حرب السودان... مدنيون عالقون بين محاكم الجيش ومعتقلات "الدعم"

18 يونيو 2024
تفتيش حافلة عند حاجز للجيش، جنوبي الخرطوم، 24 مايو 2023 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- المدنيون في السودان يواجهون اعتقالات ومحاكمات جائرة من قبل الجيش وقوات الدعم السريع، مع اتهامات بالانتماء للطرف الآخر قد تؤدي لعقوبات قاسية.
- مبادرات حقوقية مثل "لا لقهر النساء" و"الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين" تطالب بالعدالة وحماية حقوق الإنسان، مشددة على ضرورة مواجهة المحاكمات الظالمة والاعتقالات التعسفية.
- تواجه العدالة واستقلالية القضاء في السودان تحديات قانونية وحقوقية، مع تأكيد المحامين على أهمية الشفافية والرقابة لمنع إساءة استعمال السلطة وتحقيق العدالة.

بعد أكثر من عام على اندلاع حرب السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، يجد كثير من السودانيين أنفسهم في مواجهة شكوك واتهامات طرفي الحرب لهم، والتي تطورت في كثير من الحالات إلى اعتقالات وحتى محاكمات بتهمة الانتماء لطرف على حساب آخر. وتمارس قوات الدعم السريع الاعتقال والسجن والتعذيب بحق متهمين لديها، بينما تصدر المحاكم في مناطق خاضعة للجيش أحكاماً ضد عدد من المدنيين بتهم التعاون أو التعاطف مع "الدعم"، تصل إلى حدّ الإعدام.

يروي المواطن عبد العزيز، في حديث لـ"العربي الجديد"، تعرّضه للاعتقال في منطقة الدخينات جنوب الخرطوم على يد الدعم السريع بتهمة العمل مع استخبارات الجيش. ويقول إنّه كان يقود عربة يجرها حمار ويبيع الحليب، وخلال سيره في الطريق طلبت منه سيدة توصيلها معه ففعل، وفجأة جاء مقاتلون من الدعم السريع على دراجات نارية وأوقفوه وأخذوه هو والسيدة وتركوا عربته في الشارع، ثم رُحِّل إلى معتقل تابع للدعم السريع جنوبي الخرطوم. ويذكر أنه بمجرد دخوله بدأ مقاتلون يحملون السياط بضربه، ثم زجّوه في زنزانة مع آخرين، مضيفاً: "وجدت المكان قذراً جداً وفيه الكثير من المعتقلين الذين يتعرضون للضرب، وكان هناك إناء حديدي لقضاء الحاجة داخل الزنزانة، فيما كنا نأكل وجبتين؛ عبارة عن عصيدة (دقيق قمح مطبوخ بالماء)، يضاف إليها العدس". ويشير إلى أنه حُقِّق معه بعد ثلاثة أيام، قبل إطلاق سراحه بعد قضاء أسبوع، نتيجة تعرّف أحد المقاتلين عليه والتوصية للآخرين بأنه مجرد مواطن عادي ولا ينتمي للجيش.

من جهته يقول المواطن حبيب صالح، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه تعرض للاعتقال من قبل عناصر "الدعم"، ومن جنود الجيش أيضاً. ويفيد بأنه كان يتنقل بين الخرطوم ومدينة ربك في ولاية النيل الأبيض لغرض العمل من ولاية إلى أخرى، ويواجه نقاط التفتيش التي ينصبها الطرفان على الطرق البرية ومداخل المدن. ويضيف أنّه "كل مرة يتم توقيفي واتهامي بالانتماء إلى الاستخبارات في نقاط الجيش والدعم السريع، إذ يتهمني جنود الدعم بأنني عسكري، ويتهمني جنود الجيش بأنني أشبه عناصر الدعم". ويشير إلى أنه أُنزل من الحافلة واحتُجز أكثر من مرة وهُدّد بالقتل بعد وضع فوهة البندقية على رأسه إذا لم يعترف بالتهم المنسوبة إليه. ويتابع: "في مدينة القطينة بولاية النيل الأبيض، جاء شاب صغير وأمرني بالنزول من الحافلة، ثم طلب مني السير إلى الأمام، وعندما فعلت قال لزميله إن هذا الشخص عسكري، فجاء الآخر وطلبا مني مجدداً السير، ثم خلعا قميصي وفتشا منطقة الكتف لرؤية إن كانت هناك علامات على حمل بندقية، ثم أُطلق سراحي بعد تدخل شخص آخر أخذ هاتفي وفتشه وأعادني إلى الحافلة".

حرب السودان بين المحاكم والاعتقالات

مع استمرار حرب السودان والاعتقالات من قبل طرفيها، دعت مبادرة لا لقهر النساء (تنظيم نسوي) في بيان يوم الثالث من يونيو/ حزيران الحالي، كلَّ "الجهات المدنية والحقوقية، وخصوصاً المحامين الديمقراطيين والحقوقيين، للوقوف في وجه الاعتقالات والمحاكم"، والتي وصفتها بـ"الظالمة الموجهة للمواطنين من طرفي الحرب". كذلك طالبت بـ"رفع سيوف القهر الممنهج من قبل حاملي السلاح على المواطنات والمواطنين".

من جهتها قالت الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين، في بيان يوم الخامس من يونيو الحالي، إنه في خضم حرب السودان و"استغلالاً لحالة الفوضى والغياب التام لجميع مظاهر الدولة" حتى في المناطق التي تسمّى "آمنة"، تمتد ما وصفتها بـ"أذرع ومخالب أجهزة قمع النظام السابق ممثلة في استخبارات الجيش وجهاز الأمن". وأشارت إلى أنها سبق أن تحدّثت مراراً وتكراراً عن التعدي على الحريات، واستهداف الناشطين والمبادرين والمدافعين عن حقوق الإنسان، مضيفة أنه جرى خلال حملة الاعتقالات الأخيرة أخذ بعض ذوي المطلوبين كرهائن حتى يسلموا أنفسهم.

وكانت بعض محاكم ولايات البحر الأحمر والنيل الأزرق والقضارف، حيث يسيطر الجيش، قد أصدرت أحكاماً بإدانة مواطنين بتهمة التعاون أو التعاطف مع "الدعم"، إذ حكمت محكمة بإقليم النيل الأزرق في الثالث من يونيو الحالي، بالإعدام على عيسى حامد عضو دائرة المهنيين بحزب الأمة القومي. وكان حامد قد اعتقل من قبل استخبارات الجيش مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي بتهمة دعم الدعم السريع.

"الدعم" تفرض قيوداً على حركة المدنيين من وإلى محلية أم بدة في مدينة أم درمان

كذلك قضت محكمة في بورتسودان في اليوم نفسه بالسجن 20 عاماً على فتاة تدعى شيماء سعيد بتهمة إهانة الجيش وتأييد الدعم السريع على منصة فيسبوك، وفق قرار قاضي محكمة مكافحة الإرهاب والجرائم الموجهة ضد الدولة، المأمون الخواض الشيخ العقاد. وجاء الحكم بعد يوم من إصدار القاضي حكماً بالإعدام على فتاة أخرى في مدينة بورتسودان تدعى هناء ضو البيت، وذلك بعد اتهامها بالتعاون مع الدعم السريع عقب توقيفها وتفتيش هاتفها. وفي مايو/ أيار الماضي قضت محكمة الجنايات في مدينة القضارف شرق البلاد على محامٍ (عُرف بأحرف اسمه الأولى ع. م. ر. م) بالإعدام بعد اتهامه بالتعاون مع "الدعم".

وقالت مجموعة "محامو الطوارئ" الحقوقية إنّه منذ فبراير/ شباط الماضي تشهد المناطق الواقعة تحت سلطة الجيش في مدينة أم درمان اعتقالات لأعداد كبيرة من المدنيين من منازلهم بشبهة الانتماء أو التعاون مع الدعم السريع. كذلك أُخلي عدد كبير من المنازل بالقوة، فيما تعرضت هذه المنازل للسرقة من قبل أفراد يتبعون للجيش. وأشارت المجموعة في نشرة أصدرتها يوم السابع يونيو الحالي إلى أن الدعم السريع في المقابل تحتجز وتعتقل على نحو غير إنساني ومهين مئات المدنيين من سكان قطاعي السلام والبقعة بمدينة أم درمان بشبهة التعاون مع الجيش، أو الانتماء لكتائب المستنفرين (مقاتلون متطوعون). وأضافت أن "الدعم" تطرد السكان من منازلهم قسراً ثم تستغلها لأغراض مختلفة، أو تسرق المقتنيات التي بداخلها. وذكرت أن "الدعم" تفرض أيضاً قيوداً على حركة المدنيين من وإلى محلية أم بدة في مدينة أم درمان، فيما يتم عند نقاط العبور والارتكازات طلب مبالغ مالية للسماح بالمرور، كما يتعرض المدنيون المقيمون في المناطق الواقعة تحت سيطرتها أيضاً للضرب بالسياط والإذلال المتعمد.

تعطيل المحاكمة العادلة

تقول المحامية سلوى أبسام، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه "لا يجوز تقييد حقوق المواطنين والتذرع بالطوارئ لتبرير تعطيل الحق في المحاكمة العادلة". وأوضحت أنه "في كل الحالات نصت الاتفاقيات الدولية على إطار عام للمحاكمات، والسودان ملتزم بالسياق الدولي لحقوق الإنسان وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو موقّع على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1986 ويتضمن أغلب الحقوق الأساسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، وهناك التزامات للسودان بالميثاق العربي وغيرها".

وتشير إلى "أمور خطيرة تحصل هذه الأيام، إذ يتم تحديد بعض القبائل باعتبار أنها تمثل حاضنة للدعم السريع"، مضيفة: "نحن الآن في حالة نزاع مسلح وهو يعتبر نزاعاً غير دولي، والسودان محكوم باتفاقية جنيف الرابعة لحماية المدنيين في وقت الحرب والحق في المساواة أمام القانون". وتساءلت: "لكن هل الجو العام يتيح الآن أن تكون هناك استقلالية للقضاء بشكل كامل؟"، وتجيب: "بما أن رئيس القضاء (عبد العزيز فتح الرحمن عابدين) هو المعني بعزل وتعيين القضاة، فهذا فيه انتقاص لاستقلالية القضاء".

سلوى أبسام: لا توجد شفافية لمعرفة ما يدور داخل الحراسات وطرق التحري وحالة المحتجز الصحية

وتوضح أبسام أنه ف يظل حرب السودان هناك "خوفاً عاماً لدى المواطنين وحتى المحامين من الوضع الحالي، وهم يمارسون مهنة المحاماة والدفاع عن المتهمين وهم حذرون جداً، لأنه لا توجد شفافية، وهي مسألة جوهرية لمعرفة الناس بالطريقة التي يُحاكم بها المتهمون". وتضيف أنه "لا توجد شفافية لمعرفة ما يدور داخل الحراسات وطرق التحري وحالة المحتجز الصحية"، لافتة إلى أنه "في بعض القضايا التي كانت في محاكم مدينة القضارف، لم يتمكن المحامون من سماع المتهمين إلا أمام المحكمة، ولم يستطيعوا الاختلاء بهم إلا لدقائق معدودة". وتذكر أبسام أن "الناس في حالة خوف لأن السيطرة قوية من طرفي النزاع، وهما يتحكمان بالمواطنين وحرياتهم، والمحامي نفسه معرض للتحول إلى متهم، إذ يتم احتجازه من دون أن يكون هناك تبرير أو يكون الطرف الذي نفذ الاحتجاز محل مساءلة". وتشدّد على أنه "من الضروري أن تكون هناك رقابة حتى لا يتسع المجال أمام إساءة استعمال السلطة".

من جهته، يقول المحامي أنور سليمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الانتهاكات بحق المدنيين من قبل التشكيلات العسكرية تفاقمت مع حرب السودان. ويضيف أن "الأطراف المتقاتلة تعتبر أن لديها تفويضاً لفعل ما تشاء"، لافتاً إلى أن "طبيعة نظام الإفلات من العقاب الذي أرسته الدكتاتوريات العسكر-الحزبية في البلاد على مدى سنوات وضعت أرضية لتلك الانتهاكات". ويشير إلى أنه "اليوم، أو طوال تاريخ الحكم الوطني (منذ استقلال السودان عام 68)، لا وجود لجهة سياسية أو مدنية أو حكومية تنظر لمسألة الانتهاكات بمنظور حقوقي وقانوني، بل الكل يوظفها لخدمة أجندته السياسية". ويضيف بالتالي أن "المواطن يدفع ثمن تلك الانتهاكات باهظاً، ودونما أمل في إنصاف عدالة وطنية أو حتى دولية اليوم أو بعد حين". ويرى أن تغيير هذا الحال يحتاج إلى تطوير كامل لـ"بنياتنا السياسية والحقوقية، وإلا سيبقى الحال على هذا النحو لحقب طويلة مستقبلاً".

عثمان صالح: يستهدف طرفا الحرب المواطنين أكثر من استهدافهما لبعضهما البعض

من جهته، يعتبر المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان عثمان صالح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن حرب السودان الحالية موجّهة في الأساس بنسبة كبيرة ضد المدنيين، إذ "يستهدف الطرفان المواطنين أكثر من استهدافهما لبعضهما البعض". ويضيف أن ذلك "يمثل مخالفة لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 لحماية المدنيين وقت الحرب". ويقول صالح إن طرفي الصراع أشعلا الحرب في السودان و"لم يحترما أي قانون يتحدث عن التعامل مع المدنيين والأعيان المدنية، وهما لا يحترمان القانون الدولي الإنساني، ويتعاملان بعشوائية نتجت عنها كارثة إنسانية، تمثّلت في آلاف القتلى الجرحى والنازحين واللاجئين". ويشير إلى أن "طرفي حرب السودان في ممارساتها اليومية يضيّقان الخناق على المدنيين ويقبضان عليهم بتهم التعاون مع الطرف الآخر، أو منحه معلومات، وهي مجرد ادعاءات قد تكون نتيجتها قتل أو سجن وتعذيب في كثير من الأحيان".

وبحسب صالح فإن "المحاكمات التي جرت لأشخاص بتهم التعاون مع الدعم السريع أخيراً، لا تراعي حقوق المتهمين، والمحاكم الموجودة التي تُصدر مثل هذه الأحكام هي محاكم شكلية لا تحترم العدالة ولا القضاء". ويلفت إلى أنه "يجب أن يُتاح للمتهم كامل حقوقه في الدفاع عن نفسه، ولا يُستجوب أو يُحاكم من دون أن يكون له ممثل قانوني، إلى جانب البيانات اللازمة والشهود". ويشير إلى أن "أغلب الذين يتم القبض عليهم يتهمون بموجب العثور على صور أو مقاطع فيديو في هواتفهم"، مضيفاً: "لو فتحت هاتف أي شخص ستجد الصور والبيانات والتصريحات التي يتم تبادلها آلاف المرات حول الحرب". ويقول إن "وجود رسالة حول الحرب لا تعني الانتماء لجهة محاربة، وهي مسألة ليست لها أي قيمة قانونية".

المساهمون