بعد قرابة ستة أشهر على بداية الهجوم الأوكراني المضاد، أقرّ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن بلاده لم تحقق النتائج المرجوة من الهجوم حتى الآن، وأضاف في مقابلة مع وكالة "أسوشييتد برس" نشرت أمس الجمعة أن الحرب تدخل في مرحلة جديدة مع حلول فصل الشتاء.
وعزا زيلينسكي عدم تحقيق النتائج المرجوة إلى أن بلاده تقاتل ثاني أقوى جيش في العالم، وأن الجيش الأوكراني لم يحصل على كل الأسلحة التي طلبها، موضحاً أن العدد المحدود للقوات الأوكرانية لا يسمح بشن هجوم سريع، ولكنه شدد على أن بلاده لن تستسلم، وستواصل القتال.
وعلى الرغم من نشاط القوات الروسية والأوكرانية المتحاربة، فإن خط المواجهة لا يشهد تغيرات كبيرة. وتزداد المؤشرات إلى عدم قدرة أي من الطرفين على الحسم العسكري.
وفي الأسابيع الأخيرة يتكرر سيناريو إعلان أحد الطرفين التقدم عدة مئات من الامتار في إحدى الجبهات، وبعدها بساعات أو أيام يعلن الطرف الآخر عن نجاح هجوم مضاد، وتتحدث كل من موسكو وكييف عن خسائر فادحة للعدو، وتنشر مصادر ووسائل دعاية مختلفة صوراً عديدة لتدمير معدات وهياكل العدو، وقتل وأسر جنود.
تقدم روسي "في كل الاتجاهات"
وأمس أكد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن الجيش الروسي يتقدم "في كل الاتجاهات" في أوكرانيا، مشيراً إلى أن "عسكريينا يتصرفون بكفاءة وتصميم، يشغلون موقعاً موآتياً أكثر ويوسعون مناطق سيطرتهم في كل الاتجاهات". ورأى أن قدرات الأوكرانيين القتالية "تراجعت بشكل كبير" بعد هجومهم المضاد غير المثمر خلال الصيف.
شويغو: قدرات الأوكرانيين القتالية تراجعت بشكل كبير
وتزداد الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة في العمق، وأعلنت أوكرانيا يوم أمس الجمعة إسقاط 18 مسيرة روسية في عدة مدن وإسقاط صاروخ بالستي. كما تعلن المقاطعات الروسية المحاذية للحدود دورياً إسقاط مسيّرات أوكرانية.
وفي أحدث تقاريرها ذكرت وزارة الدفاع الروسية صباح أمس الجمعة أن قوات "المركز" تواصل تنفيذ المهام القتالية في اتجاه كراسنو ليمان، وأكدت صدّ هجوم المجموعة الهجومية التابعة للواء الميكانيكي الستين التابع للقوات المسلحة الأوكراني، و"تكبيد العدو خسائر كبيرة" وقتل 250 عسكرياً ومركبتين قتاليتين مدرعتين و4 مركبات.
وذكرت الوزارة أن قوات "الجنوب" تواصل تنفيذ مهماتها في جبهة دونيتسك بإسناد من الطيران والمدفعية، مؤكدة "صدّ هجومين لمجموعات من اللواء 79 للعدو في منطقة مارينكا، واستهداف تجمعات ومعدات اللواء الميكانيكي 93 التابع للقوات المسلحة الأوكرانية في منطقة أندرييفكا، ما أدى إلى قتل ما يصل إلى 270 عسكرياً أوكرانياً وتدمير عربتين قتاليتين مدرعتين وثلاث شاحنات صغيرة". وفي بيان ثالث أفادت وزارة الدفاع الروسية بأن مجموعة "الشرق" أحبطت محاولات الجيش الأوكراني للتقدم في منطقة نوفو ميخيلوفكا.
وتكشف طبيعة المعارك وبيانات الطرفين أن الجيشين الروسي والأوكراني لا يستطيعان جمع ما يكفي من القوات لإنشاء قوة ضاربة على الجبهة أكبر بعدة مرات من قوات العدو المدافعة.
وبدا واضحاً أنه في تلك الاتجاهات التي يحاول فيها كل جيش الهجوم، تمكّن الخصم من الاستعداد للدفاع إلى حدّ أنه لتحقيق اختراق، يجب أن يكون هناك تفوق كبير لدى الجهة المهاجمة. ومنذ بداية الشهر الماضي حذر القائد الأعلى للقوات المسلحة الأوكرانية، الجنرال فاليري زالوجني، من أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود.
وأشار زالوجني في مقال نشر في صحيفة "إيكونوميست" في حينه إلى انتقال الأعمال العدائية إلى مرحلة جديدة وهي حرب استنزاف. وذكر أن الوضع الحالي يصب في مصلحة روسيا، مما يسمح لها باستعادة إمكاناتها العسكرية والاستمرار في تشكيل تهديد لأوكرانيا.
ومع دخول فصل الشتاء، يجبر هطول الأمطار والثلوج والبرد الأطراف المتقاتلة في أوكرانيا على إجراء تعديلات على العمليات العسكرية، لكن شدة الأعمال العدائية لا تهدأ. يواصل الجيش الروسي هجومه الضخم على مدينة أفدييفكا، ويكمل إعادة تجميع القوات في اتجاه كوبيانسك ولا يتخلى عن خطط التقدم إلى ليمان.
لا تتوقف القوات الأوكرانية عن مهاجمة التحصينات الروسية في اتجاه توكماك وتحاول توسيع رؤوس الجسور التكتيكية على الضفة اليسرى (الشرقية) لنهر دنيبرو. وإلى الجنوب والشمال الغربي من باخموت، تستمر المعارك الشرسة بنجاح متفاوت.
هل انتهى الهجوم الأوكراني المضاد؟
منذ أشهر يتحدث المدونون والصحافيون العسكريون الروس كثيراً عن فشل الهجوم الأوكراني المضاد. وفي المقابل يتحدث الجانب الأوكراني عن تقدم بطيء من دون الإعلان عن انتهاء الهجوم.
ومقارنة بالأهداف الرئيسية للهجوم الأوكراني المضاد الذي بدأ في 4 يونيو/حزيران الماضي، يمكن القول إن النتائج مخيبة للجانب الأوكراني، ففي جبهة زابوريجيا كان الهدف الرئيسي في بداية الهجوم الأوكراني هو الوصول إلى بحر آزوف، المتفرع من البحر الأسود، ثم تغيّر الهدف في سبتمبر/ أيلول الماضي، للوصول إلى توكماك الواقعة على بعد 60 كيلومتراً من الساحل.
وعملياً تتحرك القوات الأوكرانية في اتجاه توكماك، لكن لا يمكن وصف هذا التقدم بأنه سريع. ولا تزال القوات الأوكرانية على بعد بين نحو 15 و20 كيلومتراً من المدينة، وتبلغ وتيرة التقدم مئات الأمتار على الأكثر.
ومن الواضح أن بطء التقدم عائد إلى أن تأخر الهجوم المضاد، وتركيز أوكرانيا على الدفاع عن مدينة باخموت، منح روسيا الوقت لبناء خطوط دفاعية متعددة شملت "الأهرامات" المضادة للدبابات، وعدة كيلومترات من الخنادق والمخابئ ونقاط التحصن القوية والمخابئ وحقول الألغام.
وتمكنت روسيا من تنظيم عمل المدفعية والطيران، الذي قاتل، إلى جانب القوات البرية، ضد القوات الأوكرانية المتقدمة، ونجحت التكتيكات الروسية في تعقيد عمل الوحدات الهندسية الأوكرانية التي كانت تعمل في مجال إزالة الألغام بشكل كبير.
ومن غير المرجح أن ينجح الجيش الأوكراني في الوصول إلى توكماك نظراً لأنها منطقة محصنة كبيرة محاطة بخط دفاع سوروفيكين الرئيسي (خط دفاع ينسب إلى الجنرال سيرغي سوروفيكين الذي عيّن لعدة أشهر في خريف العام الماضي قائداً لغزو أوكرانيا واختفى بعد الانقلاب الفاشل لزعيم فاغنر الراحل يفغيني بريغوجين في يونيو الماضي).
الجيشان الروسي والأوكراني لا يستطيعان جمع ما يكفي من القوات لإنشاء قوة ضاربة على الجبهة أكبر بعدة مرات من قوات العدو المدافعة
أفدييفكا صراع محتدم لأغراض سياسية ومعنوية
وعلى عكس وضعية الدفاع على الجبهتين الجنوبية والوسطى، تشنّ القوات الروسية هجمات على مدينة أفدييفكا منذ 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، واستطاعت في الأيام الأخيرة تشديد قبضتها ومحاصرة المدينة الواقعة في مقاطعة دونيتسك والتي تعدّ من ضواحي مدينة دونيتسك.
ومنذ 2014 شيدت القوات الأوكرانية خطوطاً دفاعية قوية في أفدييفكا مكنتها من الصمود طويلاً على الرغم من أن المدينة كانت من الأهداف الأولى للقوات الروسية، من أجل وقف استهداف مدينة دونيتسك بالصواريخ والمدفعية.
وعلى الرغم من أن المدينة مدمرة عملياً منذ أشهر إلا أن الجيش الأوكراني ما زال موجوداً فيها، ويدافع عن وجوده فيها. وبحسب الجانب الأوكراني، بدأت مجموعة قوامها حوالي 40 ألف جندي روسي بالضغط في وقت واحد من الجانبين الشمالي والجنوبي، في محاولة لقطع خطوط الإمداد عن المدينة.
ومنذ 10 أكتوبر وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، شنت روسيا موجتين من الهجمات، وتمكن الجيش الروسي من التقدم عدة كيلومترات من شمال المدينة وتتمركز القوات الروسية عند مصنع فحم الكوك ومكبّ النفايات الرئيسي، ومن الجنوب أيضا تقدم الروس من فوديانوي باتجاه قرية تونينكو.
وتهدف روسيا إلى قطع خطوط الإمدادات. وجمعت القوات الروسية في الأسبوع الأخير قواتها وأحضرت مزيداً من الاحتياطات. وذكرت تقارير أن الجيش الروسي جلب تعزيزات إضافية تقدر بنحو 32 دبابة و1600 جندي، ما يرفع عدد الدبابات المقاتلة في منطقة صغيرة نسبياً إلى أكثر من 60 دبابة.
ومنذ بداية نوفمبر الماضي تقدمت القوات الروسية من الجانبين الجنوبي والشمالي بنحو 10 كيلومترات، ما يعني أن القوات الأوكرانية المدافعة عن المدينة باتت محاصرة من ثلاث جهات، ولم يبقَ لها إلا الجهة الغربية، وباتت بين فكي كماشية بعمق لا يتجاوز 5 كيلومترات، وهذا عامل خطر ويقلل من فرص الانسحاب بأمان.
ونظراً لهذا التقدم للقوات الروسية، يدور نقاش في أوكرانيا حول ضرورة سحب القوات من أفدييفكا. ويرى مؤيدو الانسحاب أنه بهذه الخطوة يمكن المحافظة على الوحدات المدربة والمجهزة القوات المسلحة الأوكرانية، التي تسيطر حالياً على المدينة في ظروف شبه تطويق وهجمات يومية. ويقترحون التخلي عن قطعة من الأرض لا أهمية عسكرية والتراجع إلى خط الدفاع الثاني، وجمع الاحتياطيات وتنفيذ هجوم مضاد قوي على الجناحين.
ومع تمسك الجيش الأوكراني بأفدييفكا، برزت مقارنات بين ما يجري فيها وما جرى في باخموت. وفي حالة باخموت وبعد سقوطها في مايو/أيار 2023 رأى المدافعون عن خيار الاستمرار بالاحتفاظ بالمدينة والمقاومة أن ذلك أدى إلى إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الروسية وقوات "فاغنر"، وأن الجيش الروسي ضخ عشرات الآلاف في المعركة ما عطل إمكانية تقدمه في محاور آخر.
وفي المقابل قال الفريق الذي دعا إلى الانسحاب من باخموت إن البقاء فيها أدى إلى استنزاف القوات الأوكرانية وتعطيل الهجوم المضاد وتأخيره والذي كان مقرراً في الربيع وتأخر إلى بداية يونيو ولكنه لم يحقق نجاحات كبيرة حتى الآن.
ويتفق معظم الخبراء على عدم وجود أهمية عسكرية كبيرة للاستيلاء على أفدييفكا، وأن الأهداف محض إعلامية وسياسية. ومنذ بداية الحرب في شتاء العام الماضي انطلقت معظم التصريحات الروسية الدعية للسيطرة على أفدييفكا من أن ابعاد الأوكرانيين سوف يحمي مدينة دونيتسك من الهجمات المدفعية والصاروخية نظراً لأنها تقع على بعد 10 إلى 15 كيلومتراً من مركز دونيتسك.
ولكن الأوضاع حالياً تغيرت فالقوات الأوكرانية بات لديها أسلحة صاروخية قادرة على الوصول إلى دونيتسك من أماكن أبعد، وباتت تملك إضافة إلى مدافع 152 السوفييتية القادرة على الوصول إلى حوالي 30 كيلومتراً، ومدافع "هاوتزر" التي يصل مداها إلى 40 كيلومتراً، وكذلك "هيمارس" التي يصل مداها إلى 70 كيلومتراً، وصواريخ "أتاكمز" البالستية وتلقت أوكرانيا صواريخ يصل مداها إلى 160 كيلومتراً.
من غير المستبعد أن يسيطر الجيش الروسي قريباً على أفدييفكا
ومن غير المستبعد أن يسيطر الجيش الروسي قريباً على أفدييفكا، ولكن هذا التقدم لن يمهد لتقدم باتجاه المدن الكبرى في مقاطعة دونيتسك مثل سلوفيانسك وكراماتورسك والتي ما زالت تحت سيطرة الجيش الأوكراني، وهو هدف تركز عليه روسيا منذ ضمها للمناطق الأربع (لوغانسك، دونيتسك، زابوريجيا خيرسون في سبتمبر 2022) تمهيداً للوصول إلى الحدود الإدارية لهذه المناطق التي باتت من وجه نظر موسكو روسية.
وإلى الشمال تقدمت القوات الروسية نحو السيطرة على سيفيرودونيتسك، وهو هدف إن تحقق يعني السيطرة على كامل جمهورية لوغانسك الانفصالية بحدود 2014، ولكن لن تستطيع القوات الروسية تأمين الاستقرار المطلوب من دون السيطرة على كوبيانسك ومناطق في مقاطعة خاركيف، شرقي أوكرانيا، وهناك تحتدم المعارك.
نقاط تمركز في الضفة الشرقية لدنيبرو
في منتصف الشهر الماضي أفاد مدونون روس وأوكرانيون وخبراء قاموا بتحليل معلومات استخباراتية من مصادر عدة، بأن الجيش الأوكراني نجح في تعزيز قوات منذ نهاية أكتوبر على الضفة المحتلة من دنيبرو، خصوصاً في قرية كرينكي في منطقة خيرسون الجنوبية.
وفي الأيام الأخيرة أكدت تقارير معهد الحرب الأميركي أن الجانب الأوكراني نجح في الحصول على موطئ قدم في مواقع جديدة على الضفة اليسرى للنهر، وأن القوات الأوكرانية أمّنت وجوداً لها في الضفة الشرقية للنهر في قرية كرينكي، على بعد نحو 35 كيلومتراً عن خيرسون.
بدأت الحرب تأخذ طابعاً موضعياً مع نهاية خريف 2022. كانت آخر عملية كبرى تمكنت فيها كييف من الحديث عن تحقيق أهداف حاسمة هي انسحاب القوات الروسية من الضفة اليمنى لنهر دنيبرو.
وعلى الرغم من أن روسيا وأوكرانيا نفذتا عملية واحدة كبيرة إلى حدّ ما منذ ذلك الحين (استولى الروس على باخموت، وتقدم الأوكرانيون في منطقة أوريخوفو)، فإن طبيعة الحرب البرية لم تتغير بشكل جذري.
ومع عجز الطرفين عن إنجاز هجوم بأسلوب "الحرب الخاطفة" نظراً لعدم وجود موارد كبيرة من أجل إسقاط دفاعات الخصم، لجأ الجيشان الروسي والأوكراني إلى "الحرب الموضعية" بهدف إنهاك العدو وإجباره على نقل وإهدار الاحتياطيات والاستجابة للتحديات الجديدة. وفي نهاية المطاف، يمكن لمثل هذه الحرب أن تخلق الظروف المناسبة لتوجيه ضربة حاسمة.
هذه حرب أكثر تعقيداً وتتطلب مهارة أكبر بكثير من القيادة، وهي أشبه بمباراة ملاكمة، حيث "الحرب الخاطفة" هي محاولة إنهاء المباراة بالضربة القاضية، و"الحرب الموضعية" محاولة إرهاق الخصم والفوز بالنقاط.
وعلى الرغم من طبيعة الحرب الموضعية، زادت القوات المسلحة الأوكرانية نشاطاتها على الضفة اليسرى لنهر دنيبرو وتواصل الهجمات في جنوب منطقة زابوريجيا، ويواصل الجيش الروسي هجماته بهدف تطويق أفدييفكا، ويستهدف كوبيانسك وليمان، ولكن الأرجح أن يحاول الطرفان الاحتفاظ بمواقعها على أبواب الشتاء مع تكثيف الهجمات خلف الخطوط باستخدام الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيّرة والمسيّرات البحرية.