توجهت يوم الثلاثاء الماضي فرقة من الشرطة التونسية إلى مقر حركة النهضة، وصادرت جهاز التخزين الرئيسي بسبب اتهامات بعقود "لوبي" (حملات ضغط) يجري التحقيق فيها، ما اعتبر خطوة أولى وتمهيداً لتحقيقات أوسع وفتح ملفات كثيرة، ستسلط مزيداً من الضغط على الحركة.
لكن التهديد الحقيقي يأتي من داخل "النهضة" نفسها بعد استقالة 131 من كوادرها في سبتمبر/أيلول الماضي، ما جعل خطر الانقسام والتشتت يتزايد بشكل لافت ووصل إلى القواعد، بما قد يحد من حضور الحركة بعدما سيطرت على المشهد لسنوات. وحذرت القيادات، قبل خروجها من الحركة، من أن "النهضة" يمكن أن تواجه تهديداً حقيقياً بالعزلة، إذ تدعو قوى كثيرة في الساحة التونسية اليوم إلى استبعادها من حوار ممكن، سعياً إلى تحميلها فاتورة إخفاق العشرية الماضية، وإضعافها إلى أقصى حد، بغاية رسم مشهد سياسي جديد.
أرجع المستقيلون أسباب مغادرتهم "النهضة" إلى انفراد مجموعة من الموالين لرئيسها بالقرار
يشار إلى أن من بين المستقيلين قياداتٍ تاريخية في الحركة، مثل الوزراء السابقين محمد بن سالم وعبد اللطيف المكي وسمير ديلو، ونواباً سابقين في المجلس التأسيسي، ونواباً من البرلمان المجمّد حالياً، بالإضافة إلى مسؤولين جهويين ومحليين.
وأرجع المستقيلون، في بيان في 25 سبتمبر الماضي، أسباب مغادرتهم "النهضة" إلى تعطّل الديمقراطية داخل الحركة، وإلى "انفراد مجموعة من الموالين لرئيسها بالقرار، وهو ما تسبب في خطوات خاطئة أفضت إلى تحالفات سياسية متناقضة مع التعهدات المقدمة للناخبين". ردة فعل رئيس الحركة راشد الغنوشي على هذه الاستقالات كانت منتظرة. وهو اكتفى بالقول، بعدها بثلاثة أيام، إن "الاستقالات تدفعنا إلى تطوير مؤسساتنا لتكون فضاءات حوار وإدماج لكل التوجهات الموجودة داخل الحركة، وباب الصلح مفتوح دائماً". وأضاف، في تصريح لقناة "الجزيرة"، أن "المستقيلين استثمرت فيهم الحركة لعشرات السنوات، وكانوا مناضلين ضمن هياكلها وقيادتها. هؤلاء الإخوة سارعوا إلى إعلان الاستقالة رغم أنه كان بالإمكان الحوار، والبحث عن الحلول في أفق المؤتمر قبل نهاية هذه السنة، ولكن لكلٍّ تقديره".
لكنّ الوزير السابق عبد اللطيف المكي أكد أن "المؤتمر لن يعقد ما دام هناك بعض معارضي الغنوشي داخل الحركة، وهو بالتأكيد لم يكن ليعقد عندما كنّا داخلها قبل الاستقالة". وقال، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "كل محاولات الإصلاح على المدى المتوسط والقريب فشلت، إذ كان المطلوب تشكيل قيادة معقولة للحركة بشكل آني وسريع لمجابهة صدمة 25 يوليو/تموز (قرارات الرئيس قيس سعيّد التي جمّد بموجبها عمل مجلس النواب وأقال الحكومة)، وكنا نظن أن راشد الغنوشي والقيادة المحيطة به ستستخلص الدروس. ولكن محاولة التعديل السريع فشلت بسبب تمسك الغنوشي بمنصبه وبجماعته. وحتى على المدى المتوسط، كانت محاولة الإصلاح عبر المؤتمر لتفشل أيضاً، لأنه بدأ التكتيك لإرجاء عقده من ديسمبر/كانون الأول المقبل إلى موعد آخر". وتابع: "لذلك سدت مواطن الإصلاح الفورية ومتوسطة المدى، وكان يراد للنهضة أن تتحول إلى ملكية يحكمها فرد واحد، حتى يقتلها أو يموت هو".
ولم تكن هذه الاستقالات، برغم أنها الأضخم بالتأكيد، الأولى من نوعها، إذ سبقتها أخرى للمختلفين مع الغنوشي فكرياً، ومعارضيه سياسياً، ومنافسيه تنظيمياً، وانتهت جميعها ببقائه وخروجهم. وقد تبدو هذه الاستقالات خدمة جديدة يقدمها معارضو الغنوشي له، خصوصاً أنه كان يؤكد أنه لن يترشح مرة أخرى خلال المؤتمر المقبل المفترض انعقاده نهاية العام الحالي. لكن المكي نفى أن يكون انسحاب معارضي الغنوشي بمثابة الخدمة التي تقدم له، قائلاً "لن يُعقد المؤتمر ما دمنا موجودين"، مشيراً إلى أن الغنوشي هو من أطلق مقولة "لن نذهب إلى المؤتمر ما دمنا مختلفين".
وقال المكي: "شخصياً خرجت من نهضة الغنوشي ومن والاه، وليس من النهضة التي أعرفها"، مبيناً أن "الحركة هي نهضة الأفكار والنضال والمبادئ، ونهضة الأخوة الصافية التي نشأنا عليها، وصبرنا بفضلها على سنوات السجن والمهجر والمضايقات. أما هذه النهضة فلم يعد أحد يعرفها". وبيّن المكي أن "وحدة أي حزب هي وصفة وليست أُمنية أو قراراً، تتطلب انتماءً واضحاً يقوم على الشفافية والديمقراطية الداخلية حتى تستمر الوحدة. أما إذا ضرب ذلك بسبب الانفراد بالقرار، ووضع سياسة وطنية رديئة، وتغير الأخلاقيات، فهذا سيضرب أي تنظيم، والنهضة كان يمكنها أن تكون خيمة يلجأ إليها الجميع، ولكنها أصبحت منفرة"، مشدداً على أنه "لا أحد يعلم إلى أين سيؤول وضع النهضة التي يقودها الغنوشي". ونفى "إمكانية عودة المستقيلين إلى النهضة إذا غادرها الغنوشي"، مشيراً إلى أن "هناك عدة رؤى وتصورات حول مستقبل المستقيلين، وقد نتجه إلى تأسيس حزب جديد وهذا ما يجري التفكير فيه حالياً".
عبد اللطيف المكي: المؤتمر لن يعقد ما دام هناك بعض معارضي الغنوشي داخل الحركة
في المقابل، نفى القيادي في "النهضة" العجمي الوريمي أن "تكون الحركة في عزلة"، معتبراً أنها "تمرّ الآن بمرحلة تأمل ومراجعات، وتستعد لموعد هام في مسيرتها، وهو المؤتمر، الذي يلقى حرصاً بأن يكون منعطفاً حقيقياً في تجربتها وعلاقتها بالمجتمع والدولة والمستقبل". وأوضح، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "النهضة مؤسسة مستقرة وتعمل بنسق يتماشى مع الظروف التي تمر بها البلاد، وهي تتفاعل مع محيطها من مكونات المشهد الوطني، وتقوم بدورها وتتحمل مسؤوليتها في هذا الظرف، وتبحث عن حلول للأزمة، وترى نفسها جزءاً من الحل، ولسنا في قطيعة مع أي طرف".
وأكد الوريمي أن "النهضة لها وضوح سياسي كامل في فهم المرحلة والتعاطي معها، وتتفاعل بعقلانية وبراغماتية، ومبدئية أيضاً، مع التحولات التي تشهدها البلاد. ورغم أنه لا لَبْس في اعتبار ما حصل انقلاباً، إلا ان الحركة قالت إنه يمكن تحويل 25 يوليو إلى فرصة، ومددنا أيدينا لذلك، وشكلنا لجنة للتواصل وطرقنا جميع الأبواب. ولكن الرئاسة هي التي تعيش في قطيعة مع المنظومة الحزبية كلها، وتريد التأسيس لمنظومة جديدة. والنتيجة أن ذلك لم يحل الأزمة التي قال (سعيّد) إنه جاء لحلها، بل زادت، وأصبحت أزمة مركبة دستورية وسياسية واقتصادية، وزادت من القلق في الداخل والخارج. وحتى من كان داعماً أو متفهماً في 25 يوليو لم يعد كذلك، خصوصاً بعد قرارات 22 سبتمبر"، في إشارة إلى الأمر الرئاسي بتعليق العمل بالدستور مؤقتاً.
وبشأن موعد المؤتمر الذي كان مبرمجاً نهاية العام الحالي، قال الوريمي إنه "لا يمكن أن يؤكد ذلك، ولكنْ هناك حرص لدى قطاع واسع من القيادات على ذلك. ولكن الحرص الأكبر أن يكون بالخصوص موعداً لمنعطف في تاريخ الحركة، وليس هناك رغبة في الاستعجال وحرق المراحل". وأقرّ بأن "الضغط الذي كان موجوداً سابقاً تراجع كثيراً بعد الاستقالات، حيث كان عدد من القيادات المستقيلة ينادي حتى بمؤتمر انتخابي فقط للتجديد القيادي دون مخرجات سياسية جوهرية أو قراءات تقييمية للفترة الماضية. أما حالياً فالرأي الغالب هو الدعوة لمؤتمر يبحث بشكل عميق موقع الحركة في وضع البلاد ومستقبلها، وعدم حصر المؤتمر في مسألة الانتقال القيادي". وبشأن تأثير المستقيلين، أقر الوريمي بذلك، بالرجوع إلى تاريخية القيادات المستقيلة، ولكن ذلك "لم يربك عمل المؤسسات في النهضة، لأن أغلبية هذه القيادات لم تكن تتحمل مسؤوليات مباشرة". وأضاف أن "هذه الاستقالات قد تحمل برغم ذلك بعض الإيجابية، لأنها من ناحية ستحرك ديناميكية النقاش داخل الحزب. وحتى وإن أسسوا لمشروع سياسي جديد فذلك سيكون مهماً على مستوى التنافس، وسيكون في نفس الوقت تعبيراً سياسياً جديداً يستفيد من تجربة تلك القيادات، وجسماً يتحرك في فلك المشروع الوطني الإسلامي العام الذي تمثل النهضة جزءاً منه فقط".
من جهته، قال الباحث سامي براهم، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الفكرة المركزية من الاستقالات في حركة النهضة، من خلال ما نشره المستقيلون، تحمل عنوان الإصلاح بمفرداته المعلنة، التي هي الحد من المركزية والفردانية في القرار وتهميش المؤسسات، فالنهضة من الأحزاب المتطورة على مستوى بنائها التنظيمي، لكنه بناء شكلي مفرغ من المعنى الديمقراطي. فهذه المفردات ذكرت في العديد من الحوارات والتصريحات، ومن ثَمّ لا نتحدث عن استقالات مفاجئة". وأوضح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "فكرة الاستقالة كانت موجودة منذ فترة لكنها أُجلت، إذ كان سينظر إليها على أنها خروج عن الولاء، وهو ما كبح جماح الاستقالة وجعلها تُؤجل"، مشيراً إلى أن الحركة وجدت، بعد قرارات سعيّد، "نفسها في وضع مختلف للمرة الأولى، إلى جانب الفشل في الإصلاح من الداخل".
العجمي الوريمي: الضغط الذي كان موجوداً سابقاً تراجع كثيراً بعد الاستقالات
وحول تداعيات هذه الاستقالات على المشهد السياسي عموماً وعلى الحركات الإسلامية أو القريبة منها، لفت براهم إلى أنه "للمرة الأولى يحصل شرخ من الداخل. ففي السابق كان هناك تيارات إسلامية تنشأ بمعزل عن النهضة، كحزب التحرير، وائتلاف الكرامة، ولكن هذه المرة الأولى يحصل انشقاق من داخل الحركة نفسها. والنهضة إذا واصلت سياسة الهروب للأمام، وعدم الاستجابة للإصلاح، فستلتحق مجموعة أخرى بالمستقيلين، أو تظهر مجموعة في شكل حزب جديد".
وبخصوص هذه الاستقالات المتتالية منذ أشهر، بينهم القيادي البارز عبد الحميد الجلاصي، ومستشار رئيس الحركة لطفي زيتون، وزبير الشهودي، ومن قبلهم زياد العذاري وحمادي الجبالي، ثم قائمة المائة، والآن هؤلاء، حيث إن كل معارضي الغنوشي ينتهي بهم الأمر خارج الحركة، بينما يستمر الغنوشي وتياره داخلها، قال براهم إن "الغنوشي يتمكن، بقدرته في إدارة المشهد، من تمرير قراراته حتى لو كانت جائرة، فالقرارات تبدو في ظاهرها ديمقراطية لكنها ليست كذلك في جوهرها، لأنها تتم بالمغالبة. وزلزال النهضة بدأ منذ الانقلابات على الانتخابات التمهيدية الداخلية في الحركة استعداداً لوضع قوائم الانتخابات التشريعية السابقة (2019) في الجهات، لأن القوائم المنتخبة من طرف أنصار الحزب تم إسقاطها من قبل القيادة ضمن مبدأ تعديلات أجراها المكتب التنفيذي، وتم استغلال هذا المبدأ لإسقاط مخالفين ومعارضين للتمديد للغنوشي وطالبي التداول على رئاسة الحركة". وفي ضوء هذه التطورات، رجح براهم أن تلتحق مجموعة أخرى بالمستقيلين، وأن تشهد الحركة تآكلاً لقاعدتها الانتخابية.