وكانت قضية التجسّس قد طفت إلى العلن في المكسيك، حيث استخدمت الحكومة المكسيكية اليمينية السابقة برنامج "بيغاسوس" للتجسّس على معارضيها السياسيين وناشطي حقوق الإنسان وغيرهم ممن تعتبرهم "مثيرين للقلاقل". وتبع ذلك حصول اللجنة القطرية لحقوق الإنسان على رسائل ومستندات ومكاتبات بريدية عرضتها للفحص القانوني على المحامي علاء المحاجنة، وتثبت العلاقة المباشرة بين إسرائيل والإمارات، وتورّط الشركة الإسرائيلية في عمليات التجسّس، واستخدام الإمارات البرنامج لاختراق خصوصيات الآخرين.
ويقول المحاجنة، وهو وكيل المتضررين المكسيكيين الخمسة، ومعدّ الدعوى القضائية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "القضية تهدف لرفع مستوى الوعي العام حول موضوع اختراق التكنولوجيا للحقّ في الخصوصية، وتعمل على تحميل الشركات التي تقف وراء ذلك المسؤولية القانونية الكاملة عن تطويرها تكنولوجيا خطيرة مثل هذه، وبيعها لأنظمة وأجهزة معروفة بعدائها لحقوق الإنسان، والتي تسخّر هذه التكنولوجيا في الأساس لملاحقة ناشطين سياسيين ومجتمعيين وصحافيين ومحامين يعملون في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان وعلى فضح خرق هذه الحقوق ومحاولة كبحها".
ويضيف المحاجنة أنّ "أهمية القضية تبرز أيضاً في كونها تعتبر محاولة أولى من نوعها عالمياً لتطوير القانون لتمكينه من اللحاق بركب التطور التكنولوجي والذي يرافقه في العموم مسّ بالحق بالخصوصية، حتى لا تكون التكنولوجيا وفضاء السايبر غابة معدومة القانون".
من جانبه، يقول الدكتور مازن مصري، المحاضر في القانون في لندن، والشريك في إعداد وتحضير الدعوى، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنّ "أهمية القضية تكمن في معالجتها موضوع التكنولوجيا والقانون، وهو موضوع حديث نسبياً. القضية تتناول موضوع تطوير تكنولوجيا معقدة ومتطورة بهدف التجسس واختراق الحق في الخصوصية، وهو موضوع خارج نطاق أيّ رقابة قضائية أو أخرى، نظراً لحداثته وتركيبه. والأخطر أيضاً هو استعمال هذا التطور للمنفعة المادية البحتة، عن طريق شركات خاصة هدفها الأساسي جني المال حتى لو بثمن خرق أهم الحقوق الأساسية وهو الحق في الخصوصية".
وتكشف الوثائق أنّ البرنامج يعمل من خلال إرسال رسائل قصيرة محتواها مخصص للمنطقة المستهدفة. ففي منطقة الخليج، تشمل مثلاً عبارات مثل "رمضان على الأبواب... تخفيضات لا تصدق" أو "فحص مكيف السيارة في الصيف… مجاناً"، وفور النقر على هذه الرسائل يخترق برنامج "بيغاسوس" الهاتف الجوال ليحوّله إلى أداة تجسّس على مالكه ومن حوله.
وفي يد جهاز الأمن الإماراتي، تحوّل هذا البرنامج إلى أداة تستخدمها أبوظبي في عدوانيتها ضد دولة قطر، والتي تكشف الوثائق أنها تعود إلى ما قبل الحصار الرباعي الذي فرضته بشراكة السعودية والبحرين ومصر على الدوحة. وتشير الوثائق إلى أنّ نية الإمارات بالتجسس على أمير قطر تعود إلى عام 2014. ويقول مصري لـ"العربي الجديد"، إنّ الوثائق تشير إلى أنّه "في مرحلة من المراحل أراد الإسرائيليون بيع تحديث للبرنامج إلى الجانب الإماراتي، وحينها طلب الإماراتيون من شركة "إن إس أو" التجسّس على أربعة أرقام تعود لكل من أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، ورئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، وقائد الحرس الوطني السعودي السابق، متعب بن عبد الله، ورئيس تحرير صحيفة العرب اللندنية الصحافي عبد العزيز الخميس". وتنقل رسالة ممثل عن الشركة الإسرائيلية أرسلها إلى الإماراتيين بعد أربعة أيام رداً على سؤالهم: "مرفق تسجيلان". وبالفعل، ففي البريد المذكور، تسجيلان لمحادثتين أجراهما عبد العزيز الخميس، الذي أكّد خلال الأسبوع الحالي، إجراءه هاتين المكالمتين، وقال إنه لم يكن على علم بأنه يخضع لعملية تجسّس، والتي من الواضح أنها كانت في إطار "التجربة"، على اعتبار أنه يعدّ من "رجال الإمارات". لتعود أبوظبي وتطلب لاحقاً التجسّس على قائمة من واحد وأربعين اسماً، منهم المفكّر العربي عزمي بشارة.
كذلك، تشير وثيقة أخرى إلى محاولة الإمارات التجسّس على 159 شخصاً من العائلة القطرية الحاكمة، استطاعت اختراق هواتف 13 منهم. وإن دلّت هذه الوثائق على شيء، فإنما تدل على العداوة المبيتة التي تكنّها الإمارات لجارتها قطر لسنوات قبل الحصار، وتشكّك في ذرائعها لحصارها. كما أنّ تجسّس الإمارات على متعب بن عبد الله، والذي نافس ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على صدارة البلاد قبل أن يتمكّن الأخير من عزله من منصبه قبل عام، يدلّ على أنّ النية لترقيته وتمكينه من الهيمنة على البلاد أمر يخطط له منذ أمد.
أمّا تحالف الإمارات مع إسرائيل، وقدرتها على الحصول على سلاح نوعي مثل "بيغاسوس" لا يمكن للشركة المصنعة تصديره من دون موافقة وزير الأمن الإسرائيلي، فيعكس إعادة رسم محاور التحالفات في المنطقة، ووقوف الإمارات في خندق التيار المعادي للثورات. وليس ذلك بالأمر الخفي، فالصحف الإسرائيلية تغطي وبإسهاب، الزيارات المتبادلة بين الجانبين الإماراتي والإسرائيلي، وكذلك الصفقات التي تصل قيمتها للملايين بين أبوظبي ودولة الاحتلال.
ويعلّق كل من المحاجنة ومصري على هذه النقطة بقولهما "تظهر القضية أيضاً من خلال المستندات المبرزة في الدعوى، مدى التعاون الأمني بين الشركات الإسرائيلية والتي تربطها علاقة وثيقة بالأجهزة الأمنية وبين حكومات عربية، مثل دولة الإمارات وغيرها، وخصوصاً أنه، وفق القانون الإسرائيلي، فإن بيع هذه التكنولوجيا منوط بموافقة الحكومة من خلال وزارة الأمن الإسرائيلية، الأمر الذي يشير بالضرورة إلى عمق العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل على هذا الصعيد".
ويقول المحاجنة إنّ القضية مرفوعة في إسرائيل ضدّ شركة "إن إس أو"، وفي قبرص ضد إحدى الشركات الفرعية التي تثبت الوثائق عودتها للشركة الأم، وتستخدمها للالتفاف على عدد من القوانين. وتجنباً للتطبيع مع الاحتلال، قام أحد الصحافيين القطريين، عبد الله العذبة، وهو من ضحايا التجسس، برفع قضيته في قبرص، وفقاً للمحاجنة.
وتهدف القضية أيضاً إلى إدانة الشركة الإسرائيلية في هذه الخروقات، ودفعها لتعويض المتضررين، إضافة إلى إجبارها على وقف ترخيص البرنامج للدول التي تنتهك حقوق الإنسان. فالشركة الإسرائيلية نفت مراراً علمها بكيفية استخدام الدول المستوردة للبرنامج إياه، ولكن الوثائق التي تمّ الكشف عنها تدلّ على عكس ذلك. فالشركة التي تتباهى بأن موظفيها من خريجي وحدة السايبر في وزارة الأمن، استمرت في توفير الدعم التقني للإمارات بعد توفير الترخيص، وعملت على جمع المعلومات بهدف تطوير التقنية.
وتكشف وثائق خاصة بـ"العربي الجديد"، نيّة الإمارات توسيع أنشطتها التجسسية لتشكيل "قوة المهام الإلكترونية" التابعة لجهاز الاستخبارات الوطني. ويهدف المشروع إلى "إنشاء قوة مهام إلكترونية قادرة على تنفيذ عمليات في الفضاء الإلكتروني، وبناء قوة بشرية إماراتية للعمل على أعلى المستويات في مجال الاختراقات، وتجهيز قوة (محلية) للمهام الإلكترونية بأفضل الإمكانيات التقنية في العالم، وتشغيل المشروع من قبل الشركة المطوّرة حتى تأهيل الكادر الإماراتي".
وتشير بيانات الشركة المطورة إلى أنها مملوكة لشاي تال وديفيد مامان، ومقرّها في دولة بليز في أميركا الوسطى، ولها مركز أبحاث في الهند، وأيضاً فريق صغير في إسرائيل، مختصّ بالأبحاث. ويهدف المشروع الإماراتي إلى إنشاء جيش إلكتروني يفرض هيمنة الإمارات على الفضاء الإلكتروني ويمتاز في عمليات التجسس. وتنوي أبوظبي بذلك تنفيذ عمليات قرصنة تشمل تعطيل المواقع الإلكترونية واختراق الأجهزة الحاسوبية والمحمولة، وزرع الملفات الحاملة للفيروسات، إضافة إلى التحكّم بالسمعة على الإنترنت، والبحث الاستخباري والهندسة الاجتماعية.
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية قد كشفت، في تقرير أمس الجمعة، عن عمليات التجسس الإماراتية عبر البرنامج الإسرائيلي. وعلى الرغم من أن دولة الإمارات لا تقيم علاقات دبلوماسية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن الطرفين تربطهما علاقة تعاون أمني وثيقة، كما كشفت الوثائق التي اطلعت عليها الصحيفة الأميركية أيضاً.
وذكرت الصحيفة، وفق ما تشير الوثائق التي حصل عليها الصحافي القطري عبد الله العذبة، وقدمها للمحامين، واطلعت عليها "نيويورك تايمز" أيضاً، أن الإمارات وقعت عقوداً للحصول على برنامج التجسس منذ أغسطس/ آب 2013. وتدل إحدى الوثائق التي تعود إلى عام ونصف من الصفقة، أن الإمارات دفعت 18 مليون دولار حتى ذلك الحين، كرسوم ترخيص لاستخدام البرنامج.
ومع بدء الحصار الرباعي ضدّ قطر في الخامس من يونيو/ حزيران 2017، يكشف أحد التقارير عن أنّ المسؤولين الإماراتيين اعتمدوا على ما حصدوه من عمليات التجسس في عدد من الدعاوى القضائية التي رفعوها ضد قطر. ويربط التقرير عملية التجسس بالأمير خالد بن محمد، مدير جهاز الاستخبارات الإماراتي، وهو ابن الحاكم الفعلي للإمارات، ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. ولكن الإمارات استخدمت هذه التقنية أيضاً ضد عدد من معارضيها السياسيين وعدد من الصحافيين، إضافة إلى شخصيات سعودية ولبنانية. وكانت "منظمة العفو الدولية" قد قالت إن أحد موظفيها العاملين في السعودية، تعرّض هاتفه المحمول لمحاولة اختراق هذا الشهر، والتي تبيّن أنها من قبل البرنامج الذي طورته الشركة الأمنية الإسرائيلية.
من جهتها، نفت الشركة الإسرائيلية علمها بما يقوم به زبائنها فور حصولهم على البرنامج، قائلة إنها تبيعه فقط للحكومات والتي توافق على استخدامه حصراً ضد المجرمين، ولكنها لا تتابع ما يجري بعد ذلك. ولكن الوثائق المسربة تنفي ادعاءات الشركة المتكررة وتحملها جزءاً من المسؤولية. يذكر أنّ حكومة بنما اشترت أيضاً برنامج التجسس هذا، واستخدمه رئيس البلاد للتجسس على معارضيه وخصومه، بحسب وثائق قدمت في إطار دعوى في هذا البلد أيضاً.
وثائق التجسس الإماراتي