يعيش المشهد الليبي هذه الأيام حالة من الحراك المستمر تدفع باتجاه توضيح شكل المرحلة المقبلة، خصوصاً محطة إجراء الانتخابات، في الوقت الذي تسعى فيه أطراف دولية لضبط إيقاع المشهد في خضم التحولات والتغيرات الإقليمية والدولية.
وعلى الرغم من الإعلان الرسمي للاتفاق على وثيقة دستورية بين رئيسي مجلسي النواب والدولة، عقيلة صالح وخالد المشري، لإجراء الانتخابات، إلا أنّ ثمة مساراً آخر تجري بشأنه اتصالات غير معلنة بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، وقائد مليشيات شرق البلاد، خليفة حفتر، لتقاسم السلطة والانقلاب على المسار الدستوري، ما قد يبعثر الجهود الدولية التي تقودها الأمم المتحدة، والرامية لتوجيه المشهد نحو مرحلة إجراء الانتخابات.
ولا يبدو أن الزيارة المفاجئة التي أجراها مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وليام بيرنز، الخميس الماضي، لليبيا والتقى خلالها الدبيبة وحفتر بمعزل عما يدور في الكواليس الليبية.
وعلى الرغم من عدم إعلان الجانب الأميركي للزيارة، وصمت حفتر، إلا أن المكتب الإعلامي للدبيبة أوضح أن اللقاء ناقش "تطوير التعاون الاقتصادي والأمني بين البلدين".
وفي مقابل السرية والتكتم الذي أحيطت بهما الزيارة الأميركية، أفادت مصادر ليبية متطابقة لـ"العربي الجديد"، "بوجود تغيرات في مسار ما يجري في الكواليس الليبية بشأن المرحلة المقبلة، قد تكون انعكاساً للزيارة"، مشيرة إلى أن تلك التغيرات "على علاقة بملف الانتخابات والنفط تحديداً".
قبول دور للمجلس الرئاسي في الانتخابات
وفي ملف الانتخابات توافقت معلومات المصادر على قبول قادة مجلسي النواب والدولة لدور للمجلس الرئاسي في مرحلة الإعداد للانتخابات، كاشفة عن لقاء قريب سيجمع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، برئاسة مجلسي النواب والدولة عقيلة صالح، وخالد المشري، لإعلان خريطة طريق يشرف على تنفيذها المجلس الرئاسي، فيما يصدّق عليها المجلسان بعد التصديق على الوثيقة الدستورية.
وكان المنفي قد أعلن، نهاية الشهر الماضي، مبادرةً تقضي باجتماع المجالس الثلاثة (المجلس الرئاسي، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة)، في مدينة غدامس الليبية، بهدف إزالة العراقيل التي تعترض المسار الدستوري لإجراء الانتخابات، إلا أن مجلس الدولة رفض المبادرة، فيما أهملها مجلس النواب. وفي معرض رده، اعتبر المجلس الأعلى للدولة المجلس الرئاسي "غير ذي صفة، للتدخل في المسار الدستوري".
ويبدو أن دعماً أممياً ودولياً يقف وراء تحرك المجلس الرئاسي أخيراً وبشكل كثيف، ليكون طرفاً ثالثاً، بالإضافة إلى مجلسي النواب والدولة في مرحلة الإعداد للانتخابات، ويهدف هذا التحرك لوقف تغول المجلسين في المسار الدستوري، وكبح عراقيلهما التي تظهر في هذا المسار كل مرة.
ومع أن معالم خريطة الطريق المرتقبة لم تتضح، إلا أن جميع المصادر أكدت أن زمن إجراء الانتخابات "لن يتجاوز العام الحالي". وفي ذات الوقت، كشف دبلوماسي سابق مقرب من الحكومة في طرابلس عن "تعثر مفاجئ" واجه مواصلة الاتصالات الجارية بين ممثلين للدبيبة وحفتر.
وقال في هذا السياق، مشترطاً عدم ذكر اسمه: "آخر تلك الاتصالات لقاء جمع بشكل غير معلن عدداً من قادة المجموعات المسلحة التابعين للطرفين في العاصمة الأردنية الأسبوع الماضي، وتقرر أن تتجدد في العاصمة التونسية قبل إلغائه بشكل مفاجئ".
ولفت الدبلوماسي لـ"العربي الجديد"، إلى أن الاتصالات بين الرجلين "كانت تجري منذ فترة برعاية إماراتية"، وكان أحد مظاهرها "تعيين الدبيبة، فرحات بن قدارة، الرجل المقرب من حفتر رئيساً للمؤسسة الوطنية للنفط".
وأشار إلى أن الاتصالات لاقت رفضاً من جانب أطراف إقليمية بسبب التقارب الكبير في سياسات الإمارات مع السياسات التركية في الملف الليبي، خصوصاً أن تعيين بن قدارة أعقبه توقيع الدبيبة اتفاقاً مع الجانب التركي، تحصل تركيا بموجبه على حق التنقيب عن النفط والغاز في الأحواض البحرية الليبية.
وفي سياق الحديث عن جديد الكواليس في طرابلس بشأن ملف الانتخابات، قال مصدر آخر مقرب من الحكومة في طرابلس إن "الدبيبة بدا مستاءً في الآونة الأخيرة من الانخراط الكبير للمجلس الرئاسي في جهود وقيادة مرحلة الانتخابات، بعد أن كان يعتقد أن المجلس الرئاسي لن تبتعد مواقفه عن مواقف الحكومة لكونهما طرفي السلطة التنفيذية ويشتركان في ذات المصير".
لكنه في ذات الوقت أشار إلى أن الدبيبة "لم يفقد كل أوراقه"، ولا يزال يحاول استثمار علاقته بعواصم كبرى، ولا سيما واشنطن التي لا يزال يبحث معها تسليم المزيد من قادة نظام العقيد الراحل معمر القذافي، ممن لهم صلة بملف لوكربي.
وتبدو تلك الاتصالات التي تهدف إلى الانقلاب على المسار الدستوري وتقاسم الدبيبة وحفتر للسلطة، تتجه إلى طريق العرقلة أمام دعم واشنطن لمسار إجراء الانتخابات في ليبيا بشكل سريع، فبعد إعلان صالح والمشري اتفاقهما على وثيقة دستورية للانتخابات، أكد السفير الأميركي، ريتشارد نورلاند، أن إعلان الوثيقة "لا يترك أي سبب لتأجيل وضع تاريخ مبكر لانتخابات برلمانية ورئاسية".
ورجح الدبلوماسي الليبي أن يكون توقف مسار الاتصالات بين الدبيبة وحفتر على علاقة بتحذير أميركي من مواصلتها، تحاشياً لقطع الطريق أمام أي انقلاب على مسار إجراء انتخابات تنتج مرحلة سياسية جديدة.
مخاوف أميركية من دور روسي
وأضاف المصدر الدبلوماسي في هذا السياق: "يبدو أن المخاوف الأميركية ليست بمعزل عن إمكانية اقتراب موسكو من تلك المفاوضات، خصوصاً أن السياسة الإماراتية تسير قريبة من رؤية تركيا التي تجري في الآونة الأخيرة مفاوضات مع روسيا من أجل تقارب أكثر في عدة ملفات إقليمية، وغير بعيد عن مخاوفها استمرار علاقة حفتر بمجموعات الفاغنر الروسية في ليبيا".
وعلى صعيد الأطراف الأخرى، تؤكد معلومات الدبلوماسي أن الدفع بالمجلس الرئاسي كطرف فاعل في مرحلة تحديد وتوضيح خريطة الطريق الجديدة والإطار الدستوري للانتخابات "سيقلل أيضاً فرص استخدام الأطراف الإقليمية لقادة المجلسين في إطار الصراع الإقليمي في الملف الليبي".
ومن المؤشرات الأخرى التي رصدتها المصادر الليبية، مرجحة أن تكون على صلة بزيارة بيرنز، اتجاه جديد لتشكيل قوة مشتركة من معسكري شرق وجنوب البلاد لتأمين المنشآت النفطية.
وكشفت مصادر ليبية أخرى مقرّبة من اللجنة العسكرية الليبية المشتركة 5 + 5 عن مناقشة اللجنة، خلال اجتماعاتها الأخيرة، مقترحاً سبق أن طُرح، ويتعلق بتشكيل قوة عسكرية ليبية مشتركة، لكن هذه المرة ستكون القوة "تحت قيادة المجلس الرئاسي".
وتتلخص مهام هذه القوة حسب المصادر، في "تأمين مواقع النفط، سواء منابعه في الجنوب الليبي أو مرافئ التصدير في شمال البلاد ووسطها"، مشيرة إلى أن خطوة تشكيل القوة المشتركة "ستمهد الطريق أمام توحيد باقي أجزاء المؤسسة العسكرية المنقسمة على نفسها في البلاد إثر الحروب التي خاضتها".