خطة بايدن... كيف تنصب الولايات المتحدة الفخاخ في لغة الاتفاقات؟

18 يونيو 2024
جو بايدن يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة 4 يونيو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- خطة بايدن لإنهاء الحرب على غزة تعيد استخدام أساليب "الغموض اللغوي" المماثلة للسياسات الإسرائيلية السابقة، مما يثير تساؤلات حول نواياها وإمكانية تحقيق سلام عادل.
- التغييرات اللغوية في الخطابات والقرارات الدولية تفتح المجال لتفسيرات متعددة، مما يسمح بالمناورة الإسرائيلية ويعقد عملية السلام.
- "حماس" تطالب بصياغة واضحة ومحددة لتجنب الغموض الذي استغلته إسرائيل في الماضي، في حين يظهر التاريخ استغلال نتنياهو للغموض لصالح إسرائيل، مما يعزز الشكوك حول إمكانية التوصل إلى اتفاق عادل.

تتركنا الخطة التي طرحها الرئيس الأميركي جو بايدن لإنهاء الحرب على غزة أمام سؤال منطقي: إذا كانت الأخيرة "متطابقة" مع المقترح الذي وافقت عليه حماس آنفًا في السادس من مايو/أيار الماضي، كما يقول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، فلماذا يُعاد تحويرها لغويًّا؟ وإخراجها في صورة مقترح إسرائيلي؟ وما الذي يمكن أن يستتبعه تغيير مفردة أو إسقاط حرف هنا أو هناك؟ تحيلنا تلك الأسئلة على عقود من سياسة "الغموض اللغوي" التي ما زالت تتحرّاها إسرائيل، ورعاتها، منذ المعاهدة الأولى في الصراع، طلبًا لأحد هذه الأهداف، أو كلها مجتمعة، كما يشرح جويل سينغر، الذي كان أحد مفاوضي إسرائيل الرئيسيين على مدار 25 عامًا: إيجاد لغة مخففة من لغة التسليم المطلق لمطالب الطرف الآخر؛ الإبقاء على مساحة تفسيرية واسعة؛ ترك احتمالات المناورة مفتوحة للمستقبل. كانت حالة نص القرار 242، الذي أعقب حرب الأيام الستة عام 1967، أحد الأمثلة التي تلاقت فيها كلّ تلك الأهداف مجتمعة؛ واليوم، يبدو أن كثيرًا مما حدث آنذاك يكرر نفسه.

 "لام التعريف" مجدّدًا تظهر في خطاب بايدن

رغم أنّ تفاصيل خطة بايدن لم تطرح بشكل كامل في الإعلام بعد، إلا أن التصريف اللغوي الذي استخدمه الأخير عند الحديث عن الانسحاب من غزّة، وضمّنت لاحقًا في قرار مجلس الأمن، يذكّر بالحيلة الصياغية المضمّنة في قرار 242 إيّاه، حينما أُسقطت لام التعريف في النسخة الإنكليزية من القرار، بخلاف النسخ الفرنسية والإسبانية والصينية، ليصبح منصوصه "انسحاب قوات إسرائيل المسلّحة من أراضٍ احتلّت في النزاع الأخير"، بدلًا من "الأراضي التي احتلت". آنذاك، خرج مندوب بريطانيا في مجلس الأمن، اللورد بارون كارادون، ليقضي بأن هذه الصيغة نهائية ولا تقبل المساومة، وبأنّه لا مناص لجميع الأطراف من الالتزام بها. يسلك بايدن المسلك ذاته اليوم حينما يتحدّث عن "انسحاب قوات إسرائيلية"، لا "القوات الإسرائيلية"، من غزّة، مستطردًا، في نبرة إلزام، بأن على "حماس" الموافقة على الاتفاق، ثمّ مثبّتًا ذلك في قرار من مجلس الأمن، حظي بإجماع كالذي حظي به قرار 242، إلا من روسيا/الاتحاد السوفييتي التي رأت فيه، للمفارقة، "نصًّا غامضًا".

ذلك التغاير في الصياغات في خطاب بايدن يبدو مفصليًّا بالنظر إلى أن مقترح مايو ينصّ حرفيًّا على "انسحاب القوات الإسرائيلية بالكامل خارج قطاع غزة"، ثمّ عطفًا على ما كشفته صور أقمار اصطناعية، كما ورد في تقرير لـ"سي أن أن" في مارس/آذار الماضي، عن حفريّات إسرائيلية على طول ممر "نتساريم"، تؤسس لوجود عسكري دائم ومشرف على البحر -على مقربة من الرصيف المائي الأميركي- ولفصل شمال القطاع عن جنوبه؛ وذاك ما أكّدته الشهر الماضي صحيفة "يديعوت أحرونوت"، حينما كشفت عن إتمام إسرائيل بناء أربع قواعد عسكرية على طول ذلك الممرّ، يضاف إلى ذلك ما وثّقته "واشنطن بوست"، في يناير/كانون الثاني الماضي، من إقامة إسرائيل منطقة عازلة بمساحة تزيد عن نصف ميل داخل حدود القطاع. ما تجدر ملاحظته هنا هو أن المقترح الذي وافقت عليه "حماس" يأتي على ذكر "محور نتساريم" ووادي غزة بالاسم عند الحديث عن انسحاب جيش الاحتلال في المرحلة الأولى، بينما يقصر الاقتراح الإسرائيلي، أقلّه في الصيغة الواردة على لسان بايدن، الانسحاب على "المناطق المأهولة". أعادت "حماس" تأكيد ذلك مجدّدًا حينما طلبت في تعديلاتها، أوّلًا، أن يسبق الانسحاب من محور نتساريم وفيلادلفيا إطلاق سراح الأسرى في المرحلة الأولى، وأن يكون خلال أيامها الأولى؛ وكذلك حينما رأت في جملة الانسحاب الإسرائيلي من غزة بعض الغموض، لتطالب بصياغة تنص صراحة على "الانسحاب إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر الماضي"، وفق ما صرّح به القيادي في "حماس" أسامة حمدان لـ"التلفزيون العربي".

ولعلّ ما يدلل أكثر على أن غياب لام التعريف في هذا الموضع لم يكن سهوة صياغيّة وحسب، أو مجرّد استعاضة عنها بحقيقة أن القوات الإسرائيلية (Israeli Forces) معرّفة بذاتها، هو ظهور التعريفات في مواضع أخرى بشكل يرفع اللبس تمامًا. لنا أن نلاحظ، على سبيل المثال، كيف تنتقل الصياغة من التعريف الواضح إلى التخفيف المبهم في البند الأول من قرار مجلس الأمن على سبيل المثال: "إطلاق سراح رهائن بما يشمل النساء والمسنين والجرحى، وإعادة بقايا بعض الرهائن الذين قتلوا، ومبادلة أسرى فلسطينيين، وانسحاب قوات إسرائيلية من المناطق المأهولة في غزة". هنا، في وقت يعرّف الرهائن، إن كان لغويًّا عبر الإضافة، أو اسميًّا عبر تحديد النساء والمسنين والجرحى، ذكر الانسحاب مفردًا، بصيغة قد تجعله، في أية مناورة تفسيريّة إسرائيلية، جزئيًّا وغير مكتمل. لنا أن نلحظ، بموازاة ذلك، كيف تقف لام التعريف بكامل ثقلها عند اقتضاء "ضرورة أن تكون غزة والضفة الغربية موحّدتين تحت السلطة الفلسطينية"، من دون إتباعها، على سبيل المثال، بمفردة "منتخبة"، في صياغة قد تحمل إحالات قسرية على السلطة بشكلها الحالي في رام الله.

مراجعة دروس المعاهدات السابقة

لكن إصرار "حماس" على صياغة تنصّ على "الانسحاب إلى حدود ما قبل السابع من أكتوبر" قد يُنافى بحقيقة أن الخطة الأميركية تضمّنت إشارة صريحة إلى "رفض إحداث أي تغيير في غزة، ديمغرافي أو جغرافي، بما في ذلك أي إجراءات قد تقلص مساحة القطاع". في الواقع، لا يختلف ذلك البند عن آخر ابتدأ به القرار 242 (الذي وافقت عليه إسرائيل أساسًا)، ويشدد على "عدم مقبولية ضمّ أراضٍ عبر الحرب". لكن كما يشرح سينغر، فإن الغموض قد يتجاوز أحيانًا مجرد مفردة هنا أو هناك، ليصبح "غموضًا عبر النص". هكذا مثلًا، يتنافى هذا البند مع آخر في نص القرار يؤكد أن الانسحاب الإسرائيلي من "أراضٍ عربية احتلت في النزاع الأخير" يجب أن يكون "إلى حدود آمنة ومعترف بها"، من دون أن يعيّنها على وجه الدقة، تاركًا بذلك مسألة حسمها إلى اتفاقات مؤجلة، لإسرائيل أن تخلق دونها الوقائع على الأرض، بما يلبّي هواجس أمنها. في الحالات التي يكون فيها الانسحاب نهائيًّا ومحدّدًا بنطاق زمني وجغرافي، كما يشرح سينغر، لا يستدعي الأمر تشعّبًا في البنود، بل جملة صريحة ومباشرة. هذا ما حدث على سبيل المثال في أحد تلك "الاتفاقات المؤجلة"، اتفاق كامب ديفيد، الذي نصّ بشكل واضح على "انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء كما كان عليه الحال في الرابع من يونيو/حزيران 1967"، مقابل ضمانات أمنية كبيرة من جانب مصر.

النص من قبل بايدن وبصيغته الصادرة عن مجلس الأمن، يفتقر كذلك للعبارات المباشرة، بينما تظلّ صيغة "عدم تقليص حدود القطاع" أو "عدم إحداث تغيير ديمغرافي أو جغرافي فيه" ليست حاسمة بما فيه الكفاية لتمنع إنشاء قاعدة عسكرية إسرائيلية في خط "نتساريم"، أو عند محور فيلادلفيا، أو رقابة على معبر رفح، وتلك أهداف إسرائيلية "بعد انتهاء العمليات"، وفق ما أفصح عنه مصدر مسؤول لهيئة البث الإسرائيلية الرسمية السبت.

لكل ذلك، تشي الصياغة التي تطالب بها "حماس" اليوم عند الحديث عن الانسحاب، وهي مطابقة لتلك التي اعتمدت في كامب ديفيد، بأن المقاومة استخلصت الدروس من معاهدات الماضي. يكشف أبا إيبان، مثلًا، وهو الذي كان وزير الحرب الإسرائيلي عام 1967، في مقالة ضمن كتاب منشور عام 1982، بعنوان "قرار مجلس الأمن 242: حالة دراسية عن الغموض الدبلوماسي"، كيف أن إسقاط لام التعريف عن مفردة انسحاب "كان ثغرة لمصلحة قضيتنا"، وكيف أن إضافة نص "عدم مقبولية ضم الأراضي عبر الحرب" كانت لمجرّد إسكات الاحتجاج العربي على غموض النص الإنكليزي. يروي الكتاب كذلك كيف أبلغ السفير الأميركي في مجلس الأمن الملك حسين، حينما سأله عن إسقاط لام التعريف، أن "كليهما يعرفان أن سيناء جزء من مصر، والجولان جزء من سورية، والضفة الغربية جزء من الأردن"، ثم كيف عاد وزير الخارجية الأميركي، ويليام روجرز، بعد عامين من إقرار القرار، ليقول إن "حدود عام 1967 هي خطوط هدنة، وليست حدودا سياسية نهائية. قرار مجلس الأمن لا يدعم ولا يلغي خطوط الهدنة حدوداً سياسية مؤكدة". يمضي إيبان ليقول إن الحكومة الإسرائيلية "لم تكن لتقبل بقرار مجلس الأمن لولا التأكيدات الأميركية والبريطانية التي وصلتنا بأن محو كلمة (كل الأراضي) كان متعمّدًا".

أحابيل نتنياهو

في فقه المعاهدات، ثمة ما يصطلح على تسميته "الغموض البناء"، وهو الحالة التي يترك فيها طرفا الاتفاق، عن دراية، بعض المفردات المموهة لحفظ ماء الوجه وتجنّب تقديم تنازلات أمام الجمهور. كان هذا الحال في قرار 242 ذاته، بإقرار المتحدث باسم الدولة المصرية آنذاك، محمد الزيات، الذي كتب، في المصدر المذكور آنفًا، أن العرب مرروا نصّ القرار باعتبار أنه يتضمّن "غموضًا بنّاءً". لكن لاحقًا، كان هذا الالتباس بنّاء، في معظمه، بالنسبة لإسرائيل التي انتهزت تلك الثغرة لقضم ما تبقى من أراضي عام 1967 يوميًّا. أما إزاء انتهازية شخص كنتنياهو، يمتد الأمر إلى ما هو أبعد.

في فيديو نادر له، التقطته القناة الثانية عشرة سرًّا في مطلع الألفية الثانية، يشرح نتنياهو كيف استفاد من ثغرة في اتفاق أوسلو ستتيح له التخلص منه إلى الأبد. يقول إن الاتفاق تضمّن ما نصّه أن الانسحاب الإسرائيلي في مرحلة الوضع النهائي/الدائم يستثني المناطق العسكرية والتجمعات الاستيطانية، وهنا ترك تعريف المناطق العسكرية مفتوحًا، وغير مقيّد حتى بوجود عسكري فعلي. يضيف أنه في وقت لاحق، حينما كان على حكومته التصديق على اتفاقية الخليل، اشترط رسالة مكتوبة من إدارة بيل كلينتون بأن يكون تعريف المناطق العسكرية في الاتفاق معهودًا إلى إسرائيل وحدها، وهكذا في اللحظة ذاتها، يقول مفاخرًا، "قضيت على اتفاق أوسلو".

على هذا النحو، يمكن تصوّر نتنياهو وهو يجلس اليوم متربّصًا لثغرة أخرى، وأوسلو ليست إلّا فصلًا واحدًا من سيرة رجل لا يرى محرّمات في سبيل الربح الكامل، ولا فاصلًا بين معاركه الشخصية ومعارك الدولة. ما كان نهجَه في الاتفاقات السابقة، حينما دأب على الخروج بعد كل هدنة ممهورة بتوقيع الوسطاء لينفي ما أعلنه، يتكرر اليوم، عبر رفضه الإقرار علنًا بالموافقة على الخطة المطروحة، وتصريحاته المتكررة، تسريبًا وعلانية، بأن الاتفاق يتيح تحقيق أهداف الحرب كاملة. قد يخدم هذا مصالحه السياسية، ويحول دون إسقاط حكومته، ويحفظ ماء وجهه أمام الجمهور، بقدر ما يترك باب المناورة مشرعًا مستقبلًا. هذا نهجه مع حلفائه، كما نقرأ في مذكرات وزير الخارجية الأميركي الأسبق، جون كيري، الذي كشف أن نتنياهو هو من بادر لاقتراح اتفاق وقف إطلاق النار عام 2014 مع تنازلات لغزّة، ثم سارع، بعد عرضه من قبل كيري، إلى تسريب مسودة القرار على أنها "أفكار لحركة حماس"، ما أظهر الوزير الأميركي وكأنه "يتبنى طرح الحركة". هذا أيضًا نهجه داخليًّا مع نظرائه في السياسة، كما فعل حينما انقلب، مثلًا، على اتفاق التناوب بينه وبين وزير الحرب المستقيل بني غانتس، حينما وجد ثغرة في الاتفاق عبر قانون الميزانية.

لكلّ ذلك، لا يمكن ترجيح أن يقبل شخص بهذا التاريخ بأي اتفاق يظهره مهزومًا، ولا استبعاد أن ينقلب على أي اتفاق ليبدو منتصرًا. ربما أقصى ما تستطيعه "حماس" هو أن تجعل الأمر يبدو أكثر فجاجة.

المساهمون