تراجع القدرات الدفاعية للجيش البريطاني: إنه التقشف

03 فبراير 2023
من المقرر تقليص عديد الجيش البريطاني (فويتيك رادفانسكي/فرانس برس)
+ الخط -

لم يمض أسبوعان على قرار رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إرسال دبابات "تشالنجر 2" إلى أوكرانيا "لتعزيز المجهود الحربي للبلاد"، حتى سرّبت "سكاي نيوز" خبراً مفاده أن الجيش البريطاني "لم يعد قوة دفاعية عالية المستوى" بعد أن فقد قدراته القتالية المعتادة.

وجاء الخبر نقلاً عن جنرال أميركي رفيع المستوى كان قد حذّر بشكل سري، في الخريف الماضي، وزير الدفاع البريطاني بن والاس، من أن الجيش البريطاني فقد مكانته كقوة دفاعية من المستوى الأول، وأنه بالكاد يكافح للبقاء في موقعه كقوة من الدرجة الثانية، كما هو حال ألمانيا أو إيطاليا.

من جهته، اعترف والاس، الثلاثاء الماضي، بتلك المخاوف، مؤكّداً أن "الجيش البريطاني تخلّف عن نظرائه" وأنه بحاجة ماسة إلى "إعادة الهيكلة والرسملة والاستثمار".

ومنع ذلك سجالاً محتملاً بين الجانبين الأميركي والبريطاني، حيث لم يجادل أيّ من والاس أو سوناك في صحّة تلك المزاعم، حتى لو أكّدا أن "الحكومة تضمن لقواتنا المسلحة المعدات التي تحتاجها لمواجهة تهديدات الغد".

تحذير من إرسال "تشالنجر" إلى أوكرانيا

وكان رئيس الأركان في الجيش البريطاني الجنرال باتريك ساندرز قد حذّر، الشهر الماضي، من تداعيات قرار الحكومة إرسال 14 دبابة "تشالنجر 2" إلى أوكرانيا، ما سيضعف القدرة الدفاعية للجيش البريطاني بشكل مؤقّت. لكنه اعتبر، في الوقت ذاته، أن مساعدة أوكرانيا عسكرياً على هزيمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستجعل المملكة المتحدة أكثر أماناً، مشدّداً على "الحاجة الحيوية" لاستعادة القدرة القتالية لجيشه.

حذر رئيس الأركان البريطاني من تداعيات إرسال دبابات "تشالنجر 2" إلى أوكرانيا

وتعتقد "سكاي نيوز" أن تصريحات ساندرز، التي جاءت في رسالة موجّهة للجيش، ترمي بين سطورها للضغط على وزارة المالية لتقديم مزيد من التمويل والدعم.

ومع أن بريطانيا محمية بمبدأ الدفاع الجماعي كعضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، إلا أن هذه الخطوة ستؤثر، بحسب ساندرز، على "قدرتنا على تعبئة الجيش ضد التهديد المستمرّ الذي تمثّله روسيا"، لكنه اعتبرها، في الوقت ذاته، فرصة "لتسريع عملية تحديث الجيش".

من جهته، قال سوناك، الإثنين الماضي رداً على أسئلة الصحافيين المتعلقة بـ"التقارير المقلقة حول قدرتنا الدفاعية"، إنه "عندما يتعلق الأمر بجيشنا وبقواتنا المسلحة، يتعين علينا أن نشعر بالفخر مما أنجزناه لدعم أوكرانيا"، مشيراً إلى أن الحكومة قامت بزيادة التمويل بشكل قياسي عندما كان وزيراً للمالية في حكومة بوريس جونسون.

وكان جونسون قد رفع بالفعل الإنفاق الدفاعي بمقدار 16 مليار جنيه إسترليني (الجنيه يساوي 1.23 دولار)، وهو أكبر ارتفاع منذ انتهاء الحرب الباردة، إلا أنه لم يكن كافياً لسدّ الفجوات والنقص الهائل الذي شهده الجيش والقوات المسلّحة.

انخفاض نسبة الإنفاق الدفاعي

يُذكر أن نسبة الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا قد انخفضت إلى النصف منذ ثمانينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى عدد الأفراد، الذي انخفض من 871700 في العام 1952 إلى 149280 العام الماضي، بينهم 76 ألف جندي فقط، ومن المقرر أن تتقلص تلك الأرقام في إطار الخطط الحالية.

وكانت نهاية الحرب الباردة في العام 1991 أدت إلى تقليص نطاق الالتزامات العسكرية الخارجية، فانخفض الإنفاق من 5.5 في المائة من الناتج المحلي عام 1948 إلى 2.2 في المائة في العام 2004. ومنذ ذلك الحين، تراوح الإنفاق بين 2.5 و2.1 في المائة، فيما بلغ 2.3 في المائة في 2020. ولم تخرق المملكة المتحدة، العضو في "الناتو"، تعهّد 2 في المائة الخاص بحلف شمال الأطلسي سوى مرتين، بين 2015 و2016 وبين 2017 و2018، عندما لم تنفق ما يزيد عن 1.9 بالمائة.

وليست المؤسسة العسكرية معزولة عن المعطيات السياسية والاقتصادية التي تعيشها المملكة المتحدة مع الحكومات المتعاقبة لحزب المحافظين.

وحتى وإن ظلّ الإنفاق الدفاعي ثابتاً خلال السنوات الأخيرة، بسبب تعهّد الحكومة، كعضو في "الناتو"، بإنفاق ما لا يقل عن 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، إلا أن "سكاي نيوز" نقلت، في 30 يناير/كانون الثاني الماضي، عن خبراء عسكريين قولهم إن ذخائر القوات المسلحة ستنفد في غضون أيام إذا طلب منها القتال، كما أن المملكة المتحدة تفتقر إلى القدرة على الدفاع عن سمائها في وجه الضربات بالصواريخ والطائرات من دون طيار التي تواجهها أوكرانيا.

أدت نهاية الحرب الباردة إلى تقليص نطاق الالتزامات العسكرية الخارجية

ويؤكّد الخبراء أن الأمر سيستغرق من 5 إلى 10 سنوات حتى يتمكن الجيش من نشر فرقة قتالية، قوامها بين 25 و30 ألف جندي، مدعومة بالدبابات والمروحيات والمدافع، هذا عدا عن أن نحو 30 في المائة من القوات البريطانية ذات الاستعداد العالي هي من جنود الاحتياط غير القادرين على التعبئة ضمن الجداول الزمنية الخاصة بحلف "الناتو".

وتم بناء غالبية أسطول المركبات المدرعة للجيش، بما في ذلك الدبابات، قبل 30 إلى 60 سنة، ولم يخضع لعملية استبدال كاملة منذ سنوات طويلة. كما أن معدّاته شهدت انخفاضاً في السنوات الأخيرة، وفقاً لبيانات وزارة الدفاع.

ومع أن بريطانيا حافظت أيضاً على معيار حلف شمال الأطلسي القاضي بتخصيص 20 في المائة من ميزانيتها للدفاع للمعدّات، إلا أن عدد المركبات القتالية المدرعة، مثل الدبابات، شهد انخفاضاً بنسبة 5 بين 2016 و2020، والمدفعية بنسبة 2 في المائة، والطائرات نسبة 10 في المائة، في حين أن عدد الطوافات شهد انخفاضاً بنسبة 24 في المائة في الفترة الزمنية نفسها.

ملفات خلافية بين الحكومة والمعارضة

وإلى جانب ملفات أخرى كثيرة، يشكّل ملف الدفاع مسألة خلافية بين الحكومة الحالية ومعارضيها، خاصة من حزب العمال، وسط تراشق للاتهامات وتهرّب من المسؤولية.

وتملّص والاس، في جلسة استماع أمام البرلمان بداية الأسبوع الحالي، من مسؤولية الحزب الحاكم عن التردّي الكبير في قطاعات حيوية هامة، لا سيما الجيش والقوات المسلحة، داعياً الحاضرين إلى الاستماع لقدامى المحاربين في المقاعد الخلفية وهم يروون تجاربهم في ظل حكومة "العمال".

وردّ وزير الدفاع في حكومة الظلّ العمّالية جون هيلي بالقول إن حزبه ترك السلطة عام 2010، وتعداد الجيش كان يفوق 100 ألف جندي بدوام كامل، والإنفاق الدفاعي كان يبلغ 2.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، محمّلاً المسؤولية كاملة لحزب المحافظين الموجود في السلطة منذ 13 عاماً.

وكان والاس نفسه قد زار، برفقة قائد القوات المسلحة الأدميرال طوني راداكين، مقرّ رئيس الحكومة في "داونينغ ستريت" بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي، ليبحثا مع سوناك "الحاجة الماسة" لتخصيص ميزانية تمويل جديدة للجيش، لا سيما مع تصاعد خطر الحروب البرية في أوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى التهديدات المتزايدة من الصين وكوريا الشمالية وإيران، والتي حُدّدت، العام الماضي، في استراتيجية الدفاع البريطانية.

تمسك سوناك بفرض القيود على الإنفاق

إلا أن سوناك يصرّ على التمسك برؤيته الاقتصادية الرامية إلى فرض المزيد من القيود على الإنفاق، وهي سياسة تؤدي اليوم إلى موجة غير مسبوقة من إضرابات القطاع العام التي تشلّ قطاعات حيوية، كالنقل العام والتعليم والصحة.

كما أنه رفض التعهدات التي تقدمت بها رئيسة الحكومة السابقة ليز تراس برفع الإنفاق الدفاعي من 2 إلى 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ومع أن والاس تعهّد أمام البرلمان، نهاية العام الماضي، بحماية الإنفاق الدفاعي من التضخم، إلا أنه لا معلومات متوفّرة عن خطط الحكومة للسنوات المقبلة.

ذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" أن المملكة المتحدة لديها سجل ضعيف في شراء أنظمة أسلحة جديدة

وإلى جانب التضخم وتداعيات جائحة كورونا ثم الغزو الروسي لأوكرانيا واستجابة بريطانيا عبر إرسالها "العدة والعتاد"، تشير صحيفة "فايننشال تايمز"، في تقرير عسكري أجرته قبل أشهر، إلى أن المملكة المتحدة لديها "سجل ضعيف في شراء أنظمة أسلحة جديدة"، وأن "عملية الشراء معطلة تماماً"، في حين أن بلداناً أخرى تنجز تلك السياسات بشكل أفضل وأسرع وأرخص، مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا.

المعدات العسكرية الجديدة غائبة تماماً

وأضافت الصحيفة أنه بالرغم من إنفاق نحو 20 مليار جنيه إسترليني على المعدات خلال العقد الماضي، إلا أن المعدات الجديدة غائبة تماماً. يضاف إلى ذلك أن الميزانيات التي تخصّصها الحكومة لتطوير الجيش وشراء المعدات خلال العقد المقبل، لا تتفق مع التضخّم المرتفع وضعف الجنيه الإسترليني.

بالضبط كما هو حال تسوية الرواتب التي حصلت عليها القوات المسلحة العام الماضي، والتي كانت أقل من التضخم بنسبة 3.75 في المائة، أي أقل مما حصل عليه المعلمون المضربون اليوم ومعظم العاملين في خدمة الصحة الوطنية المضربين أيضاً.

وسط كل تلك الفوضى التي تعيشها حكومة المحافظين، من آثار التضخّم إلى غلاء المعيشة وارتفاع أسعار الوقود والطاقة وحركة الإضرابات الأكثر اتّساعاً منذ عقود، يجرى أيضاً استدعاء الجيش والاستعانة به لسدّ الفجوات.

وسبق لحزب العمال المعارض أن اتّهم الحكومة بالإساءة إلى استخدام النظام التشريعي، الذي يتيح لوزير الدفاع أو لأي وزير آخر استدعاء الجيش في وقت الأزمات، وعندما تغيب أي خيارات أخرى.

وكانت الحكومة أعلنت، منذ نهاية العام الماضي، خطّتها لتدريب أكثر من 600 جندي لسدّ الفراغ في قطاعات الصحة والهجرة والإطفاء والإسعاف وغيرها، في الوقت الذي تشكو فيه القوات المسلحة من انخفاض عدد أفرادها بأكثر من 10 في المائة منذ 2012، مع توقّع إجراء المزيد من التخفيضات في السنوات القليلة المقبلة.

ومع أن الحكومات تستعين عادة بالقوات المسلحة عند الحاجة إليها، إلا أنه من الناحية القانونية، لا يتحمل الجيش أي مسؤولية في التصدي للأزمات المدنية التي تكون عادة من اختصاص السلطات المحلية والخدمات الصحية والشرطة.

استدعاء الجيش لإرساء الأمن

ويعتقد حزب العمال المعارض أن الأمور بدأت تتغير في عهد رئيس الوزراء الأسبق المحافظ ديفيد كاميرون، عندما استدعى القوات المسلحة عام 2012 لإرساء الأمن وملء المقاعد الشاغرة في الأولمبياد، بعد أن ارتكبت الشركة المقاولة الخاصة "G4S" خطأ أدى إلى الاستغناء عنها.

وبعدها ببضعة سنوات، ضربت المملكة المتحدة موجة من الأمطار والسيول والفيضانات، فعبّر كاميرون عن دهشته قائلاً: "إننا نتعامل مع فيضانات مروّعة، لماذا ما يزال الجنود في ثكناتهم؟". ثم لعبت الجائحة دوراً أساسياً في تسريع وتيرة الاعتماد على الجيش والقوات المسلحة، عندما جرى استدعاء الجنود في عملية أطلق عليها اسم "عملية الإنقاذ"، حيث وضعت وزارة الدفاع 20 ألف قطعة عسكرية على أهبة الاستعداد مع بناء وحدات الطوارئ والفحص، ثم توزيع اللقاحات.

يبقى أن ميزانية المملكة المتحدة للدفاع هي الأعلى بين الدول الأوروبية، واستجابتها للغزو الروسي هي الأسرع والأكبر بعد الولايات المتحدة، لكن التحذيرات والمخاوف، التي عبّر عنها الجنرال الأميركي رفيع المستوى، تبقى ربما أجمل ما وصل إلى مسامع بوتين خلال السنة الأخيرة.

المساهمون