"مصر ستظلّ على موقفها الداعم للحقّ الفلسطيني المشروع في أرضه، ونضال الشعب الفلسطيني"، "إذا كانت هناك فكرة للتهجير، توجد صحراء النقب في إسرائيل، يمكن تهجير الفلسطينيين إليها حتّى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة الفلسطينية، أو الجماعات المسلّحة، مثل حماس والجهاد، ثم تعيدهم إذا شاءت".
تبدو العبارتان لموقفين مختلفين حدّ التناقض، أحدهما يدعم الحقّ الفلسطيني، والنضال الفلسطيني، والآخر لا يمانع في تهجير الفلسطينيين وتصفية المقاومة. الحقيقة أنّهما ليسا موقفين، فالعبارتان قالهما الرجل نفسه، وفي الوقت نفسه تقريبًا، تفصل بينهما دقائق فقط. والرجل هو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتصريحان أعلاه كانا في سياق مؤتمره الصحفي في القاهرة في 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع المستشار الألماني أولاف شولتز.
التناقض الذي ظهر في خطاب الرئيس المصري خلال المؤتمر الصحفي كان طابعًا عامًا للموقف المصري الرسمي من العدوان الصهيوني على غزّة. فعلى الصعيد الرسمي رفضت مصر العدوان الإسرائيلي بشدةٍ، وطالبت بوقف القصف، وأدانت قصف المستشفيات والمنازل وقتل المدنيين، وبذلت مصر جهودًا دبلوماسيةً حثيثةً مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية لوقف العدوان، كما ظهر الدور المصري واضحًا في الوساطة بغرض التوصّل لاتّفاقات هدنةٍ إنسانيةٍ.
لكن على أرض الواقع؛ لم يترجم الموقف الرسمي بنفس الحسم، فمصر التي تمثّل المنفذ الوحيد؛ غير الخاضع لإسرائيل، لغزّة على العالم، عبر معبر رفح، لم تستقبل من عشرات الآلاف من مصابي القصف الصهيوني على غزّة سوى بضع مئاتٍ، إذ بلغ إجمالي المصابين الذين استقبلتهم عبر معبر رفح من أجل تلقّي العلاج في مصر حتّى مطلع ديسمبر/كانون الأول 400 مصابٍ فقط. ذلك في الوقت الذي شهد فيه قطاع غزّة انهيارًا شبه كاملٍ للقطاع الطبي، جعل أعدادًا ضخمةً من المصابين عرضةً للوفاة، نتيجة غياب أيّ مستوى من الرعاية الصحية، أو الإسعافات.
الاحتجاجات والتحركات السياسية تعود إلى الشارع المصري، من باب التضامن مع غزّة، حاملةً معها انتقاداتٍ كثيرةً للموقف المصري الرسمي
الأمر نفسه في ما يتعلق بمواد الإغاثة، فالمعبر الذي أصبح النافذة الوحيدة لعبور أيّ مواد إغاثةٍ وتموينيةٍ وطبيةٍ وغيرهم، قد شهد إغلاقًا في الفترة الأولى من العدوان، وعزت السلطات المصرية ذلك إلى التعنت الإسرائيلي، وقصف إسرائيل للجانب الفلسطيني من المعبر، وتهديدها بقصف الشاحنات التي تمر إلى الجانب الفلسطيني، وفي مرحلةٍ لاحقةٍ؛ وبعد ضغوطٍ ومناشداتٍ دوليةٍ أعيد فتح المعبر لمرور المساعدات، لكن ما يمر عمليًا لا يتجاوز 10% من احتياجات القطاع في الأوقات العادية، فضلاً عن الاحتياجات التي تولدت عن القصف الوحشي والحصار.
على مستوى العلاقات الدبلوماسية؛ لم تتخذ الحكومة المصرية أيّ خطوةٍ احتجاجيةٍ، ليس على مستوى العلاقات، ولكن حتّى على مستوى استدعاء سفير تل أبيب في القاهرة، للتعبير عن الاحتجاج، أو أيّ خطوةٍ أخرى، في ما اتخذت دولٌ أخرى خطواتٍ أكثر راديكالية على المستوى الدبلوماسي تجاه إسرائيل.
الدعم الذي تلقته غزّة من خلال معبر رفح كان محدودًا للغاية، قياسًا بما يعانيه القطاع، وهو ما جلب للسلطات المصرية انتقاداتٍ واسعة النطاق، على الصعيد الشعبي خاصّةً، رغم تبريرها ذلك بتعنت السلطات الإسرائيلية، وتهديدها للمعبر من الجانب الفلسطيني، ولكن من الصعب تبرير سياسة السلطات المصرية تجاه حركة التضامن الشعبية مع غزّة.
رغم تلويح السيسي في حديثه الرسمي بالغضب الشعبي الذي قد تشهده مصر لرفض سيناريو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، ما اعتبر مرونةً سلطويةً محتملةً في التعامل مع الاحتجاجات التضامنية مع فلسطين، إلّا أن الاحتجاجات لم تجد تلك المرونة على أرض الواقع، فقد قمعت قوّات الأمن الاحتجاجات الشعبية، التي انطلقت من جامع الأزهر عقب صلاة الجمعة 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومن غيره من المساجد، وقبضت على عشرات المحتجين. كما امتنعت السلطات المصرية عن التصريح لقوافل التضامن والاغاثة التي سعت نقاباتٌ وأحزابٌ لتنظيمها، للتوجّه إلى معبر رفح.
هذه التناقضات الظاهرية في الموقف المصري تجاه الوضع المتفجّر؛ تعكس في حقيقتها العوامل المؤثرة في الموقف المصري الرسمي من الانفجار الحالي، أو من مجمل الصراع العربي الصهيوني.
العامل الأول؛ الموجّه للسياسة المصرية وموقفها من الصراع العربي الصهيوني، وبالتالي موقفها من العدوان الإسرائيلي الحالي على فلسطين، هو التحوّل الذي شهدته السياسة المصرية منذ إبرام اتّفاقية كامب ديفيد عام 1978 مع إسرائيل تحت الرعاية الأميركية. إذ لم تكن اتّفاقية كامب ديفيد مجرد معاهدة سلامٍ بين طرفين متحاربين، بل كانت في واقع الأمر تدشينًا لمرحلةٍ جديدةٍ في السياسة المصرية الخارجية والداخلية. انتقلت مصر بعد المعاهدة من أحد مراكز التحرر الوطني، ومقاومة السياسات الاستعمارية في العالم الثالث، إلى أحدّ أعضاء الحلف الأميركي، التي كانت تقود بالفعل السياسة الاستعمارية في العالم. لم تكن كامب ديفيد مجرد وثيقة اتّفاق، بل ترتب عليها شبكةٌ من المصالح الاقتصادية والسياسية، ارتبطت بها المواقف والقرارات المصرية لعشرات السنين. بموجب الاتّفاقية أصبحت مصر ثاني متلقٍ للمساعدات الأميركية في العالم بعد إسرائيل، إذ تتلقى مصر حوالي 1.3 مليار دولار سنويًا كمساعداتٍ، القسم الأكبر منها مساعداتٌ عسكريةٌ.
تحوّلت مصر مع الاتّفاقية من التحالف مع الاتّحاد السوفيتي، وكتلة عدم الانحياز، إلى التحالف مع أميركا، وصاحب هذا التحوّل في السياسة الخارجية تحوّلٌ أعمق في السياسة الداخلية، من محاولات الاستقلال الاقتصادي، عبر سياسة تصنيعٍ واقتصادٍ مخططٍ، إلى الاندماج في السوق العالمي، والاعتماد على الدعم الأميركي، ودعم مؤسسات التمويل الدولية، التي تتمتع أميركا فيها بنفوذٍ واسعٍ، والسعي إلى جذب الاستثمارات العالمية إلى السوق المصرية. انتقلت السياسة المصرية خارجيًا وداخليًا إلى مرحلةٍ من البراغماتية، تتناقض كلّيًا مع المواقف المبدئية التي اتخذتها في المرحلة السابقة من السياسات الاستعمارية، وهو ما بنت عليه لاحقًا مجمل مواقفها من الصراع العربي الصهيوني، وجملة السياسة الأميركية في المنطقة.
لكن اتّفاقية كامب ديفيد، وما ترتب عليها ليست العامل الوحيد الموجّه للسياسة المصرية، فهناك عواملٌ أخرى مؤثرة في الموقف المصري، أهمّها الموقف الشعبي، الذي لم يتحوّل مثل الموقف المصري، فشعبيًا ما زالت إسرائيل هي العدو، وما زالت كلّ هزيمةٍ تلحق بإسرائيل تُعَد انتصارًا للشعب المصري، وهو ما لا يستطيع الموقف الرسمي تفاديه كلّيًا.
التناقض بين الموقف الرسمي؛ الذي أصبح كامب ديفيد وشبكة مصالحها مرجعيته، والموقف الشعبي الذي لا يعرف عدوًا سوى إسرائيل، يظهر دائمًا مع كلّ تصعيدٍ في الصراع العربي الصهيوني. لكن أضيف إلى هذا التناقض في الموقف في الحرب الأخيرة؛ التي تشنها إسرائيل على غزّة، المزيد من العوامل، التي جعلت الموقف المصري الرسمي أكثر تعقيدًا.
التناقض الذي ظهر في خطاب الرئيس المصري خلال المؤتمر الصحفي كان طابعًا عامًا للموقف المصري الرسمي من العدوان الصهيوني على غزّة
يحمل العدوان الإسرائيلي على غزّة هذه المرّة في طياته سيناريو تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المصرية، وهو سيناريو يمثل؛ رغم دعمه أميركيًا، للنظام في مصر، خطًا أحمر، فنقل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى داخل الحدود المصرية أمرٌ لن يقبل به النظام في مصر، تحت أيّ إغراءاتٍ أو ضغوطٍ. الحقيقة أنّ رفض النظام المصري القاطع للتورط في الحرب على اليمن، إلى جانب السعودية والإمارات، يشير بوضوحٍ إلى حذر النظام المصري من التورط في حربٍ خارج حدوده، مهما كانت أهمّية التحالف مع الإمارات والسعودية للنظام في ذلك الوقت، وبديهي أنّ النظام سيكون أكثر حذرًا في التورط في صراعٍ داخل حدوده.
العامل الآخر الذي عقد الموقف المصري الحالي، هو التأثير المباشر والسريع لتفجّر الحرب على مصر، فبمجرد بدء العدوان الإسرائيلي تراجعت صادرات الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى مصر، وهو ما أدّى إلى نقصٍ كبيرٍ في الطاقة، كانت نتيجته وقف إمدادات الغاز للمصانع، وتقنين الكهرباء المنزلية، وعلى الرغم من عودة إمدادات الغاز الإسرائيلي لمصر إلى ما كانت عليه قبل العدوان، إلّا أنّ آثار الأزمة لم تنتهِ، فهجمات الحوثيين على السفن المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر تؤدي إلى تأثيرٍ موازٍ على مصر، أهمّهما تأثر قناة السويس، وتراجع السفن التي تعبرها، نتيجة توجّه السفن إلى طرقٍ بديلةٍ. وثانيها ارتفاع أسعار البترول عالميًا، نتيجة تهديد طرق التجارة، وارتفاع تكلفة النقل، وهو ما يعني تحمّل الموازنة المصرية أعباءً جديدةً، نتيجة ارتفاع تكلفة استيراد البترول.
العامل الآخر الذي أضاف تعقيداتٍ للموقف المصري هو العامل الشعبي، انحاز الموقف الشعبي المصري دائمًا إلى فلسطين، بل دائمًا ما اعتبر الحس العامّ المصري أنّ مصر جزءٌ من هذا الصراع، رغم توقف الحرب المباشرة بين مصر وإسرائيل. لكن في الصعود الحالي للصراع، وطرح سيناريو التهجير علانيةً، ومستوى الجرائم الصهيونية ضدّ غزّة، وأيضًا مستوى تطوّر المقاومة الفلسطينية، كان المزاج الشعبي في مصر أكثر غضبًا، وربّما حادث إطلاق الرصاص من أحد أفراد الشرطة المصرية على سياحٍ إسرائيليين، وقتل اثنين منهم، يدل على مستوى الغضب الذي يتفاعل في مصر.
لكن يأتي هذا الغضب بعد سنواتٍ من نجاح السلطة المصرية في السيطرة على الشارع السياسي، ومصادرة مظاهر العمل العامّ في الشارع كافّةً، فإذ بالاحتجاجات والتحركات السياسية تعود إلى الشارع المصري، من باب التضامن مع غزّة، حاملةً معها انتقاداتٍ كثيرةً للموقف المصري الرسمي، ما يهدر جهد النظام المصري، الذي بذله لسنواتٍ، لفرض الصمت على الشارع السياسي.
ببساطةٍ؛ يصعب فهم الموقف المصري من العدوان الصهيوني على غزّة اليوم، فالتحالفات المصرية التي استقرت لأكثر من أربعين عامًا مع أميركا وإسرائيل، قد تجعل الموقف الرسمي سهل التوقع، ولكن الكثير من التفاصيل في اللحظة الحالية تجعل الموقف المصري أكثر تعقيدًا من ذي قبل، فالأحداث الجارية تحمل في طياتها سيناريو التهجير، الذي يمثل كابوسًا للنظام المصري، ويضيف أعباءً جديدةً على الاقتصاد المصري، المثقل بالفعل، ويدفع الرياح في أشرعة السياسة في الشارع المصري، بعد أن استراح النظام منها لسنواتٍ.
يتحرك الموقف المصري بين تناقضاتٍ كثيرةٍ، وبأدواتٍ محدودةٍ، لتعكس تلك التناقضات نفسها في الخطاب الرسمي، بين رفض العدوان، وإدانة قصف المستشفيات، والتلويح بغضبٍ شعبيٍ، وبين قبولٍ ضمنيٍ بتصفية المقاومة، واعتقال المتضامنين مع غزّة.