خرج الخلاف إلى العلن، الأسبوع الماضي، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة حكومته إليزابيث بورن، وصولاً إلى بدء التكهن في فرنسا، بقرب حصول تعديل حكومي، خصوصاً مع انحسار عاصفة قانون رفع سنّ التقاعد، التي قيل على نطاق واسع قبل أكثر من عام، إن ماكرون اختار تحديداً بورن، لمواجهتها، لقدرتها وفق تقديره على فرض القانون وتحمل تبعاته من دون أن تسبب له صداعاً.
واضطر ماكرون سريعاً، الأربعاء الماضي، للتأكيد أن لديه "كل الثقة" ببورن، بعدما وبّخها قبل يوم واحد، خلال جلسة للحكومة، بسبب تصريحات أدلت بها حول حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، برئاسة مارين لوبن، واعتبرها ماكرون بشكل أو بآخر بالية. وجاء التوبيخ، أو "التحجيم" كما رآه الإعلام الفرنسي، ليشغل اليمين واليسار الفرنسيين، على حدّ سواء، وكذلك حزب ماكرون الوسطي "النهضة"، لما فتحه من تساؤلات حول أسباب التوبيخ، وما إذا كان يتعلق بخلاف بين ماكرون وبورن، أو محاولة الأول التودد للوبن وحزبها، وسط سعيه لتمرير ما تبقى في جعبته من قوانين غير شعبية، في ولايته الثانية.
أطلقت بورن خريطة عمل لـ100 يوم بعد أزمة قانون التقاعد
وبرز في فرنسا، الأسبوع الماضي، سجالان يتعلقان بوضع حكومة بورن والمقاربة الأمثل للتعامل مع اليمين المتطرف، بعدما عمد ماكرون إلى توجيه رسالة غير مباشرة إلى رئيسة حكومته، خلال جلسة للحكومة عقدت في 30 مايو/أيار الماضي، علّق فيها على تصريح سابق لبورن قالت فيه إن حزب "التجمع الوطني" الفرنسي الذي يمثل اليمين المتطرف الفرنسي، والذي تنافست فيه رئيسته مع ماكرون في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية صيف العام الماضي، هو "وريث بيتان"، في إشارة إلى الماريشال الفرنسي فيليب بيتان الذي تعامل خلال الحرب العالمية الثانية مع الاحتلال النازي وكان على رأس حكومة فيشي التي ساهمت في نقل يهود فرنسا إلى المحارق النازية.
ورداً على تصريح بورن، اعتبر ماكرون خلال جلسة الحكومة أنه يجب عدم محاربة اليمين المتطرف بكلمات تعود إلى تسعينيات القرن الماضي" أو بـ"أحكام أخلاقية". وعاد ماكرون لاحقاً ليقول إنه بالنسبة إليه، فإنه يحارب اليمين المتطرف بـ"أفكارهم وعوارضهم، وليس بجذورهم وتاريخهم".
ومن المعروف أن بورن هي ابنة يهودي عاش تجربة معتقل أوشفيتز، رمز محرقة الهولوكست لليهود خلال حكم النازية، وانتحر في عام 1972. لكن ذلك قد لا يكون السبب وراء تصريحها، تماماً كما أن السبب وراء تعليق ماكرون بشكل مفتوح وفي جلسة حكومية ليس توبيخ أو تحجيم بورن، بل "سكب الماء البارد عليها أو إطلاق رصاصة باتجاهها"، بحسب ما رأى مستشار لماكرون في حديث لإذاعة "أوروبا 1"، في 31 مايو.
وتُطرح أسئلة كثيرة في فرنسا، حول سبب بقاء بورن على رأس الحكومة، أو ما إذا كان رحيلها قد اقترب، على أن يكون موعده في نهاية المائة اليوم التي أعلنت عنها في نهاية إبريل/نيسان الماضي، على أن تكون "خريطة طريق للتهدئة"، بعد عاصفة قانون التقاعد، الذي بدأت تعبئة النقابات رفضاً له بالانحسار تدريجياً. وتعزّزت التكهنات بقرب رحيل حكومة بورن، بعد تصريحات ماكرون، وتأكيد رئيسة الحكومة لاحقاً أن لديها علاقات "سلسة" مع الرئيس وكذلك مع وزير الداخلية جيرالد دارمانان، لكن الإعلام وصف تلك العلاقات بـ"الانسيابية الباردة جداً".
وانهالت التعليقات الإعلامية عن العلاقة بين الرئيس الفرنسي ورئيسة السلطة التنفيذية بعد التوبيخ، وصولاً إلى حدّ القول إن الرئيس "ينظّف قدميه" عليها، وقال النائب عن تحالف "نوبس" (اليسار الفرنسي)، ألكسيس كوربيير، في حديث تلفزيوني قبل أيام، إن "ماكرون جبان، وديكتاتوري، ويجب الاعتراف بأنه إذا كانت البلاد تعمل بالمقلوب، فالذنب ليس ذنبها". وأضاف عن ماكرون: "كل مرّة يريد إيصال رسالة، يوصلها بطريقة يقول فيها إن بورن غير كفوءة، لكن الحقيقة هي أن مشكلتنا معه، مع الجمهورية الخامسة، مع هذه الرئاسوية التي تحتقر الحكومة، وتريد أن تعمل من بورن شخصية ثانوية". لكنه أكد أن بورن هي نفسها "مدانة"، مضيفاً أنه "يجب ألا نذهب إلى البرلمان لنقول 49.3 (في إشارة إلى بند الدستور الفرنسي الذي منح ماكرون صلاحية تمرير قانون التقاعد بقوة الاستثناء من دون تصويت البرلمان)، فقط لأن الرئيس قرّر ذلك قبل ساعة".
ينقسم اليمين التقليدي الفرنسي بين داعم لرئاسة ماكرون ومعارض لها
وبحسب "أوروبا 1"، فإن الكثيرين في أوساط الأكثرية الحاكمة، يعتقدون أن نهاية حكومة بورن أصبحت قريبة، وأنها ليست المرة الأولى التي يهين فيها ماكرون رئيسة حكومته، لكن الضربة كانت هذه المرة قوية، وفي وقت لا تزال فيه حكومة بورن "هشّة" بعد تمرير قانون إصلاح نظام التقاعد.
وصفّق اليمين المتطرف الفرنسي، في العلن والسرّ، لتحجيم ماكرون رئيسة حكومته بسبب تصريح "التجمع الوطني وبيتان"، علماً أن ماكرون نفسه كان وصف بيتان في عام 2018، بـ"الجندي العظيم خلال الحرب العالمية الأولى والذي اعتمد خيارات قاتلة في الحرب العالمية الثانية".
ويرى مراقبون على نطاق واسع، أن ماكرون استغل تصريح بورن، لمحاولة مغازلة جمهور "التجمع الوطني" الذي يشكل كتلة وازنة في البرلمان، في ظلّ عدم تمكن ماكرون من تحصيل أغلبية مريحة إثر الانتخابات التشريعية العام الماضي. ويعتبر هؤلاء أن توبيخ ماكرون لبورن، جاء مقصوداً بشدّة، لإفهامها أن الوقت ليس وقت فتح معارك جانبية مجانية مع حزب قد تكون العائلة السياسية لماكرون بحاجة له في البرلمان.
ويأتي ذلك في ظلّ تعثر أي حوار بين ماكرون واليسار الفرنسي، وخصوصاً حزب "فرنسا الأبية" اليساري الراديكالي، برئاسة جان لوك ميلانشون، وفي ظلّ انقسام اليمين التقليدي (حزب الجمهوريين)، بين داعم للرئاسة ومعارض لها، علماً أن هذا الحزب منشغل في الفترة الراهنة بإعادة ترتيب نفسه وسط تراكم التراجع الشعبي، والمشاكل في داخله، لاسيما مع القضايا القانونية التي تلاحق "ملهمه" الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هوس ماكرون بفكرة توحيد الفرنسيين حوله، دفعه للتعبير عن نفسه أمام بورن، علماً أنه لم يكشف عن مقاربة واضحة لكيفية التعامل مع حزب "التجمع الوطني"، ولم يفعل سوى تقديم ورقة مجانية لهذا الحزب لاستغلالها.
وفي كل الأحوال، تعيش الحكومة الفرنسية كما يبدو أياماً صعبة، من دون أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، أو أن يرفع عنها ماكرون آلة التنفس، خصوصاً مع قرب مغادرة مدير مكتب بورن، أوريليان روسو، منصبه، في بداية يوليو/تموز المقبل. ويعدّ روسو "العقل اليساري" لبورن، وكان أكد أنه سيغادر قصر ماتينيون (مقر الحكومة) بعد انتهاء أزمة قانون التقاعد.