بينما كان الترقب سيّد الموقف للوضع في ميانمار في اليوم الثاني من الانقلاب العسكري الذي نفذه الجيش أمس الإثنين، واعتقل على أثره كبار السياسيين، ومن بينهم الزعيمة أونغ سان سو تشي، معلناً حالة الطوارئ في البلاد، كان الجيش يواصل إحكام قبضته على البلاد، عبر حلّ الحكومة وفرض الإقامة الجبرية على النواب، إلى جانب إغلاق المطار الرئيسي للدولة. وبينما تتركز الأنظار على تطورات الوضع الداخلي، فإن مراقبة استجابة الخارج ومدى تأثيرها، ولا سيما من قبل الولايات المتحدة والصين، مع ما يحصل في هذه الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا لم يكن أقل أهمية، نظراً إلى أنّ الوضع الجديد قد يشكل ميدان صراع جديداً بين واشنطن وبكين أو قد يكون ساحة للتسويات. وفيما يمثل الانقلاب ارتداداً دراماتيكياً لميانمار، التي خرجت من عقود من الحكم العسكري الصارم والعزلة الدولية التي بدأت عام 1962، فإنّ خيبة أمل الغرب كانت واضحة من زعيمة المعارضة السابقة سو تشي، بسبب تبريرها لانتهاكات حقوق الإنسان والمجازر بحق أقلية الروهينغا.
وبينما ركّز الغرب على إدانة هذا الانقلاب والمطالبة باحترام الديمقراطية، ذهبت الولايات المتحدة بعيداً، إذ هدد رئيسها جو بايدن بإعادة فرض العقوبات على الدولة. ويمثّل الانقلاب العسكري في ميانمار اختباراً مبكراً لتصميم إدارة بايدن على الدفاع عن الديمقراطية في العالم، لكن بخلاف ما حدث قبل نحو عشرة أعوام عندما رعت الولايات المتحدة عملية انتقالية للسلطة هناك، فإنّ الخيارات الآن أمام الإدارة الجديدة محدودة. ولطالما عُدّ صعود الديمقراطية في ميانمار إنجازاً رئيسياً للرئيس الأسبق باراك أوباما ونائبه حينذاك بايدن، باعتباره شكّل فتحاً لدولة مغلقة تدور في فلك الصين. وتتجه الأنظار بالفعل اليوم إلى الأخيرة، ودورها في الأيام المقبلة، خصوصاً مع معرفة أنّ الحزب الشيوعي الصيني كان له تاريخ متقلب مع جيش ميانمار. وبدا تعليق بكين غير واضح بشأن الانقلاب، لا سيما مع دعوتها، اليوم الثلاثاء، إلى عدم "تعقيد الوضع" في ميانمار، فيما ذهبت الصحف الصينية باتجاه تلطيف ما حدث.
المئات من أعضاء البرلمان في ميانمار قيد الإقامة الجبرية
ودعا حزب "الرابطة الوطنية للديمقراطية" الحاكم في ميانمار، إلى الإفراج عن الرئيس وين مينت، ورئيسة مجلس الدولة، الحاكم الفعلي للبلاد، أونغ سان سو تشي، بعد توقيفهم غداة الانقلاب العسكري. وقال الحزب في بيان، اليوم، إنّ "الانقلاب العسكري وصمة عار في تاريخ الجيش والدولة في ميانمار". وفي وقت سابق اليوم، أعلنت القيادة العسكرية في ميانمار حل حكومة البلاد وتوقيف 24 وزيراً مع نوابهم عن العمل، وتعيين 11 وزيراً لإدارة شؤون البلاد كخطوة أولى.
في هذا الأثناء، ظلّ المئات من أعضاء البرلمان قيد الإقامة الجبرية داخل مقر استراحتهم الحكومية. وقال أحد النواب لوكالة "أسوشييتد برس" إنه و400 من أعضاء البرلمان تمكنوا من التحدث داخل مجمع الاستراحات، والتواصل مع دوائرهم الانتخابية عبر الهاتف، لكن لم يُسمح لهم بمغادرة المجمع السكني في العاصمة نايبيداو. وأضاف أن الشرطة تمركزت داخل المجمع، بينما كانت قوات الجيش في الخارج.
كما قال مدير مطار يانغون، فون ماينت، إنّ السلطات أغلقت المطار الدولي في المدينة، وهو أيضاً المطار الرئيسي في البلاد. وقال ماينت لوكالة "رويترز" إن المطار سيظلّ مغلقاً حتى مايو/ أيار المقبل.
أمام هذا الوضع، تواجه الولايات المتحدة الآن، بعد استثمار عقود من الوقت والطاقة والمال في تعزيز الديمقراطية في ميانمار، تحديات يمكن أن تؤثر على ميزان القوى العالمي، حيث يتوقع أن تعزز الاضطرابات في ميانمار من نفوذ الصين في المنطقة، وسط مخاوف حديثة وخطيرة بشأن انزلاق الدولة إلى الاستبداد.
وحذّر بايدن في بيان قوي، أمس الإثنين، ميانمار من إعادة فرض العقوبات عليها والتي تم رفعها بعد العودة الجزئية للبلاد إلى الديمقراطية خلال إدارة أوباما، معرباً عن دعمه الثابت لمبدأ الديمقراطية الذي يتوافق مع وعوده خلال حملته الانتخابية. وقال بايدن في بيانه إنّ "الولايات المتحدة ستدافع عن الديمقراطية في أي مكان تتعرّض فيه لاعتداء"، مطالباً جيش ميانمار بـ"التخلي بشكل فوري عن السلطة التي استولى عليها".
في السياق، قال ديريك ميتشل، أول سفير لواشنطن لدى ميانمار بعد انتقالها إلى الحكم المدني، إن الولايات المتحدة لم تعد تتمتّع بالنفوذ نفسه في ميانمار. وأضاف لوكالة "فرانس برس": "أعتقد أن أزمة الروهينغا أعادت الأمور إلى الوراء بشكل كبير". وحضّ ميتشل، الذي يرأس اليوم المعهد الديمقراطي الوطني الأميركي، بلاده على التنسيق مع حلفائها، وقال إنّ على العالم أن يحترم الانتصار الساحق الذي حقّقته الرابطة الوطنية للديمقراطية بزعامة سو تشي في انتخابات العام الماضي. وأضاف أنّ الغرب "ربما اعتبرها أيقونة للديمقراطية في العالم قبل أن يخبو هذا البريق. لكن إذا كنت مهتماً بالديمقراطية في العالم، عندها عليك احترام الخيار الديمقراطي، وهي تمثّله بوضوح". ولفت الى أن "الأمر لا يتعلق بالشخص، بل بالعملية".
حذّر جو بايدن من إعادة فرض العقوبات على ميانمار
وارتفعت خيبة الأمل في الفترة الأخيرة من زعيمة المعارضة السابقة أونغ سان سو تشي. وعلى الرغم من أنّ الغرب طالب بالإفراج عنها مع معتقلين آخرين، فإنّ سو تشي كانت تخسر الدعم الغربي بشكل متسارع في السنوات الأخيرة مع صمتها حيال وحشية الجيش البورمي ضدّ أقلية الروهينغا، وهو صمت فسّره البعض بأنه محاولة لعدم معاداة الجيش.
وعندما بدأت ميانمار تحوّلها الديمقراطي، فإن واشنطن التي كانت هيلاري كلينتون تقود سياستها الخارجية آنذاك والتي قامت بزيارة إلى هذا البلد عام 2011، تمكّنت من إقناع الإصلاحيين عبر وعود بمساعدات اقتصادية وتخفيف العقوبات وتأمين بديل للحكّام القوميين المتشدّدين، بعدم الاعتماد الواسع على الصين. لكنّ الولايات المتحدة الآن ليس لديها الكثير لتقدمه إلى قائد عسكري دفعته طموحاته إلى إدارة ظهره لعقد من التغيير. فزعيم الانقلاب الجنرال مين أونغ هلينغ، خاضع لعقوبات أميركية لا تزال سارية بسبب الحملة التي شنّها ضدّ الروهينغا ووصفتها الولايات المتحدة بأنها تطهير عرقي.
وقال موراي هيبرت، خبير شؤون جنوب شرق آسيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، لوكالة "فرانس برس": "من السهل إصدار بيانات لكن الأصعب معرفة ما هي الخطوة التالية التي يجب القيام بها". وأضاف "ما الذي يجب أن تفعله! أعتقد أنه بالإمكان معاقبة بعض الشركات العسكرية. ربما يؤدي ذلك إلى إحداث القليل من الضغط، لأن هذه الشركات منغمسة بعمق في العديد من قطاعات الاقتصاد".
من جهتها، طورت الصين علاقات ودية مع القيادة المدنية في ميانمار، التي بدت أكثر اهتماماً بمبادرتها "الحزام والطريق" من الجنرالات هناك الذين يعيشون في عزلة ويتصرفون أحياناً بطريقة فيها شيء من جنون العظمة. وقال هيبيرت "هناك شيء مثير للسخرية هو اعتقادي بأنّ الصين لن تتمكن من بناء علاقة مع الجيش كتلك التي كانت مع سو تشي". لكن مع تأهّب الغرب للتشدد مع ميانمار، لن يكون أمام المجلس العسكري الجديد هناك من خيار سوى الاعتماد على الصين. ومع وعود بايدن بالتركيز مجدداً على حلفاء الولايات المتحدة، حيث العديد منهم في جنوب شرق آسيا يتوقون لرؤية واشنطن تتصدى للصين، اعتبر هيبرت أنّ "ما حدث في ميانمار الآن يجعل ذلك أكثر صعوبة".
ارتفعت خيبة الأمل في الفترة الأخيرة من زعيمة المعارضة السابقة أونغ سان سو تشي
ودعت الصين، اليوم الثلاثاء، المجتمع الدولي إلى عدم "تعقيد الوضع أكثر مما هو عليه" في ميانمار، غداة الانقلاب العسكري. وناشدت وزارة الخارجية الصينية المجتمع الدولي "المساهمة في الاستقرار السياسي والاجتماعي" في ميانمار، غداة دعوتها كافة الأطراف في هذه الدولة إلى "حلّ الخلافات" ضمن الإطار الدستوري والقانوني، فيما كان يعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعاً طارئاً، لمناقشة الوضع في ميانمار.
وتطرقت وسائل الإعلام الصينية، التي يسيطر عليها الحزب الشيوعي الحاكم، اليوم الثلاثاء، إلى الوضع في الدولة المجاورة مستخدمة عبارات ملطفة، وتجنبت استخدام كلمة "انقلاب". وتحدثت وكالة "الصين الجديدة" عن "تعديل وزاري واسع" واستبدال الوزراء المدنيين بالعسكريين. ووصفت صحيفة "غلوبال تايمز" الناطقة بالإنكليزية، نقلاً عن "خبراء"، استيلاء الجيش على السلطة بأنه "تعديل لبنية السلطة غير المتوازنة".
وبينما يميل الحزب الشيوعي الحاكم في الصين إلى الأنظمة الاستبدادية، إلا أنه كان له تاريخ متقلب مع جيش ميانمار، والذي يرتبط أحياناً بحملاته ضد الأقليات العرقية الصينية وتجارة المخدرات على طول الحدود الجبلية الطويلة. لكن بعض المراقبين يرون أنّ تولي الجيش في ميانمار السلطة بعد تجربة قصيرة مع ديمقراطية محدودة، يمنح الصين فرصة أكبر للانفتاح على دولة مجاورة سعى الغرب جاهداً للحد من تأثير بكين عليها.
وفي السياق، قالت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية "قد يكون اللاعب الأكثر أهمية هو الصين" في ما يحدث الآن. وأضافت "ربما كان الاجتماع الذي عقد الشهر الماضي بين كبير الدبلوماسيين الصينيين وانغ يي، ومين أونغ هلينغ، هو النقطة المحورية في تحديد الانقلاب". واعتبرت أنه "قد تكون الطريقة التي تتعامل بها كل من الصين والولايات المتحدة مع الأزمة علامة مهمة لعلاقتهما".
قد تكون الصين اللاعب الأكثر أهمية في ما يحدث الآن في ميانمار
وقالت الصحيفة "دأب العسكر في ميانمار على الدفع برواية التزوير الانتخابي منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لكن القيادة العسكرية كانت ستتردد في اتخاذ إجراء لو لم تكن لديها ثقة في أنها يمكن أن تعتمد على بكين لحمايتها من العواقب الحتمية في الأمم المتحدة ومن الدول الغربية". لكن الغريب هنا هو أنّ بكين كانت أقرب إلى حكومة سو تشي المدنية مما كانت عليه في الماضي من النظام العسكري في ميانمار. وهذا يرجع إلى حد كبير إلى العسكر، الذين فضلوا دائماً العزلة الدولية على الاعتماد على دولة أجنبية، حتى كدولة مثل الصين. وكان الخوف من الاعتماد على الصين هو الذي أدى، جزئياً، إلى استيعاب جيش ميانمار للديمقراطية على مدى عقد من الزمان وتعليق المشاريع الصينية الكبرى، مثل سد مييتسون، الذي تبلغ كلفته 3.6 مليارات دولار، وهو ثغرة دائمة في العلاقات منذ ذلك الحين. ومع ذلك، ربما لم يمنح الصينيون أي إذن صريح للجنرال العسكري مين أونغ هلينغ بالمضي قدماً في خططه، لكن القيادة العسكرية اعتقدت أنه بإمكانها دفع بكين للدفاع عنها على أي حال. الحساب هنا هو أن الصين نادراً ما تفوت فرصة لتوسيع نفوذها في آسيا على حساب الولايات المتحدة.
ولكن قد تكون هناك صفقة هنا، بحسب ما تقول "فورين بوليسي". وتوضح أنه "يمكن للولايات المتحدة أن تعترف بالمصالح التجارية لبكين ولا سيما بشأن مبادرة الحزام والطريق في ميانمار، مقابل دعم الصين لإجبار ميانمار على حل أزمة الروهينغا، وترسيخ قوة القوى الديمقراطية في البلاد التي هي بالفعل ودية للغاية تجاه بكين. ستكون هذه نتيجة متفائلة، ليس فقط لميانمار، ولكن أيضاً لآفاق التعاون الأميركي الصيني".
من جهة أخرى، كان لافتاً موقف تايلاند، الدولة الحدودية مع ميانمار، مما حصل في الأخيرة، إذ اعتبر نائب رئيس وزراء تايلاند، براويت وونغسوان، ما جرى "شأناً داخلياً". وقد لا يبدو هذا الموقف مستغرباً، نظراً إلى أنّ انتخابات 2019 في تايلاند سمحت لزعيم المجلس العسكري برايوت تشان أو تشا، بالبقاء كرئيس للوزراء بعد خمس سنوات من الانقلاب العسكري.
الدولة الجارة الأخرى، وهي بنغلادش، بدت معنية أكثر بالديمقراطية في ميانمار. وأكدت وزارة الخارجية في بنغلادش، الدولة التي تستقبل مئات آلاف اللاجئين من أفراد الروهينغا، أنها "كجارة وصديقة لميانمار، نودّ أن نرى السلام والاستقرار"، مضيفةً أنها تأمل بـ"أن يتم الحفاظ على الآلية الديمقراطية والأحكام الدستورية في بورما". وبنغلادش غير مستفيدة من الوضع الجديد، خصوصاً أنّ قائد الجيش الجنرال مين أونغ هلينغ، متهم بفظائع ضد الروهينغا، الذين انتقل مئات آلاف اللاجئين منهم إلى بنغلادش.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)