صوّت الكونغرس الأميركي في الساعات الأخيرة، بأكثرية ديمقراطية وجمهورية في مجلسي النواب والشيوخ لصالح تمرير قرار بتمويل الحكومة الفيدرالية لمدة 45 يوماً فقط.
كان هذا الاحتمال شبه معدوم لولا استعانة رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي بالديمقراطيين، لإنقاذ الموقف وتأمين الأغلبية في المجلس، (335 مقابل 91)، بعد أن قرر الجناح الترامبي في حزبه (نواته حوالى عشرة نواب ومجموعه 21) منع مرور التمويل بأي حال، وبالتالي فرض الإغلاق الحكومي مع دخول أول أكتوبر/ تشرين الأول، قبل أن يتبعه مجلس الشيوخ بتصويت حزبي مشترك بعد تأييد 88 عضواً مقابل 9 أصوات معارضة، وبما قضى على "خطة الصقور".
ويُعَدّ التصويت الجمهوري في حقيقته محاولة لكسر نفوذ الرئيس دونالد ترامب في الكونغرس ولمنعه من تحقيق هدف الإغلاق لتوظيفه في حملته الانتخابية، إذ يعكس ذلك "لحظة انتعاش" في سعي قيادات الحزب الجمهوري لتهميش الرئيس السابق وتعويم مرشح بديل، ولو أن جهودها في هذا المجال ما زالت دون المرتجى.
كذلك يعكس تمرير القانون نجاح إدارة بايدن التي تيسر لها تأمين مخرج مؤقت يؤجل الأزمة، مع قبولها بتنازل هام للجمهوري (في مجلس النواب) الذي اشترط حذف حزمة المساعدات العسكرية لأوكرانيا بقيمة 24 مليار دولار، من صيغة الحل المؤقت.
تجاوز البيت الأبيض الإغلاق في الوقت الحالي، فيما أخذ الحزب الجمهوري ثمن تعاونه مع الديمقراطي، مع أنه كان بحاجة إلى هذا الأخير. معادلة جمعت بين خاسرين لدودين حتى الآن: ترامب وأوكرانيا.
رغم ذلك، قد يكون مكارثي الخاسر الأكبر، إذ يهدد "صقور ترامب" في مجلس النواب بإطاحته من منصبه، لكن ذلك يبقى مستبعداً على الأرجح، لما ينطوي عليه من مجازفة في سنة انتخابية ولتجنب تكرار مكارثي الاستعانة مرة أخرى بالديمقراطيين للاحتفاظ بموقعه، مقابل شروط تخلط الأوراق وتعزل هذه الأقلية الجمهورية.
الخلاف حول إقرار الموازنة الأميركية عشية بداية السنة المالية الأميركية في أول أكتوبر/ تشرين الأول، أو تجديد التمويل الحكومي المجزأ عندما يحين أوانه كما هي الحال الراهنة، كان وما زال جزءاً هاماً من صراع الحزبين في خدمة توجهاتهما الداخلية والخارجية.
وأدى عدم التوافق بين الحزبين منذ رئاسة جيمي كارتر في 1976، إلى 21 إغلاقاً حكومياً.
وكان الكونغرس -الذي يمسك بمفتاح نفقات الخزينة وإيراداتها- يلجأ على مدار السنين إلى الوصول لتسوية مؤقتة بين الديمقراطيين والجمهوريين، لتفادي الوصول إلى مثل هذا الانسداد، كانت تقوم على تأمين تمويل الحكومة وفقاً للقاعدة الاثني عشرية، وبما يمكّن الإدارة من مواصلة العمل في الدوائر الحكومية.
وكان هذا الحل يهدف إلى تجاوز العقد وتحاشي وقف دفع الرواتب وتسديد المستحقات للموظفين والمقاولين والمتعاقدين وأفراد القوات المسلحة وبعض المرافق الحيوية مثل مراقبة الرحلات الجوية وغيرها، مع ما لذلك من انعكاسات أمنية واقتصادية وضريبية مكلفة.
وكانت غاية التسوية، شراء الوقت، ريثما يُعثَر على صيغة تحظى بالتوافق الذي غالباً ما تأخر التوصل إليه لمدة راوحت بين يوم واحد كما في زمن الرئيس ريغان، و34 يوماً كرقم قياسي كما في عهد الرئيس ترامب سنة 2018.
في كل الحالات، كان الخلاف الذي أدى إلى الإغلاق يدور حول بنود تتعلق بتوزيع نفقات الموازنة على أفضليات الحزبين، بينما كان المخرج في كل مرة بالتوصل إلى حل متوازن في نهاية المطاف، إلا أن الخلاف هذه المرة بات أعمق ويتصل بانتخابات 2020 لتصفية الحسابات وتوظيف الحصيلة إذا أمكن في انتخابات 2024.
ويكمن عمق الخلاف هذه المرة في اعتراض الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب على حجم الإنفاق العام في موازنة بايدن، عدا عن أن جناح ترامب الممسك ببيضة القبان في مجلس النواب لم يكن معنياً بغير تحقيق الإغلاق عبر وضع شروط معقدة تطول نفقات حساسة يصعب حتى على معظم الجمهوريين المعتدلين تبنيها، مثل برامج الرعاية الصحية للمسنين ومستحقات الضمان الاجتماعي، فضلاً عن بنود خارجية كانت في صميم سياسة الجمهوريين كالمساعدات العسكرية "للحلفاء" مثل أوكرانيا.
ما لم يحسبه "الصقور" أن قيادات الجمهوري، وخصوصاً مكارثي الذي أغدق عليهم بالوعود وبما بدا أنه أقرب إلى الارتهان لهم مقابل الحصول على أصواتهم التي أوصلته إلى المنصب، قد يذهب إلى حدود التعاون مع الديمقراطيين وقلب المعادلة ضدهم.
ويتوعد الجمهوريون وينذرون بالرد قبل موعد تجديد التمويل في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني القادم. آنذاك، تكون الحملة الانتخابية قد تبلورت أكثر لجهة موازين القوى بين المرشحين الجمهوريين الذين يتقدمهم ترامب حتى الآن بأشواط، لكن انقلاب الجمهوري اليوم يشير إلى تحول يصعب التراجع عنه تجاه ترامب.