بعد نحو 30 سنة من إبعاد آلاف الجنوبيين، من مدنيين وعسكريين، قسراً عن وظائفهم، بعد انتهاء حرب صيف 1994 بين شريكي الوحدة، طوى رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي تداعيات هذا الأمر بتسوية أوضاع المبعدين.
وكان الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي تعهد، في العام 2014، بتصحيح الأخطاء التي ارتكبت مع الجنوبيين، وتعويض آلاف الموظفين أو ضباط وجنود الجيش السابقين الذين سُرّحوا بعد حرب 1994 أو إعادة كثيرين إلى مناصبهم.
وطوى العليمي، الأول من أمس الاثنين، ملف المسرحين والمبعدين من الموظفين الجنوبيين، بالتوقيع على قرارات بترقيات وتسويات ومنح الأجور لـ52766 من الموظفين المدنيين والأمنيين والعسكريين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية بعد حرب 1994، بعد نحو 30 سنة على هذا الملف، الذي مرّ بتقلبات وتحولات على مختلف المستويات.
ستُسوّى أوضاع نحو 53 ألف موظف جنوبي
وشكل الملف سبباً لدخول اليمن في أزمات متتالية، وعودة مطلب فك ارتباط الجنوب عن الشمال، والعودة إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية التي دخلت في وحدة مع الجمهورية العربية في الشمال في 22 مايو /أيار العام 1990، واستمرت نحو أربع سنوات قبل أن تتفجر الحرب وعودة المطالبات بفك الارتباط والتي لا تزال مستمرة إلى الآن.
وتضمنت القرارات، بموجب القرار الجمهوري الذي نشرته وكالة "سبأ" الرسمية الاثنين الماضي، اعتماد معالجات لجنة الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية في المجال المدني والأمني والعسكري، والمتقاعدين والمنقطعين من العناصر والضباط والجنود من منتسبي القوات المسلحة والداخلية والأمن السياسي، وذلك بالإعادة للخدمة والترقية والتسوية والإحالة إلى التقاعد.
وذكرت الوكالة أن القرارات تأتي تنفيذاً لقرارات لجنة الموظفين المبعدين، وتعهدات رئيس مجلس القيادة الرئاسي، وأعضاء المجلس، المتعلقة بجبر الضرر، ومعالجة آثار الماضي، والعمل بروح الفريق الواحد واستعادة حالة الإجماع الوطني، مثل ما تجلت بمخرجات مؤتمر الحوار الشامل ووثيقة ضمانات حل القضية الجنوبية (في العام 2013)، وتوافقات المرحلة الانتقالية التي تنظمها المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ونتائج مشاورات الرياض في إبريل/نيسان 2022.
تكليف الحكومة تنفيذ قرار تسوية أوضاع المبعدين
ونصت قرارات العليمي على تكليف أعضاء الحكومة اتخاذ الإجراءات التنفيذية للقرارات المعتمدة، كل في مجال اختصاصه، واعتماد مبلغ أربعة مليارات ريال شهرياً (نحو 4 ملايين دولار)، وفق ما رأته اللجنة المكلفة بمعالجة قضايا الموظفين المبعدين عن وظائفهم في المحافظات الجنوبية المنشأة بموجب القرار الجمهوري رقم 2 لسنة 2013، برئاسة القاضي سهل محمد حمزة.
ويأتي هذا، بحسب "سبأ"، من أجل جبر ضرر آلاف المبعدين من وظائفهم، استناداً إلى ما قالت اللجنة إنها آليات قانونية مرجعية لتحقيق العدالة والإنصاف، كمدخل هام لمعالجة آثار الماضي، وتعزيز الاستقرار، والسلم الاجتماعي.
وفي أول ردود فعل على قرار العليمي، أشاد رئيس هيئة أركان الجيش اليمني اللواء الركن صغير عزيز بهذا الإجراء، مطالباً بأن يشمل جميع المحافظات. وقال في بيان الأول من أمس: "نبارك قرار رئيس مجلس القيادة القائد الأعلى للقوات المسلحة بشأن التسويات للعسكريين والأمنيين، ونتمنى أن يشمل الجميع في كل المحافظات".
وقال وكيل وزارة الإعلام اليمنية أسامة الشرمي، في تعليق له على القرار، أمس الثلاثاء: "ربما كنت سأهتم بهذا القرار لو كان أبي على قيد الحياة، لكنه مات بعد أن خلفت لنا معاناته مع التسريح، في العام 1994، جروحاً غائرة في النفس، وعقداً كلما اعتقدنا أننا في حل منها تجلت...".
وفيما لم يصدر أي موقف رسمي عن المجلس الانتقالي الجنوبي، قال رئيس الهيئة السياسية في المجلس، ورئيس وحدة شؤون المفاوضات، ناصر الخبجي، عبر موقع تويتر، أمس، إن "التسويق السياسي والإعلامي لقضايا تتعلق بمحاولة تجاوز جرائم حرب 1994 البشعة، وما رافقها من انتهاكات للحقوق السياسية والإنسانية والمادية لأبناء الجنوب والإقصاء القسري، هو تسويق الوهم من مرتكبي تلك الجرائم التي لا تسقط بالتقادم...". واعتبر أن "الحديث عن إغلاق الملفات العالقة بعد 29 عاماً، والادعاء بالإنصاف والعدل هو أسوأ انواع الظلم والقهر والاستخفاف بعقول الناس واللعب على عواطف الحاجة والفاقة، وهذا أمر غير مقبول، والسكوت عن ذلك يعد تشجيع الواهمين لمحاولة النيل من الإرادة الشعبية المقاومة والتواقة إلى الحرية...". وخلص إلى القول: "فلترتفع الأصوات عالية لوقف ذلك العبث الأخلاقي".
وكانت البداية الأولى لملف المتقاعدين والمبعدين الجنوبيين قسراً من وظائفهم بدأت بعد انتهاء حرب صيف 1994، التي شنها الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح والتحالف الذي كان يدعمه في الشمال على الحزب الاشتراكي، عقب تفجر الخلافات بشأن الوحدة، والتي أدت إلى هزيمة الأخير. وقد دفع الجنوبيون ثمناً كبيراً لهذه الحرب، من نهب للبيوت والأراضي والممتلكات، ثم الملاحقات والإقصاء والإبعاد لعشرات آلاف الموظفين، من عسكريين وأمنيين ومدنيين، على يد المنتصرين في الحرب.
جمال عبد الرب: النظام في صنعاء تعامل مع الجنوبيين على أنهم أعداء
وبعد الحرب مباشرة، تشكلت مقاومة في الجنوب، تحت مسميات منها "حتم" (حركة تقرير المصير) و"موج" (الجبهة الوطنية للمعارضة الجنوبية)، حيث دارت بعض المواجهات المسلحة في عدد من المناطق، أبرزها الضالع، رفضاً لما أفرزته نتائج الحرب على الجنوبيين.
ولم تجد الأصوات الجنوبية التي طالبت بتصحيح مسار الوحدة، وبينها قيادات الحزب الاشتراكي، أي اهتمام لدى نظام صالح وحلفائه، الذين أجبروا الكثير من الشخصيات الجنوبية على الفرار إلى خارج البلاد، فيما تعرض آخرون للملاحقات والتهديد والسجن والتعذيب.
التعامل مع الجنوبيين كـ"أعداء"
وتصاعدت الأزمات الاقتصادية والإنسانية لدى الجنوبيين مع قيام السلطات في صنعاء بقطع رواتب جميع الموظفين المبعدين، والحرمان من الخدمات، ما زاد من نقمة الجنوبيين، الذين اعتبروا أنه يجرى التعامل معهم وكأنهم أعداء، بحسب العقيد جمال عبد الرب، وهو أحد المسرحين من وظيفته.
وقال عبد الرب، لـ"العربي الجديد"، إن النظام في صنعاء تعامل مع الجنوبيين كمحتل وأنهم أعداء، حيث يعطي النظام والقوى التقليدية في الشمال الأولوية لمن ينتمي إلى الشمال. واعتبر أن هذا الأمر، الذي تواصل على الرغم من النصائح والمطالبات بوقفه، أدى إلى وصف الجنوبيين ما يجري بأنه احتلال، وأن الوحدة انتهت. وأوضح أن هذا الأمر أدى إلى ظهور العديد من المجموعات الجنوبية المعارضة للوحدة مع الشمال.
وأضاف عبد الرب أنه وعلى الرغم من أن "الحراك الجنوبي"، الذي تأسس في العام 2007 ليؤطر ويجمع عدداً من الحركات والقوى والشخصيات، كان يطالب بإصلاح مسار الوحدة، فإن صالح وشركاءه واجهوا الاحتجاجات الجنوبية بالقوة، ما أجبر الجنوبيين على "توسيع احتجاجاتهم والمطالبة بإنهاء الوحدة وفك الارتباط، وهو ما بدأت ملامحه تتحقق اليوم، بعد ثلاثة عقود من التضحيات والنضال"، على حد وصفه.