرانيا من دون حوض دونباس (شرقي البلاد) ستكون دولة ضعيفة".
ويعتبر حوض دونباس السلة الغذائية لأوكرانيا، ويتركز فيه جزء مهم من ثرواتها الطبيعية وترسانتها الصناعية ومحطات توليد الطاقة والتدفئة. كما أن سيطرة روسيا على دونباس قد تفتح شهيتها للتقدم باتجاه "بحر أوزوف" الاستراتيجي، ما يعني اقتطاع معظم أراضي "نوفوروسيا" التاريخية (أو روسيا الجديدة، وهو مصطلح تاريخي للإمبراطورية الروسية يشير إلى إقليم شمال البحر الأسود وهو جزء من أوكرانيا اليوم).
من "روس كييف" إلى دونباس
حوض "دونتيس"، أو حوض "دونباس"، وهو الاسم الذي يشتهر به باللغة الأوكرانية، تمازجت على أرضه عبر التاريخ، الكثير من الشعوب والثقافات، شأنه شأن باقي الأراضي الأوكرانية التي وقعت تحت حكم إمبراطوريات مجاورة.
احتلت أوكرانيا مكانة تاريخية بتحولها إلى مركز للسلاف الشرقيين في القرن التاسع للميلاد، بتأسيس دولة اتحاد "روس كييف"، والتي استمرت حتى منتصف القرن الثالث عشر للميلاد، قبل أن تنهار نتيجة الغزو المغولي.
وحسب مؤرخين روس، انقسم شعب "روس كييف" السلافي الشرقي إلى ثلاثة فروع؛ "مالوروسي" (الروس الصغار) في الجنوب الغربي لأوكرانيا ويقصد بهم الأوكرانيون، و"بيلوروسي" (الروس البيض، وربما الاسم لأنّ بيلاروسيا لم تخضع لسيطرة المغول فظلت بيضاء) في الشمال الغربي، و"فيليكوروسي" (الروس العظام). علماً بأنّه كان يطلق على شرق روسيا "فيليكوروسيا" (روسيا العظمى).
وبعد انهيار "روس كييف"، وقعت الأراضي الأوكرانية تحت حكم دول مجاورة مثل ليتوانيا وبولندا، واندمجت في واحدة من أكبر وأقوى الممالك في أوروبا "الكومنولث البولندي الليتواني".
استمر هذا الاتحاد من القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، حيث ضمّ أراضي بولندا الحديثة وأوكرانيا وبيلاروسيا وليتوانيا ولاتفيا وغرب روسيا، وتفكك في نهاية القرن الثامن عشر، وقُسمت أراضيه بين النمسا وبروسيا والإمبراطورية الروسية.
وسُجل في هذه الحقبة، ظهور القوزاق كجماعة محاربة، أنشأوا دولة خاصة بهم، تحت اسم هيتمانات، لكنّها لم تعمّر طويلاً. شاركت مفارز القوزاق في جميع الحروب الكبرى في المنطقة تقريباً؛ إما كقوة عسكرية مستقلة أو كمرتزقة، وتحالفوا مع "خانية القرم" التي أسسها تتار القرم، وانتهت بدورها أيضاً.
ويشار هنا إلى أنه وكنتيجة لـ"حرب الشمال العظمى" (1700- 1721)، بين تحالف بولندا وروسيا والدنمارك ضد السويد، والتي انتهت بهزيمة الأخيرة، تحوّلت روسيا إلى إمبراطورية تفرض سيطرتها على بحر البلطيق.
وفي معاهدة "كوتشوك كاينارجا" عام 1774، بعد ست سنوات من الحرب انتهت بهزيمة العثمانيين، انتزعت الإمبراطورية الروسية الأراضي الشرقية والجنوبية من أوكرانيا بالإضافة إلى القرم.
وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر تقلبات في العلاقة بين أوكرانيا والإمبراطورية الروسية، التي تنازعت السيطرة مع بولندا على أوكرانيا. وبحلول القرن التاسع عشر، خضع الجزء الأكبر من أراضي أوكرانيا للإمبراطورية الروسية، وما تبقى منها كان تحت سيطرة الإمبراطورية النمساوية والهنغارية.
سياسات الإمبراطورية الروسية تجاه أوكرانيا
واتسمت سياسات الإمبراطورية الروسية تجاه أوكرانيا بالعمل على تذويب الهوية الوطنية للشعب الأوكراني، وتقويض ثقافته ومحو لغته. فعملت على نشر اللغة الروسية بين المواطنين الأصليين في أوكرانيا، جنباً إلى جنب مع رفض الاعتراف باللغة الأوكرانية.
وحاولت الإمبراطورية الروسية فرض ذلك بموجب مراسيم حكومية قيصرية، منها مرسوم أصدره بطرس الأكبر عام 1720 يحظر طباعة الكتب باللغة الأوكرانية، ومرسوم أصدرته الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية عام 1763 يمنع المحاضرات باللغة الأوكرانية في أكاديمية "كييف موهيلا" (الجامعة الوطنية).
وفي عام 1769، حرّم المجمع المقدس طباعة واستخدام كتاب الأبجدية الأوكرانية. ولم تتوقف هذه السياسات، فقد تم تقييد استخدام اللغة الأوكرانية داخل الإمبراطورية الروسية من خلال ما يسمى "تعميم فالوف" عام 1863، وحُظر لاحقاً استخدام أي مطبوع باللغة الأوكرانية، باستثناء الوثائق القديمة ذات الطابع الديني.
وعلى الرغم من تخفيف القيود على اللغة الأوكرانية بين عامي 1905 و1917، وتكريس القوانين التي صدرت خلال الحقبة السوفيتية حق التعليم والتأليف والنشر باللغات الأصلية لشعوب الاتحاد السوفييتي، بقيت اللغة الروسية هي المهيمنة وأصبحت اللغة الرسمية في كل جمهوريات الاتحاد.
وبعد سقوط الإمبراطورية الروسية، وقيام الثورة البلشفية، استقلت أوكرانيا لفترة وجيزة، قبل أن يعود الجيش الأحمر السوفيتي لإخضاعها عسكرياً. وجرت في ظل الاتحاد السوفييتي مبادلات في الأراضي بين جمهوريات الاتحاد، حصلت بموجبها أوكرانيا عام 1922 على أوديسا، ودونيتسك، ودنيبر، وخاركوڤ، وغيرها من الأراضي التي كانت خاضعة لروسيا.
يعتبر حوض دونباس السلة الغذائية لأوكرانيا، ويتركز فيه جزء مهم من ثرواتها الطبيعية وترسانتها الصناعية
خريطة أوكرانيا الحديثة
قبل ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 (إقامة حكومة بولشيفية في روسيا، وعودة فلاديمير لينين من المنفى)، كانت أراضي منطقة دونيتسك الحديثة، جنوب شرقي أوكرانيا وغرب نهر كالميوس، جزءاً من منطقتي باخموت وماريوبول في مقاطعة يكاترينوسلاف، بينما كانت المناطق الواقعة شرق نهر كالميوس تابعة لقوزاق الدون.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، (بعد إلغاء نظام العبودية)، حدثت ثورة صناعية في المنطقة، ارتبطت بزيادة كبيرة في تعدين الفحم وتطوّر الصناعات ذات الصلة.
وساهم البناء السريع للسكك الحديد بإحداث طفرة في الإنتاج المحلي، والذي ساهم بدوره في ظهور وتطوير مفهوم العزلة الإدارية لحوض الفحم في دونيتسك ومنطقة كريفوي روغ.
ولم يكن الصناعيون في جنوب روسيا، راضين عن تقسيم منطقة دونيتسك- كريفوي روغ بأكملها إلى ثلاث وحدات إدارية (يكاترينوسلاف وخاركوف ومنطقة الحكم الذاتي لقوزاق الدون).
وبحلول عام 1917، تشكّل إجماع بين النخب الاقتصادية والسياسية في منطقة دونيتسك- كريفوري روغ، حول الحاجة إلى توحيد مناطق الفحم والمعادن في منطقة واحدة مع عاصمة في خاركوف أو يكاترينوسلاف. وفي فبراير/شباط عام 1918، تم إعلان جمهورية دونيتسك- كريفوي روغ السوفييتية.
وبناءً على اقتراح من مؤسس الدولة السوفييتية، فلاديمير لينين، في فبراير 1919، تم حلّ هذه الجمهورية، وجرى في عام 1922 ترسيم منطقة دونيتسك كوحدة إدارية جديدة تابعة لأوكرانيا.
ولاحقاً، تم إنشاء وحدة إدارية جديدة في أوكرانيا عام 1932 تحت اسم منطقة دونيتسك، وأعيد تقسيمها عام 1938 إلى منطقتين: ستالين (الآن دونيتسك) وفوروشيلوفغراد (الآن لوغانسك).
وفي عام 1939، وبموجب اتفاقية "مولوتوڤ- ريبنتروب"، ضم الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين الأراضي الغربية إلى أوكرانيا والتي كان بعضها تابعاً لهنغاريا. واكتملت خريطة أوكرانيا بحدودها المعترف بها اليوم، عندما اتخذ الزعيم السوفييتي نيكيتا خرشوف قراراً بضم جزيرة القرم إلى أوكرانيا في عام 1954.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، اعترفت روسيا الاتحادية بحدود أوكرانيا، بما فيها جزيرة القرم. لكن سرعان ما طفت الخلافات مجدداً على السطح بين روسيا وأوكرانيا، بعد تولي فلاديمير بوتين السلطة.
وقد أطلق الشرارة الأولى لهذه الخلافات قيام موسكو ببناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة كوسا توسلا الأوكرانية، الأمر الذي اعتبرته أوكرانيا محاولة روسية لفرض حدود جديدة بين الدولتين.
طفت الخلافات مجدداً على السطح بين روسيا وأوكرانيا، بعد تولي فلاديمير بوتين السلطة
سنوات الجمر بين روسيا وأوكرانيا
وقفت موسكو ضد "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام 2004، ودعمت المرشح المقرب منها في الانتخابات الرئاسية فيكتور يانوكوفيتش، لكنّه خسر في مواجهة منافسه المقرب من الغرب فيكتور يوشينكو، الذي شهدت العلاقات الروسية الأوكرانية في فترة حكمه أزمات غير مسبوقة، ومنها توقف إمدادات الغاز نحو أوروبا.
وعلى الرغم من نجاح روسيا في إيصال يانوكوفيتش إلى سدة الرئاسة في انتخابات 2010، إلا أن سنوات حكمه أججت حالة العداء الشعبي لروسيا، وأطيح به في فبراير/ شباط 2014 باحتجاجات شعبية عارمة استمرت أربعة أشهر في "الميدان الأوروبي" في كييف، رفضاً لتخليه في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 عن اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واختيار بدلاً من ذلك توثيق العلاقة مع روسيا.
وكردّ فعل على ما حصل، وبعد تحذيرها من هجمات للقوميين الأوكرانيين على المناطق الجنوبية الشرقية من أوكرانيا، والتي صوتت لصالح يانوكوفيتش ومعروفة براوبطها التاريخية والاجتماعية مع روسيا، سيطرت قوات خاصة روسية على المراكز الاستراتيجية في شبه جزيرة القرم مطلع مارس/آذار 2014.
وأعلن بوتين لاحقاً في الشهر ذاته، ضم القرم إلى روسيا، بعد استفتاء نُظّم على عجل، وصوتت فيه الأغلبية الساحقة لصالح الانضمام إلى روسيا.
واتخذت الأزمة الأوكرانية طابعاً أكثر حدّة وخطورة حين أعلن الانفصاليون بشكل أحادي في 11 مايو/ أيار 2014، استقلال منطقتي لوغانسك ودونيتسك في حوض دونباس، الذي تسكنه غالبية تتحدث اللغة الروسية، إثر استفتاء اعتبرته كييف غير قانوني، واندلعت الحرب بين الانفصاليين والجيش الأوكراني، انتهت بهزيمة الأخير، وتوجيه أوكرانيا أصابع الاتهام لروسيا بتدخلها عسكرياً دعماً للانفصاليين.
"نوفوروسيا" أحلام إمبراطورية
تُقدر مساحة إقليم دونباس بنحو 52.3 ألف كيلومتر مربع، وهي مساحة صغيرة جداً مقارنة بمساحة روسيا التي تزيد عن 17 مليون كيلومتر مربع، ولا يتجاوز عدد سكان الإقليم 4.5 ملايين نسمة.
وحسب البيانات، فإنّ معظم سكان دونباس يستخدمون الروسية في تعاملاتهم اليومية، على الرغم من أنّ الروس لا يشكلون أكثر من 39 في المائة من العدد الإجمالي للسكان في المنطقة. وينطبق الحال على استخدام الروسية في معظم المناطق من خاركوف حتى أوديسا، على الرغم من أنّ نسبة الروس تتراجع هناك إلى أقل من 20 في المائة.
وعلى الرغم من نفي روسيا أي نية لغزو أوكرانيا، فإنّ المسؤولين الروس يؤكدون أنّ موسكو لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تعرض الروس في أوكرانيا للخطر.
وبعد أحداث القرم وشرقي أوكرانيا، توجه كثير من "المتطوعين" الروس لحماية أبناء جلدتهم. وأطلق القوميون الروس حملتهم تحت شعار الدفاع عن "نوفوروسيا" (روسيا الجديدة)، وهو مصطلح يستخدم عند الإشارة إلى مناطق شاسعة في شمال البحر الأسود، تم ضمها إلى الإمبراطورية الروسية نتيجة الحروب الروسية - التركية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
وتحوّلت تلك المنطقة من سهوب غير مطورة يقطنها رعاة بدو، إلى منطقة صناعية قوية، أصبحت العمود الفقري للاقتصاد في البداية للإمبراطورية الروسية، ثم لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية.
وبدأ استخدام "نوفوروسيا" في عهد الإمبراطورة يكاتيرينا الثانية (حكمت روسيا ما بين 1762 و1796)، وضمّت المنطقة، التي كان ينظر إليها على أنّها المركز الجديد لنهضة الإمبراطورية، إضافة إلى دونيتسك ولوغانسك، مقاطعات زابروجيه، وخاريسون، وبيسارابيان، ومنطقة كوبان، والبحر الأسود، وشبه جزيرة القرم، ومقاطعات ستافروبول، ومنطقة قوزاق الدون.
ويبدو واضحاً التداخل الجغرافي الكبير في خريطة "نوفوروسيا" بين دولتي روسيا وأوكرانيا المعاصرتين.
ورقة جيواستراتيجية أم أكثر؟
يتهم الغرب روسيا بمحاولة استغلال الوضع الناشئ في دونباس لإعادة خلط الأوراق وانتزاع تنازلات من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بوضع اشتراطات ومطالب يصعب تنفيذها.
كما أدت السياسات الروسية تجاه الأزمة الأوكرانية، دوراً كبيراً بخلق تباين حاد في مواقف أطراف النزاع، تسببت في إفشال فرص تنفيذ "اتفاقيات مينسك"، التي وقّع عليها ممثلون عن حكومتي روسيا وأوكرانيا، وعن القوات الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بهدف إنهاء الحرب في منطقة دونباس، شرقي أوكرانيا.
ودانت أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة توقيع الرئيس الروسي في نوفمبر الماضي، على مرسوم "الدعم الإنساني لسكان أراض معينة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك"، والذي يعتبر، حسب خبراء، خطوة متقدمة على طريق ضم دونباس لروسيا.
ويؤكد ما سبق، تصريحات أدلى بها الشهر الماضي رئيس جمهورية لوغانسك الانفصالية، ليونيد باشنيك، وأعرب فيها عن ثقته بأن دونباس ستصبح جزءاً من روسيا "حالما يحين الوقت".
أدت السياسات الروسية تجاه الأزمة الأوكرانية، دوراً كبيراً بخلق تباين حاد في مواقف أطراف النزاع
ومع استبعاد إقدام روسيا على اجتياح شامل للأراضي الأوكرانية، لما سينتج عن ذلك من كلفة سياسية واقتصادية كبيرة، وربما عسكرية بالنسبة لموسكو، إلّا أنّه من غير المستبعد أن يسعى بوتين إلى سلخ منطقة دونباس عن أوكرانيا.
لكنّ لمثل هذه الخطوة محاذير كبيرة، سواء أقدمت عليها روسيا بتحرك مباشر أو بحرب بالوكالة تلقي بثقلها فيها إلى جانب الانفصاليين في دونيتسك ولوغانسك.
فمن شأن ذلك أن يغلق أبواب تسوية الأزمة الأوكرانية سياسياً، ويضع العلاقات الروسية مع الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي على حافة الهاوية، لا تعيد الجميع إلى أجواء الحرب الباردة فقط، بل إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية التي أشعلتها مطامع النازيين بفرض خريطة جيوسياسية لصالحهم.
وهذا ما يفسر رفض الولايات المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تقديم تنازلات في ردهم على المطالب الأمنية الرئيسية التي تقدمت بها روسيا نهاية العام الماضي.
فالمسألة حسب تقدير الولايات المتحدة والغرب عموماً، لا تتعلق بالأزمة الأوكرانية، إنما بإعادة هيمنة روسيا على فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، الذي يضم الدول التي كانت منضوية فيه ودول ما كان يسمى بالكتلة الشرقية، وهذا جوهر مطالبة موسكو بعودة حدود حلف الأطلسي إلى ما قبل عام 1997.
وبناء على تأكيد بوتين أكثر من مرة في خطاباته ومقالته المنشورة في يوليو/تموز الماضي أنّ "السيادة الحقيقية لأوكرانيا ممكنة فقط بالشراكة مع روسيا" وأنّ "أوكرانيا الحديثة هي نتاج خالص للحقبة السوفييتية، ونحن نعلم ونتذكر جيداً أنّها قد تشكلت، بمعظمها، على أراضي روسيا التاريخية" ربما تتكشف النظرة الروسية للحلّ الأفضل في أوكرانيا.
وتتمثل هذه النظرة في أن تكون أوكرانيا طوعاً أو كرهاً تحت سيطرة الكرملين، وإلّا فالتقسيم وتخليها عن الأراضي التي منحت لها من القادة السوفييت، الذين انتقد بوتين زعيمهم الأول فلاديمير لينين بحدة في بداية 2016. وقد قال حينها إنّ أفكار لينين "أدت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وفعلياً زرع هو ورفاقه قنبلة ذرية تحت مبنى يسمى روسيا، ثم فُجِّرَت في ما بعد بسبب هذه الأفكار، ومنها حق تقرير المصير".
وفي حين يتهم الغرب بوتين بأنّه يريد إحياء الاتحاد السوفييتي، فمن الواضح أنّ خطواته وتصريحاته تريد الذهاب أبعد بكثير إلى محاولة إحياء الإمبراطورية الروسية (1721 – 1917).