للمرة العاشرة منذ عام 1980، احتاج الموظفون الأميركيون الانتظار حتى الدقيقة الأخيرة لمعرفة ما إذا كان أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس سيتفقان على خطة تمويل الحكومة الأميركية للسنة المالية الفيدرالية 2024 أم سيواجهون إغلاقاً مؤقتاً. وإذا كانت تسوية اللحظة الأخيرة بين الحزبين قد قادت إلى الاتفاق على تمويل الحكومة لمدة 45 يوماً، ينتهي أجلها في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، فإن المعركة ستتجدد، لكن هذه المرة ستكون في خضم الحملات الانتخابية الرئاسية 2024، ما يجعل حسابات أعضاء الكونغرس والمرشحين الرئاسيين أكثر تعقيداً أخذاً بعين الاعتبار موقف الناخبين من أي إغلاق واتجاهاتهم المحتملة لمعاقبة المسؤول عنه.
المتشددون الجمهوريون يهدّدون مكارثي
وتمكنت الولايات المتحدة، نهاية الأسبوع الماضي، من تجنب الإغلاق. واحتاج ذلك إلى أن يسير النواب الجمهوريون المعتدلون، ورئيس مجلس النواب الأميركي، الجمهوري كيفن مكارثي، مع الديمقراطيين، ومواجهة تهديدات المتشددين داخل الحزب المحافظ، وتحديداً من "تكتل الحرية" في مجلس النواب، وهو عبارة عن مجموعة تضم عدداً قليلاً من المشرعين الجمهوريين المتشددين، دفعت بالبلاد إلى شفير إغلاق مؤسسات فيدرالية برفضها إتاحة تمويل فيدرالي إضافي من دون إقرار اقتطاعات في الإنفاق.
وكان مكارثي قد أكد، يوم السبت الماضي، أنه سيحاول دفع مشروع قانون التمويل قصير الأجل عبر مجلس النواب بمساعدة الديمقراطيين، وهي خطوة تبقي الحكومة مفتوحة، لكنها تعرّض منصبه للخطر.
تظهر حسابات بايدن في ملف منع إغلاق الحكومة، وكأنه انتصار سياسي على الجمهوريين المتطرفين
وبعد تمرير الاتفاق، هدّد النائب الجمهوري عن ولاية فلوريدا مات غايتز مكارثي بإقالته من منصبه، بسبب الصفقة التي أبرمها الأخير مع الديمقراطيين. وغايتز من "تكتل الحرية" المتشدد، وقال في تصريح لشبكة "سي أن أن"، أول من أمس الأحد: "أعتزم التقدم باقتراح لإطاحة رئيس المجلس مكارثي"، مضيفاً "أعتقد أنه يتعيّن عليه نزع الضمادة"، في إشارة إلى وقف مكارثي احتواء التأزم المرتبط بالميزانية والإغلاق.
وفي تصريحه، رأى غايتز أنه "علينا أن نمضي قدماً مع قيادة جديدة يمكن أن تكون محل ثقة"، لكنه أوضح أن تمكّن "تكتل الحرية" من إطاحة رئيس المجلس أمر غير محسوم، خصوصاً بعد انفتاح مكارثي على الديمقراطيين للمصادقة على مشروع قانون التمويل الذي يحظى بدعم الحزبين. وأضاف النائب الجمهوري المتشدد أن "السبيل الوحيد لبقاء مكارثي رئيساً لمجلس النواب في نهاية الأسبوع المقبل يكمن في أن ينقذه الديمقراطيون"، متوقعاً أن يفعلوا ذلك.
من جهته، أكد مكارثي، الأحد، عبر برنامج "فيس ذا نيشن" على قناة "سي بي أس"، أنه "سيبقى على قيد الحياة"، في مواجهة تهديدات المتشددين. وشدّد رئيس مجلس النواب الأميركي على أنه إذا كان غايتز "مستاء لأنه حاول دفعنا إلى إغلاق حكومي حرصت على عدم حصوله، فدعونا نخوض تلك المعركة".
لكن الرئيس الأميركي جو بايدن، والديمقراطيين، لم يخفوا غضبهم. وفي تصريح له من البيت الأبيض، قال بايدن، الأحد، إنه "سئم وتعب" من سياسة "حافة الهاوية"، في دلالة على أن انتظار عملية التصويت على تمويل الحكومة كان مقامرة سياسية، مطالباً الجمهوريين بـ"وقف الألاعيب".
وكان الرئيس الأميركي قد أكد في بيان نشر على صفحة البيت الأبيض السبت الماضي أن منع إغلاق الحكومة "من شأنه أن يضمن استمرار القوات العاملة في الخدمة في الحصول على رواتبها، وسوف يتجنب المسافرون التأخير في المطارات، وسيستمر الملايين من النساء والأطفال في الحصول على المساعدة الغذائية الحيوية، وأكثر من ذلك بكثير، وهذه أخبار جيدة للشعب الأميركي". وبدا أن بايدن يوظف الاتفاق وقانون التمويل مخاطباً أولويات الشعب الأميركي، وذلك في سياق حملته الانتخابية الرئاسية لولاية ثانية.
وتظهر حسابات بايدن في ملف منع إغلاق الحكومة، وكأنه انتصار سياسي على الجمهوريين المتطرفين. وقال في بيانه، السبت: "وصلت أنا ورئيس مجلس النواب إلى اتفاق بشأن الميزانية لتجنب هذا النوع من الأزمات المصطنعة على وجه التحديد. وعلى مدى أسابيع، حاول الجمهوريون المتطرفون في مجلس النواب الانسحاب من هذه الصفقة من خلال المطالبة بتخفيضات جذرية كان من شأنها أن تكون مدمرة لملايين الأميركيين، فشلوا". ويقصد الرئيس الأميركي بالتخفيضات، تلك البنود السياسية التي يطالب بها الجمهوريون والمتعلقة بالهجرة وتخفيض الإنفاق على المهاجرين، والمرتبطة بحسابات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحملته الانتخابية الموسومة بـ"ماغا" (جعل أميركا عظيمة مجدداً).
ولكن في مؤشر يدل على رفض محتمل ليساريين ديمقراطيين لبقاء مكارثي في منصبه، قالت النائبة التقدمية ألكسندريا أوكاسيو - كورتيز لـ"سي أن أن" إنها ستصوّت "بالتأكيد" لصالح إطاحة رئيس المجلس، مشيرة إلى أنه "ليس على الديمقراطيين إنقاذ الجمهوريين من أنفسهم".
قيام الجمهوريين بإغلاق الحكومة في 2013، في مسعى لوقف تمويل برنامج "أوباماكير"، جعلهم يخسرون جولة الانتخابات
وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد كشفت في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي الطريقة التي صوّت فيها مجلس الشيوخ على المشروع، وأشارت إلى أن 88 صوتاً من الجمهوريين والديمقراطيين وافقت على مشروع القانون، في حين اعترضت عليه تسعة أصوات جمهورية فقط. كما بيّنت وكالة "سي بي إس"، الأحد، أن مجلس النواب أقر مشروع القانون بأغلبية 335 صوتاً مقابل معارضة 91 صوتاً، منهم 90 صوتاً جمهورياً وصوت واحد ديمقراطي اعترض على استثناء دعم أوكرانيا من خطة التمويل. وحالياً، هناك 212 نائباً ديمقراطياً في البرلمان الأميركي، و221 نائباً جمهورياً.
وبرز الموقف الحزبي من دعم أوكرانيا كأحد العقبات أمام مشروع القانون. وقال الرئيس الأميركي، أول من أمس، إنه "لا يمكننا تحت أي ظرف من الظروف أن نسمح بانقطاع الدعم الأميركي لأوكرانيا". من جهتها، وفي مقابلة لها مع قناة "إن بي سي نيوز"، يوم الجمعة الماضي، قالت النائبة الجمهورية عن ولاية فرجينيا جين كيغانز إن "أميركا تدعم أوكرانيا، لكن هذا الدعم ليس شيكاً مفتوحاً، بل يجب أن تكون هناك مسؤولية". وأضافت أن "الأولوية لنا كجمهوريين هي عدم إغلاق الحكومة". ودعمت هذه النائبة مشروع عدم إغلاق الحكومة، لإدراكها أن الموظفين الفيدراليين والجيش الأميركي هم أكثر المتضررين من الإغلاق.
تأثير الإغلاق على الانتخابات
ما بين حسابات الرئيس الأميركي الذي ترشح لولاية ثانية، وسلفه دونالد ترامب الذي أعلن ترشيحه أيضاً، حيث من المرجح أن يتنافس الرجلان مجدداً في انتخابات الرئاسة المقررة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، ومجمل الحملات الانتخابية لاختيار أعضاء الكونغرس، ثمة تأثير واضح لمسألة الإغلاق على قرارات الناخب الأميركي.
وذكرت "إن بي سي نيوز" في 29 سبتمبر الماضي، أن قيام الجمهوريين بإغلاق الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، في مسعى لوقف تمويل برنامج "أوباماكير" (برنامج الرعاية الصحية، وهو الأبرز في أجندة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما)، جعلهم يخسرون جولة الانتخابات لمرشحهم لمنصب حاكم ولاية فرجينيا كين كوتشينيللي، بأقل من ثلاث نقاط عن المرشح الديمقراطي تيري ماكوليف. في ذلك الوقت، عبر كوتشينيللي عن أسفه لأن الإغلاق "كلّفهم أكثر من أي شيء آخر"، أي كلفه خسارة الانتخابات.
وستبقى قضية إغلاق الحكومة للسنة المالية الفيدرالية 2024 قائمة حتى حلول 17 نوفمبر المقبل.
وألقى المرشحون الرئاسيون الجمهوريون خلال مناظرتهم الثانية، التي أجريت يوم الأربعاء الماضي، باللوم على الرئيس جو بايدن بالنسبة لإغلاق الحكومة الذي ما زال يلوح في الأفق. وأشاروا، بحسب موقع "يو أس إي توداي"، يوم الجمعة الماضي، بإصبع الاتهام أيضاً إلى ترامب. وتساءل المرشح الرئاسي، حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، خلال المناظرة: "أين جو بايدن؟ إنه مفقود تماماً من القيادة". وأضاف: "وهل تعلمون من هو الآخر المفقود في العمليات؟ دونالد ترامب". وبحسب الموقع، يشجع الرئيس الأميركي السابق حفنة من الجمهوريين في مجلس النواب على التمسك بموقفهم على دعم إغلاق الحكومة.
ويأتي موقف ترامب تعبيراً عن شعاره "جعل أميركا عظيمة مجدداً"، إذ نشر على منصته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشال" في 25 سبتمبر الماضي: "لقد خسر الجمهوريون خسارة كبيرة في ما يتعلق بسقف الديون، ولم يحصلوا على شيء، والآن يشعرون بالقلق من أن يتم إلقاء اللوم عليهم في إغلاق الميزانية. خطأ!". وحاول ترامب تحريض الجمهوريين المتطرفين، إذ قال: "ما لم تحصلوا على كل شيء، أغلقوها (أي يقصد الحكومة). أغلقوا الحدود، وأوقفوا التدخل في الانتخابات". وبهذا، فإنه كان واضحاً بشأن إغلاق الحكومة، ويشجع الجمهوريين للمطالبة بتخفيض النفقات العامة على المهاجرين.
لكن موقع مجلة "تايم" نقل في 26 سبتمبر الماضي، تحذيرات لمنظمي استطلاعات الرأي من أن الوضع الانتخابي للحزب الجمهوري شبيه بما كان عليه قبل إغلاق عام 2013، حيث بلغت نسبة تأييد الجمهوريين آنذاك 38 في المائة، وعندما بدأ الإغلاق انخفضت شعبيتهم بمقدار 10 نقاط كاملة، لتهبط إلى 28 في المائة.
وأكدت شبكة "سي أن أن"، الأحد الماضي، أن نواباً مثل مايك لولر، ومارك مولينارو، ونيك لالوتا، وكلهم جمهوريون، حذروا من الارتداد السياسي الناجم عن الإغلاق. ويوم الجمعة الماضي، قال عضو مجلس النواب عن ولاية ميتشيغن، الديمقراطي دان كيلدي: "أعلم أن معظم الناخبين لا يريدون إغلاق الحكومة". وحذّر النائب الديمقراطي عن ولاية فيرجينيا جيري كونولي من أنه "سيكون للإغلاق تأثير مادي، ويمكن أن يساعد الديمقراطيين على قلب الأغلبية الضيّقة للحزب الجمهوري في مجلس النواب"، في إشارة إلى أن الناخب الأميركي يُمكن أن يحاسب على فقدان وظيفته أو تأمنيه الصحي أو تعليم أولاده.
وأوضحت "أن بي سي نيوز"، يوم الجمعة الماضي، أن ولاية فرجينيا هي من أكثر الولايات الأميركية التي تتأثر في حال حدوث إغلاق للحكومة، بسب وجود عدد كبير من الموظفين الفيدراليين وعناصر الجيش فيها. وتعتبر فرجينيا من الولايات المهمة للحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهي تصنّف بأنها ولاية أرجوانية، بحسب ستيفن فارنسورث، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مري واشنطن، أي تتساوى فيها أعداد مؤيدي الحزبين. ورأى موقع "تايم"، الأربعاء الماضي، أن "الناخبين اليوم ربما يلومون الجمهوريين عن حق في الإغلاق الوشيك الذي يبدو غبياً بقدر ما هو لا مفر منه؛ لكن الذكريات قصيرة في السياسة، والغضب الجديد دائماً قاب قوسين أو أدنى".
وتوضح لجنة الميزانية الفيدرالية المسؤولة، وهي منظمة غير حزبية وغير ربحية ملتزمة بتثقيف الجمهور حول القضايا ذات التأثير الكبير على السياسة المالية، أن الموافقة على السنة المالية الجديدة تحتاج إلى إجماع على 12 قانوناً. وأمام الكونغرس عادة 3 ثلاثة خيارات: إما أن لا يصوت لصالح السنة المالية الفيدرالية ويعارض كل القوانين، وبالتالي تُغلق الحكومة بشكل كامل، وينقطع التمويل عن كثير من نشاطاتها. وإما أن تغلق بشكل جزئي في ظل توقيع الكونغرس على قوانين محددة من مختلف اثني عشر قانوناً. وأخيراً، يمكن أن يُصوت الكونغرس بالموافقة الشاملة، وبالتالي تستمر الحكومة ووكالاتها في تلقي تمويلها السنوي الفيدرالي.
وتحتاج الحكومة تمويلاً فيدرالياً سنوياً من أجل ضمان القدرة على نوعين من الإنفاق العام: الإلزامي أولاً (مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية)، والتقديري ثانياً (مثل حرس الحدود والجيش). وحسب تقرير الهيئة التشريعية لولاية فيرمونت في 29 سبتمبر المنصرم، فإن الإغلاق يضر بشكل كبير بالبرامج التقديرية، في حين يمكن للولايات أن تستمر بتمويل برامج الإنفاق الإلزامي إلى حد ما. ولهذا فإن عدداً كبيراً من موظفي البرامج التقديرية، مثل أفراد الجيش، لن يتلقوا أجورهم إذا أعلن الإغلاق على الحكومة.
ووفق الهيئة التشريعية لولاية فيرمونت، فثمة 14 حالة إغلاق تاريخية للحكومة الفيدرالية منذ عام 1980. والإغلاق الأخير كان في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018 واستمر لمدة 34 يوماً. وكان إغلاقاً جزئياً، على خمسة قوانين من الاثني عشر، لكنه وفق الهيئة كان الأطول في تاريخ الولايات المتحدة.