خطة نتنياهو لـ"اليوم التالي" للحرب: مراوغة وضبابية وتكرار للمعلن

23 فبراير 2024
وثيقة نتنياهو تكشف النوايا الحقيقية للاحتلال (Getty)
+ الخط -

معظم النقاط الواردة في الوثيقة لا تختلف عن مواقف نتنياهو المعلنة

نتنياهو يسعى لممارسة الضغط على الوسطاء وحماس قبيل اجتماع باريس

نتنياهو يحاول تضييق الخناق على منافسيه حتى من داخل الحكومة

يكتنف الكثير من الغموض "المتعمّد" على ما يبدو والتناقضات الوثيقة التي قدّمها رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابنيت)، حول خطته لما يُسمى "اليوم التالي" للحرب على غزة، التي تضمن السيطرة الأمنية على القطاع، بما في ذلك الحدود مع مصر.

ويحرص نتنياهو، الباحث عن صورة نصر في حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، على إحالة مواقفه إلى الأوراق في الأيام الأخيرة. فبعد جلبه قراراً، صوّت عليه الكنيست، ينص على رفض إقامة دولة فلسطينية من جانب واحد، قدّم أخيراً ورقته عن "اليوم التالي".

وعلى الرغم من توالي ردود الفعل عليها باعتبارها تكريساً للاحتلال والاستيطان في غزة، ومنع إقامة دولة فلسطينية وغير ذلك، إلا أن معظم النقاط التي شملتها لا تختلف عن مواقف نتنياهو المعلنة، والتصريحات التي يكررها في الفترة الأخيرة بشأن استمرار سيطرة إسرائيل الأمنية في كل المنطقة الواقعة غرب نهر الأردن، وبكلمات أخرى في كل أرجاء فلسطين المحتلة.

لا جديد إذاً في حديثه عن إدارة مدنية وجهات في غزة تتولّى إدارة شؤون القطاع، بعيداً عن حركة حماس، وكذلك إقامة منطقة عازلة، وإبقاء قوات إسرائيلية في القطاع، وإقامة حاجز بين غزة ومصر يكون تحت السيطرة الإسرائيلية، علاوة على أن تكون غزة منزوعة السلاح، وتغيير مناهج التعليم، وحفاظ إسرائيل على حرية الحركة والعمليات في غزة.

ألاعيب نتنياهو

لكن المختلف أن نتنياهو يطرحها مكتوبة لأول مرة، ويمنحها صدى أكبر، تأكيداً لموافقه ولإعطائها صبغة رسمية، وإحراجاً لخصومه السياسيين، ولاستخدامها لاحقاً للترويج لنفسه ومواقفه داخلياً وخارجياً، مثل ما فعل بمسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حين سارع للتفاخر، في خطابين باللغتين العبرية والإنكليزية، بالأغلبية الاستثنائية، قائلاً: "لا أتذكر الكثير من عمليات التصويت، ولا حتى القليل منها، التي صوّت فيها الكنيست بأغلبية 99 صوتاً، ما يقرب من 100 عضو كنيست، من أصل 120، على اقتراح ما".

إحدى ألاعيب نتنياهو دفعت حتى رئيس المعارضة يئير لبيد للتصويت مع القرار، رغم تأكيد الأخير أنه فحص مع الإدارة الأميركية ما إن كانت ثمة تحركات للاعتراف بدولة فلسطينية من جانب واحد، وتبيّن له أنه "لا يوجد شيء من هذا القبيل. هذا اقتراح للتمويه"، في إشارة منه إلى نتنياهو.

وأوضح لبيد أنه صوّت لصالح القرار رغم انتقاده نتنياهو، لأن حزبه "يعارض الإجراءات أحادية الجانب، حتى لو لم تكن مطروحة على الطاولة".

وفي ظل حديثه المتكرر عن استمرار الحرب حتى تحقيق "النصر المطلق"، من دون توضيحه، ورغم تأكيد مسؤولين ومراقبين إسرائيليين استحالة ذلك، إلا أن نتنياهو ينجح في الترويج لشعاره بين الإسرائيليين، يضاف إليه جميع مواقفه لخطة "اليوم التالي"، محاولاً تضييق الخناق على منافسيه، حتى من داخل الحكومة، وقد يصوّر لاحقاً رفض تصويتهم على هذه المواقف، أو انسحابهم من الحكومة، رفضاً من قبلهم لتحقيق أهداف الحرب التي حددها.

ونجح نتنياهو على ما يظهر من خلال "توريق" مواقفه وتصريحاته بجعل الانشغال الإعلامي بها أكبر.

محاولة نسف محادثات باريس

وقُدّمت الوثيقة إلى "الكابنيت" ساعات معدودة قبل انطلاق جولة جديدة من المفاوضات في باريس، من خلال الوسطاء الساعين إلى صفقة جديدة بين إسرائيل وحركة حماس.

ربما جاء ذلك في محاولة من نتنياهو لنسف أي تقدّم، من خلال إظهار مواقف متشددة ضد حركة حماس ومستقبل القطاع الذي يريده نتنياهو خالياً منها. كما يكرر دعواته للقضاء عليها وعلى حركة الجهاد الإسلامي، وأي أثر للمقاومة، وبالتالي دفعها إلى رفض صفقة لا تضمن "بقاءها"، رغم إدراك نتنياهو وتقارير إسرائيلية كثيرة أنه لا يمكن تحقيق "النصر المطلق" ولا القضاء على المقاومة.

وقد تكون محاولةً من نتنياهو للضغط أكثر على الوسطاء، وعلى حماس، لتليين أكبر لمواقف الحركة مقابل "تنازلات" أقل من طرف إسرائيل.

مع هذا، تحمل وثيقة "اليوم التالي" رسالة إلى الإسرائيليين أنفسهم، خلاصتها أن لديهم رئيس حكومة "قوياً"، لا يهاب أحداً ولا يتراجع عن مواقفه، في محاولة لترميم مكانته التي بدأت تتراجع منذ بدء حكومته بتمرير تعديلات تقويض جهاز القضاء، ثم تحطمت كلياً عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/ تشرين الثاني، وانهيار مفهوم "الردع" الإسرائيلي، وتوجيه المقاومة ضربة لإسرائيل غير مسبوقة.

يدرك نتنياهو أن لورقته تأثيرا داخليا، وإن كان محدوداً في الوقت الراهن، على الإسرائيليين، الذين تشير استطلاعات الرأي إلى تأييدهم استمرار الحرب على غزة حتى "تحقيق النصر"، ولو كان معظمهم إلى الآن يرفض تولي نتنياهو منصب رئاسة الحكومة بعد الحرب.

في المقابل، يدرك نتنياهو أن وثيقته بعيدة المنال وتتطلب جهوداً دولية وفلسطينية متخاذلة، ولكنها تبقى رغم ذلك غير قابلة للتحقيق.

ويحاول نتنياهو وضع نفسه فوق الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بدعوته إلى إغلاق وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (أونروا) واستبدالها بوكالات مساعدة أخرى. ولكنه لن يستطيع فرض هذا التوجه على أرض الواقع، ويصعب تخيّل تعاون العالم معه. وفي المقابل، لا يستطيع الاحتلال الإسرائيلي تحمّل مسؤولية نحو مليوني فلسطيني في القطاع وحده، ومن دون دعم دولي.

تناقضات وثيقة نتنياهو

في الجانب الأمني، تبرز في وثيقة المبادئ التي قدّمها نتنياهو بعض التناقضات، من بينها أن الإدارة المدنية للقطاع ستكون من قبل "جهات محلية لديها خبرات إدارية"، وألا تكون تلك الجهات "مؤيدة لسياسيات أو جهات داعمة للإرهاب أو تتلقى منها راتباً"، وفقاً لمفهوم نتنياهو.

ومن الصعب التفكير بجهات مع خبرة في هذا المضمار، على مر السنوات الماضية، إلا من كانوا منخرطين في حركتي فتح أو حماس بالأساس، والفصائل عامّة، أو يتلقّون منها راتباً، في حين ترفض حكومة نتنياهو التعامل مع السلطة الفلسطينية، وتتهمها كذلك بدعم الإرهاب، كما تعتبر أن حماس حركة إرهابية.

وسبق أن فشلت إسرائيل في محاولات سابقة لترويج أن قبائل وعشائر يمكن أن تدير غزة. ومن جهة أخرى، لا يشير نتنياهو بوضوح في تصوّره إلى أن السلطة لن تأخذ دوراً في غزة.

وفي موضوع تغيير المنهاج التعليمي في غزة، فإن إسرائيل لا تقبل بالمنهاج الفلسطيني في القدس المحتلة أيضاً، ثم إن القتل والدمار والفقر واليُتم والجوع وكافة المآسي التي زرعتها في قطاع غزة ستبقى راسخة لدى جيل، سيكبر من تُكتب له الحياة منه وسط هذه المشاهد والمعاناة، ولا يمكن لمنهاج تعليمي حتى لو كان إسرائيلياً خالصاً تغيير ما حفرته الحرب، ولكن قبل كل شيء فإن "النصر المطلق" لم يتحقق ولا حتى صورة منه، حتى بتقدير الكثير من الإسرائيليين.

السعودية والإمارات

في سياق متصل، يرى الكاتب والمحلل السياسي في موقع "والاه" العبري باراك رافيد أن نتنياهو يشير إلى السعودية والإمارات بقوله إن الخطة ستنفّذ "قدر الإمكان بمشاركة ومساعدة الدول العربية التي لديها خبرة في تعزيز مكافحة التطرف في أراضيها".

ومع ذلك، يقول الكاتب: "أوضحت هاتان الدولتان علناً وعبر رسائل هادئة إلى نتنياهو أنّهما لن تشاركا في "اليوم التالي" في قطاع غزة من دون مشاركة السلطة الفلسطينية، ومن دون موافقة إسرائيل على حل الدولتين".

المناورة بين أربعة عوامل

من جانبه، يعتقد المحلل ومراسل الشؤون العسكرية في "يديعوت أحرونوت" رون بن يشاي أن نتنياهو يقدّم خطته لـ"اليوم التالي" محاولاً المناورة بين أربعة عوامل، تملي كل منها عليه حزمة قيود سيضطر لأخذها بعين الاعتبار.

وذكر أن خطة نتنياهو تنقسم الى ثلاث مراحل زمنية، و"المثير في الأمر أن نتنياهو لا يقول لا للدولة الفلسطينية على المدى البعيد، ويترك هذه المسألة غامضة. ويطالب بفرض سيطرة أمنية إسرائيلية كاملة على الضفة وغزة في كل المراحل، لكنه يتجنّب الحديث عن الوضع السياسي السيادي لهذه المناطق، التي يرى أنها يجب أن تكون منزوعة السلاح".

مع هذا، "يبدو أنه ينوي حتى على المدى البعيد استمرار الوضع القائم في الضفة، ونسخه أيضًا إلى قطاع غزة"، على حد تعبير بن يشاي.

وتدار الضفة الغربية بمزيج من السلطة الفلسطينية والحكم المدني والعسكري الإسرائيلي، فيما لا توجد مستوطنات في قطاع غزة، وبالتالي يتحدّث نتنياهو عن سيطرة أمنية إسرائيلية هناك بالاشتراك مع "عناصر محليين ذوي خبرة في الإدارة، لا علاقة لهم بمنظمات تدعم الإرهاب ولا يحصلون على رواتب منها"، على حد تصوره.

ويعني هذا، بحسب رأي الكاتب، "إدارة مدنية لا تتدخل فيها إسرائيل ولا سلطة أبو مازن (محمود عباس) الفلسطينية في الشؤون المدنية"، لكنه "لا يجدي على المدى البعيد.. ويُفهم من خطة نتنياهو أنه في حال غيّرت السلطة الفلسطينية طبيعتها وجوهرها على النحو الذي يطلبه الأميركيون، فإنه يمكن على المدى البعيد دمجها باعتبارها لا تدعم الإرهاب. لكن يبدو أن نتنياهو يشير بوضوح إلى أنه لا يريد جهة فلسطينية تكون بمثابة السلطة العليا للحكم المدني في القطاع، بل جهات عربية أو دولية".

وبمعنى آخر، "على المدى القريب، يستبعد نتنياهو إمكانية سيطرة السلطة الفلسطينية بشكلها الحالي على القطاع، كما أن حماس والجهاد الإسلامي لن تقوما بهذا الدور، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة لقطر وتركيا، اللتين تعتبرهما إسرائيل داعمتين للإرهاب، فمن بقي؟ مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي ستشرف معاً على حكومة مدنية محلية في غزة، ربما من بين أولئك الذين كانوا في السابق مسؤولين ورجال شرطة في السلطة الفلسطينية وما زالوا يتلقون رواتبهم منها".

العوامل الأربعة التي يحاول نتنياهو المناورة بينها وإرضاءها من خلال وثيقته، برأي بن يشاي، هي الاحتياجات الأمنية لإسرائيل كما يراها هو في المراحل الزمنية المختلفة، ومطالب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي تقترح أن تتولى "سلطة فلسطينية متجددة" السيطرة المدنية على القطاع وفرض القانون والنظام هناك، وعنصر ثالث في هذه المعادلة، هو الجناح القومي الديني في الائتلاف الحاكم الحالي، الذي يريد أن تسيطر إسرائيل على القطاع وتجديد الاستيطان، فيما العامل الرابع هو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي لها أيضاً متطلبات واضحة في ما يتعلق بـ"اليوم التالي" على المدى القصير والمتوسط ​​والبعيد.

تلبية بعض مطالب جيش الاحتلال

"الأمر المثير للاهتمام"، برأي الكاتب، "هو أن نتنياهو لم يستجب في الوقت الراهن إلا لمطالب المؤسسة الأمنية ووزير الأمن يوآف غالانت، بإنشاء مناطق عازلة على أطراف قطاع غزة"، لتأمين المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بغزة، وإحباط أي هجوم على غرار ما حدث في 7 أكتوبر.

وأضاف: "ستكون هذه المنطقة العازلة بعرض كيلومتر واحد على الأقل. إضافة إلى ذلك، ينوي نتنياهو إقامة حاجز جنوبي، بالتعاون مع مصر والولايات المتحدة، تماماً كما اقترح الوزير غالانت قبل بضعة أسابيع".

ولا يخوض نتنياهو في تفاصيل هذه المسألة، و"من الواضح أنه يترك المجال لمفاوضات طويلة ومفصّلة حول هذه الأمور مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والإدارة الأميركية في واشنطن"، وفق تصور بن يشاي.

وحسب بن يشاي، أبقى نتنياهو على حالة من الغموض في ما يتعلق بإمكانية الإقدام على عملية إسرائيلية واسعة في رفح، في إطار زمني محدد، و"من المحتمل أن يكون ذلك قد تم بنية السماح أولاً بصفقة لإطلاق سراح الرهائن (المحتجزين الإسرائيليين في غزة)، وحتى لا يلزم نفسه بذلك، خاصة أن الالتزام باحتلال رفح قد يحبط مثل هذه الصفقة".

من يكون الطرف الآخر؟

من جهته، أشار رئيس جهاز "الموساد" ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي سابقا أفرايم هليفي إلى وجود عدة تناقضات في وثيقة نتنياهو.

وقال في حديثه لإذاعة الجيش الإسرائيلي اليوم الجمعة: "من جهة، جاء فيها أنه لا توجد جهات فلسطينية قائمة نحن على استعداد للتفاوض معها، ولاحقاً تذكر أن إسرائيل لن تقبل بأي إملاءات دولية بشأن تسوية مع الفلسطينيين، وأن تسوية من هذا النوع تحصل فقط بالتفاوض بين الجانبين من دون شروط مسبقة".

وأضاف: "في هذه الحالة، أنا أعرف الجانب الإسرائيلي، ولكن من هي الجهة الفلسطينية؟ واضح أن من وجهة نظر هذه الورقة (لنتنياهو) لا يوجد طرف فلسطيني في الوقت الراهن. وكُتب في الورقة أن إسرائيل ستسيطر على الأرض في جميع القضايا المهمة، وهذا يعني أن إسرائيل ستتفاوض مع نفسها".

وتابع: "واضح أن إسرائيل تسعى على الأقل بطريقة غير مباشرة إلى أن تقوم هي بإنشاء السلطة الفلسطينية التي ستدير قطاع غزة معها. ولكن بهذا الشكل، لا أعتقد أنه ستكون هناك جهات فلسطينية مقبولة لدى الجمهور الفلسطيني، لتدير المفاوضات من طرفهم".

المساهمون