عندما اجتاحت الحرب العاصمة السودانية الشهر الماضي، سرعان ما امتدت إلى إقليم دارفور في الغرب وأشعلت صراعاً قديماً ودفعت بموجة من اللاجئين عبر الحدود إلى تشاد.
وأرسل نصر عبد الله زوجته وشقيقته وأطفاله الخمسة إلى تشاد الأسبوع الماضي وظل ينتظر أي أنباء عن ابنه البالغ من العمر 17 عاماً في العاصمة الخرطوم. لكن عندما أُحرق منزل جاره وسيطرت العصابات على الشوارع، فرّ هو الآخر.
وبعد وصوله مرهقاً، يوم الأربعاء، إلى مدينة أدري التشادية على بعد حوالي 27 كيلومتراً من مدينة الجنينة الرئيسية في ولاية غرب دارفور، قال الرجل البالغ من العمر 42 عاماً "لم أستطع التحمل أكثر من ذلك، وبالتالي قررت المغادرة سيراً على الأقدام". وأضاف "مررت عبر الأدغال وسرت غرباً طوال الليل".
ويربط السكان تجدد العنف في الجنينة ومناطق أخرى من دارفور بالصراع على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في الخرطوم، مما سمح للمليشيات بأن ترتع في المنطقة بدون رادع.
وقال أشخاص، لوكالة رويترز، إنّ الهجمات التي وقعت في الجنينة منذ أواخر إبريل/ نيسان نفذتها مليشيات "الجنجويد" التي تضم مسلحين يُعتقد عادة أنهم ينتمون إلى قبائل عربية بدوية ويركبون الشاحنات والدراجات النارية والخيول وهي نفس المليشيات التي ولدت منها قوات الدعم السريع.
وتنفي قوات الدعم السريع التحريض على العنف في دارفور وتلقي باللوم على الجيش.
وذكر شهود أنّ الهجمات في الجنينة دمرت أسواقها وشبكة الكهرباء والمنشآت الطبية بها، مما أعاد إلى الأذهان ذكريات أعمال العنف الوحشية التي اندلعت في أوائل العقد الأول من القرن الحالي.
وتقول وزارة الصحة السودانية إنّ ما يصل إلى 510 أشخاص قُتلوا في المدينة، التي يبلغ عدد سكانها نحو نصف مليون نسمة، ونزح ما لا يقل عن 250 ألف شخص داخلياً في ولاية غرب دارفور، بينما فرّ 90 ألفاً آخرون إلى تشاد.
ومع انقطاع الاتصالات في الجنينة الآن، قدمت شهادة عبد الله لمحة نادرة عن الفوضى.
وقال "الأسلحة الثقيلة والمدافع الرشاشة تُطلق في كل مكان. عندما تخرج في الصباح، ترى ثقوباً جديدة في الجدران من الرصاص". وأضاف أنّ إمدادات المياه انقطعت وأنّ الطعام شحيح في المدينة التي غادرها.
صراع على الأرض
اكتسبت مليشيات الجنجويد، التي يهابها السكان، سلطة لأول مرة عندما استخدمتها الحكومة ضد المتمردين في دارفور قبل عشرين عاماً. وقُتل في الصراع أكثر من 300 ألف شخص وشُرد 2.5 مليون.
وانبثقت منها قوات الدعم السريع ونمت لتصبح قوة شبه عسكرية كبيرة ذات وضع قانوني. وأصبح قائدها، محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، نائباً لرئيس مجلس السيادة الحاكم في السودان بعد أن ساعد في الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير خلال انتفاضة شعبية في عام 2019.
ورغم أنّ الصراع في دارفور بين القبائل العربية ضد غير العرب يُوصف في كثير من الأحيان بأنه عرقي، إلا أنّ أساسه أيضاً صراع على الأرض تفاقم بسبب تغير المناخ.
وقال سلطان سعد بحر الدين زعيم قبيلة المساليت، التي تمثل أكبر كتلة من سكان الجنينة "هذا (الصراع) بين الرعاة والمزارعين. إنه يتعلق بالموارد والأرض".
وذكر جيروم توبيانا الباحث في المنطقة أنّ رعاة الماشية العرب هاجروا إلى مناطق أقل جفافاً خلال فترات الجفاف في دارفور في السبعينيات والثمانينيات مما أدى إلى توترات.
وحصلوا على المزيد من الأراضي مع مساعدة مليشيات الجنجويد للقوات الحكومية على صد المتمردين في الصراع الذي اندلع عام 2003.
لكنهم شعروا أنّ اتفاق السلام، الذي أبرم عام 2020 مع بعض الجماعات المتمردة وتضمن وعداً بعودة النازحين إلى أراضيهم، تجاهل احتياجاتهم. وتزايدت الهجمات مع انسحاب قوات حفظ السلام الدولية.
وقال خمسة من سكان الجنينة، فضل معظمهم عدم نشر أسمائهم لتجنب الانتقام، عبر الهاتف قبل انقطاع الاتصالات إنهم يعتقدون أنّ المليشيات تهدف إلى إفراغ المدينة وأنّ الجيش لم يفعل الكثير لتوفير الحماية.
"الجنجويد يقتحمون المنازل ويطلقون النار"
يقاتل رجال مسلحون من المساليت وأعضاء في التحالف السوداني، وهو جماعة وقعت اتفاق السلام، من داخل الأحياء التي يعيشون فيها.
وقال محمد الدومة والي الولاية السابق وعضو هيئة محامي دارفور، وهي جماعة حقوقية، "كانت المليشيات تهاجم أي شخص موجود في المدينة.. حتى السكان العرب لم يسلموا".
وقال المحامي جمال عبد الله إنّ الشهود أخبروه بحادث في الجنينة قتل فيه سبعة أشخاص في أحد المنازل، وواقعة أخرى في عيادة مؤقتة حيث قُتل طبيب و12 شخصاً كانوا مصابين بالفعل بالرصاص.
وأضاف عبد الله "يدخل الجنجويد المنازل ويطلقون النار"، مشيراً إلى أنه رأى جثثاً لقتلى وجيفاً لحيوانات نافقة متناثرة في الشارع.
وقال ثلاثة أشخاص يعيشون في الجنينة، لـ"رويترز"، إنهم رأوا مهاجمين يرتدون زي قوات الدعم السريع.
ووجهت قوات الدعم السريع في الماضي اللوم إلى عدد من الجنود لتورطهم في هجمات الجنجويد، لكنها تتهم الجيش ومليشيات حليفة بالوقوف وراء أحداث العنف الأحدث في دارفور.
ووجه حميدتي، الذي ينحدر من قبيلة عربية، رسالة صوتية هذا الأسبوع قال فيها "رسالة إلى أهلنا في الجنينة انبذوا الجهوية والقبلية. أوقفوا القتال فوراً بينكم". ولم يرد متحدث باسم الجيش على طلب للتعليق.
ولم يتسن الوصول إلى ممثلين لمليشيات الجنجويد. وفشلت محاولات الاتصال بزعماء القبائل العربية التي تعيش في المدينة بسبب انقطاع التيار الكهربائي.
وقالت الناشطة المحلية إنعام النور إنّ شقيقها وعدداً من أقاربها الذكور قتلوا وإنّ الحي الذي تعيش فيه دمر بالكامل وحرق ونهب. وأضافت لـ"رويترز" من الجنينة أنها وثقت من أطباء وشهود اغتصاب تسع طالبات جامعيات على يد مسلحين.
وقالت نقابة أطباء السودان إنه جرى تدمير جميع مستشفيات المدينة وكذلك بنك الدم فيها. وأظهرت صور نشرها صحافي محلي يتعاون مع "رويترز" زجاجات تقطير المواد الدوائية مثقوبة مما يجعلها عديمة الفائدة.
وقال شهود وجماعات إغاثة إنّ المباني الحكومية والسوق الرئيسية ومكاتب وكالات الإغاثة تعرضت للنهب.
ورغم أنّ غرب دارفور هي أكثر ولايات البلاد احتياجاً للمواد الغذائية، فقد صار كثيرون من المزارعين غير قادرين على الوصول إلى الأراضي أو الحصول على الإمدادات استعداداً لموسم الأمطار.
وقالت ماتيلدا فو من المجلس النرويجي للاجئين إنّ ما لا يقل عن 85 ألفاً من النازحين السابقين صاروا مشردين مرة أخرى، وكانوا قد لجأوا إلى الجنينة فراراً من هجمات سابقة لكن المدارس ومباني البلدية والمساجد في المدينة جرى تدميرها الآن.
وأضافت أنّ نشر موظفي الإغاثة صار خطراً. ومضت قائلة "النظرة المستقبلية (للأوضاع) قاتمة للغاية".
(رويترز)