تونس... الحركة التصحيحية بين واشنطن وباريس

02 اغسطس 2021
فتحت باريس أبوابها لقيس سعيّد (فرانس برس)
+ الخط -


الإدارة الأميركية مهتمة بالأوضاع في تونس، والأزمة في هذا البلد على قائمة أولويات البيت الأبيض. هذا ما عكسته المكالمة التي أجراها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، مع الرئيس التونسي قيس سعيّد، وهي تمثل أول تحرك دولي وازن بعد أسبوع على الإجراءات التي اتخذها سعيّد. واللافت فيها أنها استغرقت ساعة، وحملت قدراً من الوضوح الذي يمكن القياس عليه إقليمياً ودولياً. وقبلها مرّ أسبوع من دون ردة فعل ذات أهمية من عاصمة غربية على فرمانات الرئيس التونسي بتجميد اختصاصات البرلمان لمدة شهر، ورفع الحصانة عن النواب، وحل الحكومة، وترؤس النيابة العامة.

زمن المكالمة يشير إلى أن الأزمة التونسية باتت تشغل واشنطن، وما ورد في بيان البيت الأبيض بعدها من عناصر هو تأكيد الإدارة الأميركية على "الحاجة الماسة لأن يرسم القادة التونسيون الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي في تونس... على أن هذه العودة ستتطلب تشكيل حكومة تونسية جديدة بسرعة بقيادة رئيس وزراء قادر على تحقيق استقرار الاقتصاد التونسي ومواجهة جائحة كورونا، فضلاً عن ضمان عودة البرلمان المنتخب في الوقت المناسب". ويظهر من لغة البيان، وما تسرب عن المكالمة، أن واشنطن نقلت إلى سعيّد رؤيتها حيال الحدث الراهن في تونس، والذي يتقاطع مع ما أبدته غالبية الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من مواقف حيال إجراءات الرئيس.

لا تريد واشنطن في الوقت الراهن أن تكون طرفاً، وتنتظر كيف سيترجم سعيّد الإجراءات التي اتخذها

الوضع في تونس متقلب، وعلى الرغم من وضوح ما جاء في المكالمة والتصريحات التي سبقتها من وزارة الخارجية الأميركية، يصعب التكهن إلى أي وجهة سوف تذهب ردة الفعل الأميركية، ولذا فإن الحذر سيد الموقف الأميركي إلى حين ترى واشنطن كيف ستتطور المستجدات، وهي لا تريد في الوقت الراهن أن تكون طرفاً، وكل ما تقوم به الآن هو أنها تنتظر كيف سيترجم سعيّد الإجراءات التي اتخذها، في وقت ترى أن الصلاحيات التي احتفظ بها لنفسه فرضها الوضع الاستثنائي. ويتعيّن أن ترى الإدارة الأميركية ماذا سيفعل سعيّد كي تحدد موقفها، ولن تعلن عن موقف صريح بالاعتماد على الفرمانات التي أصدرها فقط. وهناك مسألة أخرى مهمة تتعلق بنوعية تعامل سعيّد مع القلق الأميركي.

وفي الوقت نفسه، تنتظر واشنطن موقف المعارضة، وحركة "النهضة" تحديداً، وفي أي اتجاه سوف تذهب. هل تلتزم حتى النهاية بالموقف الحالي الذي اتسم بضبط النفس، والتعامل بهدوء شديد، وما عدا اليوم الأول الذي تلى صدور إجراءات سعيّد، فإنها لم تلجأ إلى الحشد واستخدام سلاح الشارع. ومن غير المعروف حتى الآن ما إذا كان هذا الموقف سوف يصمد في ظل الحملة السياسية والإعلامية والإجراءات التي تطاول بعض مسؤوليها، وما يتعرض إليه هؤلاء المسؤولون من ضغوط من داخل التنظيم. كل ذلك محل مراقبة من طرف واشنطن وغيرها قبل بلورة موقف سياسي نهائي، ولكن من المستبعد أن ترحب واشنطن بأي تراجع عن المسار الديمقراطي، لأن تونس تشكل بالنسبة لها نموذجاً للديمقراطية في جنوب البحر الأبيض المتوسط. وإذا ما انتقلت إلى وضع آخر قد تتصرف الإدارة الأميركية، وفي حال قررت لديها أدوات ضغط مهمة على سعيّد اليوم، منها البنوك المقرضة، ولا سيما البنك الدولي والمؤسسات الدولية التي تقدم المساعدات.

ويبدو هنا مهماً لفت الانتباه إلى أن علاقة نظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي كانت سيئة مع الولايات المتحدة، والعلاقة الجديدة التي قامت بعد سقوط نظامه أساسها المسار الديمقراطي، وإذا تراجعت تونس عنه، فإن ذلك قد يؤدي إلى شرخ في العلاقات. وهناك أوساط دبلوماسية عربية في واشنطن تقول إن واشنطن أوصلت هذه الفكرة إلى سعيّد، ولذلك أبقت الضغط عليه من أجل تشكيل حكومة والتوقف عن الاعتقالات، والتعامل بشفافية، ووقف الإجراءات ضد وسائل الإعلام وحرية التعبير بعد أن تم إغلاق مكاتب بعض وسائل الإعلام، ومنها قناة الجزيرة، وملاحقة ناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي.

ولكن حادثة توقيف فريق مراسلي صحيفة "نيويورك تايمز" من قبل الأمن التونسي، والطريقة التي استقبلهم بها سعيّد، لا توحي بأن الرئيس التونسي يرهن موقفه بما يصدر من واشنطن. ويرى أكثر من خبير تونسي أن الموقف الأميركي لن يتجاوز حدود المماحكات، ولا سيما أن الكثير من التدخلات الأميركية لم تكن ناجحة وتعقّد الموقف، ولا تحظى بتعاطف شعبي، وتصبح عديمة الجدوى في حال تحركت فرنسا جدياً في تونس، البلد الذي تربطها به شبكة من العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية عمرها أكثر من قرن، وهذا أمر يدركه سعيّد، ويتصرف على أساسه، وهو ظاهر جداً في العلاقة التي بناها مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والذي زاره في الإليزيه في يونيو/حزيران 2020، وفتحت له باريس الأبواب، وراهنت عليه في تغيير المشهد التونسي من خلال تحجيم حركة "النهضة".

وفي وقت قدمت له مساعدات صحية لمواجهة كورونا ومنحت تونس قرضاً بقيمة 350 مليون يورو، لكن النقطة المهمة تلك التي أثارها الرئيس الفرنسي، وتتعلق بالتفاهمات في السياسة الخارجية، انطلاقاً من ليبيا التي تشكل بالنسبة لباريس عقدة المتوسط الأساسية. وأعلن ماكرون أنه ناقش مع سعيّد الأزمة الليبية، وأكد أنّ "الدولة التركية تقوم بلعب دور خطير في ليبيا". وقال إنّ "تونس عضو في مجلس الأمن حالياً، وستعمل مع فرنسا لطرح وجهة نظر مشتركة، وأنّ القمة الفرنكوفونية التي ستُعقد في تونس ستكون فرصة للنظر في المشترك بين الشعبين لأنّ قدرهما مشترك". وكان رد سعيّد "من هذا المنبر ومن باريس، تونس لا تقبل بتقسيم ليبيا، وإنّ تونس مع وقف فوري لإطلاق النار وعدم تدخّل أي جهة أجنبيّة''، مؤكداً أنّ هذا موقف تونس والجزائر أيضاً. ولقي موقف سعيّد تثميناً عالياً في باريس التي خسرت الحرب في ليبيا من خلال دعمها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وأدركت أن الحفاظ على مصالحها في ليبيا يتم عبر تونس ومصر، ولذلك عملت على التقريب بين سعيّد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي استقبله في إبريل/نيسان الماضي. وقالت بعض وسائل الإعلام إن زيارة الرئيس التونسي إلى القاهرة، والتي دامت ثلاثة أيام، ناقشت "الوضع الصعب الذي تعيشه المنطقة العربية، وكذلك مواضيع مثل مكافحة الإرهاب، والإسلام السياسي، وإعادة السلام في بلدان الساحل الأفريقي".

علاقة سعيّد المتميزة مع باريس تتيح له مجالاً مفتوحاً للمناورة، وتوفّر له تغطية دولية كي يتمكن من تنفيذ خريطة الطريق التي يسير عليها

ولفتت الانتباه المدة التي استغرقتها الزيارة، وعزاها بعضهم إلى أزمة سد النهضة، وما يمكن أن تلعبه تونس من دور من موقعها عضواً في مجلس الأمن، ولم يدر في بال أحد أن المقصود هو بحث وضع حركة "النهضة" وليس أزمة سد النهضة. ويمكن اليوم الربط بين تلك الزيارة وما يروّج في بعض وسائل الإعلام من دور مصري في مساندة خطوات سعيّد.

على العموم ليس في وسع سعيّد إعطاء أذن صماء إلى موقف واشنطن، ولكن علاقته المتميزة مع باريس تتيح له مجالاً مفتوحاً للمناورة، وتوفّر له تغطية دولية كي يتمكن من تنفيذ خريطة الطريق التي يسير عليها، وهي الانقلاب التدريجي بجرعات تساعده على بناء نموذج حكم جديد يقوم على نظام رئاسي، بعد حل البرلمان وإجراء استفتاء على تعديل الدستور، وهي خطوات يجري الحديث عنها في الكواليس، ومن المتوقع أن يعلن عنها سعيّد في القريب العاجل.