تركيا وروسيا... العصا من الوسط

02 مارس 2022
لا تريد أنقرة اتخاذ قرار قد يفاقم الأزمة (أوزان كوزيه/الأناضول)
+ الخط -

ازدادت على نحو ملحوظ، في الأيام الأخيرة، حركة السفن العابرة لمضيق البوسفور، الذي يفصل بين ضفتي مدينة إسطنبول، ويصل بين بحري مرمرة والأسود والأبيض المتوسط. ويمكن للمراقب أن يرى بالعين المجردة عبور السفن الحربية الروسية المزودة بالصواريخ وهي تتجه شمالاً نحو أوكرانيا.

وفي اليوم الثالث للحرب الروسية على أوكرانيا، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن تركيا وافقت على إغلاق البوسفور بوجه السفن الحربية الروسية، ولكن أنقرة أعلنت أنها سوف تطبّق "اتفاقية مونترو" لعام 1936 بمرونة، لأنها حريصة على الحفاظ على العلاقات مع روسيا.

وتؤكد أنقرة التزامها بـ"اتفاقية مونترو"، وهو ما جدد إعلانه وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، أمس الأول الاثنين، موضحاً أن الاتفاقية "تمنح تركيا صلاحية مطلقة في إغلاق المضائق إذا كانت طرفاً في الحرب، أما إذا لم تكن طرفاً في الحرب، فلديها صلاحية عدم السماح لسفن الدول المتحاربة بالعبور من مضائقها". واستطرد: "الاتفاقية لا تحظر عبور السفن الحربية العائدة إلى قواعدها في البحر الأسود". وأعلن أن بلاده أخطرت "جميع الدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود بألا ترسل سفنها الحربية لتمر عبر مضائقنا".

جاووش أوغلو: أخطرنا جميع الدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود بألا ترسل سفنها الحربية لتمر عبر مضائقنا

وحتى قبل يوم الحرب التي انطلقت في 24 فبراير/شباط الماضي، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعلن أنه "لا يمكننا الاستسلام" بشأن روسيا أو أوكرانيا. لكن في اليوم التالي، عندما بدأت القوات الروسية بالتوغل في أوكرانيا، تحدث أردوغان بوضوح "إننا نجد العمل العسكري غير مقبول ونرفضه"، واعتبر الخطوة "مخالفة للقانون الدولي، وضربة قوية للسلام والهدوء والاستقرار في المنطقة... تركيا تقف ضد أي قرار يستهدف سيادة أوكرانيا".

كما أعلن أردوغان، في مؤتمر صحافي الإثنين، أن بلاده "لن تتنازل عن مصالحها الوطنية مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية"، مضيفاً "لذلك نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا".

وأكد مواصلة بلاده مبادراتها الدبلوماسية لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا، وأنها عازمة على استخدام صلاحياتها النابعة من "اتفاقية مونترو" بخصوص عبور السفن من المضائق، بشكل يحول دون تصعيد الأزمة.

ووافقت جميع الأطراف في البرلمان التركي رسمياً على أن العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا خاطئة، وأنه يجب ضمان وحدة أراضي أوكرانيا. وصدر بيان عن وزارة الخارجية التركية يعتبر العملية العسكرية للقوات المسلحة الروسية ضد أوكرانيا مرفوضة، و"غير مقبولة" و"انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي". وكانت قبل ذلك قد شجبت اعتراف روسيا بالجمهوريتين الانفصاليتين لوغانسك ودونيتسك.

صلاحيات تركيا وفق اتفاقية مونترو

 

إغلاق المضائق التركية أمام السفن الروسية أمر من صلاحيات أنقرة حسب "اتفاقية مونترو"، غير أن الإغلاق الكامل للمضائق غير ممكن، ولن يؤثر إلا على روسيا، لأن أوكرانيا ليس لديها سفن حربية تعبر من هناك.

وعلاوة على كل ذلك، لا يوجد إعلان رسمي روسي للحرب حتى الآن، وحتى لو حصل ذلك، لا يعتقد خبراء حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ومنهم جيمس جيفري رئيس برنامج الشرق الأوسط في مركز ويلسون، والسفير الأميركي السابق في العراق وتركيا، والمبعوث الخاص السابق للتحالف العالمي ضد "داعش"، أن تركيا ستفسر "اتفاقية مونترو" بهذه الطريقة، نظراً لحساسية العلاقات الروسية التركية.

ومن شأن ذلك أن يزعج موسكو سياسياً، كون روسيا تمتلك قوة كبيرة في البحر الأسود، بما في ذلك الغواصات، وسترى قرار الإغلاق موقفاً سلبياً من تركيا تجاهها. وعلى سبيل الرد يمكنها اتخاذ مجموعة واسعة من الإجراءات، من إعادة النظر بـ"اتفاقية مونترو" إلى اتخاذ مبادرات لإلغائها.

وسيكون هذا الوضع مشكلة خطيرة بالنسبة لتركيا، التي ترى الاتفاقية على أنها نوع من صمام الأمان. ويمكن القول إن أنقرة سترغب في تجنب ذلك. وفي ضوء المواقف الغربية، سوف تبقى أنقرة لفترة أطول، تدير هذه المسألة بمرونة لا تضعها في مواجهة مع موسكو.

حسابات تركيا في الصراع الروسي الأوكراني

 

تركيا على تماس مباشر مع الأزمة في أوكرانيا، ومن أكثر الدول قرباً من الحريق الذي أشعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من خلال غزو أوكرانيا. وعلى الرغم من أن قانون الجغرافيا والوضع الجيوسياسي يؤهلان أنقرة للعب دور رئيسي في تقرير مسار ومصير النزاع، فإنها تبدو وكأنها تريد الوقوف في الوسط، وذلك لاعتبارات وحسابات كثيرة.


أوكرانيا واحدة من أهم شركاء الدفاع لتركيا في السنوات الأخيرة

وعلى عكس ألمانيا وفرنسا المشاركتين في عملية مينسك، تتمتع تركيا بتاريخ يمتد لقرون من المواجهة والتعاون مع روسيا. لقد كانت أنقرة مؤيداً صريحاً لوحدة أراضي أوكرانيا، ومنتقدة لضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ووضعت برنامجاً مهماً للتعاون مع كييف في مجال التكنولوجيا العسكرية.

وأصبحت أوكرانيا واحدة من أهم شركاء الدفاع لتركيا في السنوات الأخيرة، لأن أنقرة لا تستطيع شراء المنتجات التكنولوجية من الدول الغربية، فباتت كييف مورد محركات مهما جداً لأنقرة، وكانت المحركات أوكرانية الصنع مفضلة في طائرات "بيرقدار" بدون طيار.

ووقّع أردوغان اتفاقية مع أوكرانيا خلال زيارته إلى كييف مطلع فبراير/شباط الماضي، تقضي بإنشاء مصنع لتصنيع الطائرات من دون طيار التركية، وهو ما تسبب برفع حجم التجارة المتبادلة في صناعة الدفاع بشكل كبير بين البلدين.

وتوازى ذلك مع حفاظ تركيا أيضاً على علاقات فعالة مع روسيا في مجالات الطاقة والتجارة الزراعية والسياحة وكذلك بعض تقنيات الدفاع الرئيسية، وعلى سبيل المثال، شراء أنظمة الدفاع الجوي "أس 400" الروسية، التي كانت أحد الأسباب في زيادة تأزيم العلاقات بين أنقرة وواشنطن في العامين الأخيرين.

ومهما حصل لا تريد أنقرة أن تهدم جسورها مع موسكو، وتسعى للحفاظ على علاقات جيدة مع كييف. ويتحكّم تشابك المصالح بين أنقرة وموسكو بالموقف التركي ويحدد مستوياته كافة. وهنا يمكن الحديث عن علاقات ثنائية مباشرة اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية من جهة، ومن جهة أخرى مصالح إقليمية في سورية والعراق وآسيا الوسطى وليبيا ومنطقة القرم والبحر الأسود.

وتتفاوت هذه المصالح والعلاقات في لحظة الغزو الروسي لأوكرانيا، ما بين تقدم اقتصادي على مستوى التبادل والسياحة، ومراوحة سياسية تتجلى على نحو مثالي في سورية، التي باتت منذ عام 2016 أفضل "بارومتر" لقياس درجة حرارة العلاقات الروسية التركية.


آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على الاقتصاد التركي قد تصل إلى ما يقرب من 30 إلى 35 مليار دولار

وتفيد حسابات اقتصادية تركية بأن آثار الغزو الروسي لأوكرانيا على الاقتصاد التركي قد تصل إلى ما يقرب من 30 إلى 35 مليار دولار في المرحلة الأولى، ذلك أن قرابة 30 في المائة من السياح الذين يقصدون تركيا، يأتون من منطقة النزاع (20 في المائة من روسيا و10 في المائة من أوكرانيا)، والعائد المالي الذي يدرّونه يعادل 15-20 في المائة من إجمالي الدخل السياحي التركي، وبالتالي فإن الخسارة المتوقعة بسبب تضرر السياحة لهذا العام تقارب نحو 5 مليارات دولار.

وثاني الآثار الاقتصادية المباشرة تأتي من فاتورة النفط والغاز بعد الارتفاعات الأخيرة في الأسعار، ما يزيد أعباء الموازنة التركية بحدود 10 في المائة، مع العلم أن ثلث استهلاك تركيا من الغاز يأتي من روسيا.

الأمر الثاني هو أن تركيا هي واحدة من دول حلف الأطلسي القليلة التي لديها إمكانات عسكرية تشكل تهديداً للعمليات الروسية في البحر الأسود. وإذا قررت لعب دور بحري أكثر أهمية، فقد يتغير هذا التوافق مع روسيا. وحتى الآن لا تود أنقرة أن تتصرف من موقعها كعضو في "الناتو"، ومرشحة للعضوية في الاتحاد الأوروبي منذ حوالي أربعة عقود.

وفي الحالين تبدو أنقرة بعيدة منذ سنوات عن هذين المحفلين، وتتعرض إلى معاملة تمييزية وتواجه سياسات تقوم على ازدواج المعايير، سواء من الولايات المتحدة التي تتحكم بقرار "الناتو"، أو من فرنسا وألمانيا اللتين تشكلان مركز الثقل في الاتحاد الأوروبي.

وبالنظر إلى هذا الوضع المتفجر، تقع على عاتق واشنطن مسؤولية التنسيق الوثيق مع أنقرة، وتجاوز الخلاف حول قضايا عدة كان لها تأثير سلبي على العلاقات مع واشنطن والأطلسي. أول خطوة ستكون تزويد الجيش التركي بالأسلحة التي تتحفظ عليها واشنطن منذ أعوام، ومنها طائرات "أف 16"، وتصحيح الخلل بين تركيا والأطلسي الذي لم يدعم أنقرة في المواجهات التي خاضتها مع موسكو في سورية، خصوصاً بعد إسقاط تركيا طائرة حربية روسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015.

بالإضافة إلى تغيير موقف واشنطن من "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، التي هي على نزاع مفتوح مع أنقرة، وتدعمها الولايات المتحدة بقوة.

موقف محفوف بالمخاطر

 

يبقى الموقف التركي محفوفاً بمخاطر النزاع الروسي الأوكراني، وليس من الواضح إلى أي مدى تستطيع تركيا البقاء في منطقة الوسط، من دون أن تتأثر بالتداعيات الكبيرة اللاحقة السياسية والاقتصادية. وليس من السهل عليها أن تكون عضواً في حلف الأطلسي، وصديقاً لبوتين في آن، وستأتي لحظة يتوجب عليها أن تحدد المعسكر الذي تقف فيه في ظل الضغط الغربي على روسيا وسياسة عزلها عن العالم.

كما أن أنقرة سوف تتأثر حكماً بالعقوبات المفروضة على موسكو بسبب المقاطعة والعقوبات على النظام المالي والتجارة عبر الممرات وخصوصاً مضيق البوسفور. وبالتالي قد تكون سياسة الموقف الوسط واردة في الأيام الأولى من الأزمة، لكن حين تشتعل المنطقة، من الصعب تخيل نجاح "الناتو" في هذه الأزمة من دون دعم دبلوماسي على الأقل من تركيا.

بيسكوف: وساطة تركيا قد تكون مفيدة، إذا أدت إلى امتثال أوكرانيا لاتفاقات مينسك

وهناك من يرى لتركيا دور وساطة يمكن أن تلعبه بعد أن يحقق بوتين بعض المكاسب العسكرية على الأرض، ولم يستبعد ذلك المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف المتخصص بتركيا، والذي بدأ حياته الدبلوماسية في أنقرة.

وقال إن "وساطة تركيا قد تكون مفيدة"، إذا أدت إلى امتثال أوكرانيا لاتفاقات مينسك. والرأي الغالب في الوسطين السياسي والإعلامي التركي هو أن تركيا دولة استراتيجية ومهمة للغاية في هذه الأزمة.

وتشير تصريحات أردوغان وإعلان وزارة الخارجية التركية إلى استراتيجية بنّاءة للغاية. تدين أنقرة موسكو لانتهاكها أراضي أوكرانيا ومهاجمتها دولة على أراضيها، بينما تحاول أيضاً الحفاظ على الحوار مع الكرملين، ويقولون إن تركيا هي الدولة الوحيدة في "الناتو" التي تتمتع بعلاقات جيدة مع كلا الطرفين، وهذا هو السبب في أن تدخل أردوغان كوسيط في هذه الأزمة، قد يكون مفيداً في جلب موسكو إلى طاولة الحوار.