12 ابريل 2022
+ الخط -

منذ اليوم الأول لاجتياح أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط، تحمّل المدنيون وطأة الهجوم الروسي على بوتشا، الواقعة على بعد أميال قليلة إلى الغرب من العاصمة كييف، حيث أطلقت القوات الخاصة الروسية التي كانت تسير على الأقدام عبر الغابة النار على السيارات والمدنيين، فقتلت امرأة في حديقتها.

غير أن "هذه الأعمال الوحشية المبكرة لا تقارن بما حدث بعد ذلك"، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.

ومع إعاقة تقدّم القوات الروسية نحو كييف، بسبب المقاومة الشرسة، مارست القوات الروسية "حملة من الانتقام" في بوتشا. وعندما انسحبت القوات الروسية "المهزومة والمحبطة" أخيراً؛ تركت وراءها فاجعة كبيرة: جثث مدنيين متناثرة في الشوارع وفي الأقبية والحدائق المنزلية، وكان العديد منهم مصابين بطلقات نارية في رؤوسهم، وبعضهم مقيدو اليدين خلف ظهورهم.

"نيويورك تايمز" الأميركية أرسلت فريقاً من المصورين والصحافيين إلى المدينة، حيث أمضوا أكثر من أسبوع مع مسؤولي المدينة والمحققين وعشرات الشهود، ونشرت الإثنين تقريراً مطولاً عن المجزرة، موثقاً بالعديد من الصور المفجعة التي التقطها الفريق للفظائع التي ارتكبت في المدينة، حيث تشير الأدلة إلى أن الروس قتلوا المدنيين بـ"سادية وبدافع الانتقام".

لقد قتلت القوات الروسية "مدنيين آمنين يقومون بأبسط الأنشطة اليومية"، وفق المصدر ذاته، حيث تم إطلاق النار على العمة ليودا، وهي معلمة متقاعدة، وتم العثور على جثتها بعد أكثر من شهر، أمام باب منزلها. كما ماتت شقيقتها الصغرى نينا، التي كانت تعاني من إعاقة نفسية وتعيش معها، وتم العثور عليها في المطبخ، من دون أن يتضح سبب وفاتها.

رومان، 43 عاماً، وشقيقه سيرهي، 46 عاماً، أرسلا عائلتيهما بعيداً مع اشتداد القصف، وأصرّا على البقاء في مدينتهما. لاحقاً تم العثور عليهما مقتولين في فناء المنزل، مع جثة رجل مجهول ألقي بجانبهما.

تهديد مستمر من القناصين

بوتشا هي واحدة من أكثر الضواحي المرغوبة في كييف، فهي تقع بين غابات شجر التنوب والنهر، وتضم مراكز تسوّق حديثة ومجمعات سكنية جديدة، بالإضافة إلى أكواخ صيفية بين الحدائق والأشجار، وكان للكاتب والروائي الروسي ميخائيل بولغاكوف منزل صيفي فيها.

بعد أيام من توغل القوات الروسية في المدينة، هاجم الجيش الأوكراني رتلاً للغزاة، وأحرق أكثر من 20 آلية روسية، فاحترق عدد من المنازل، وفرّ الجنود الروس حاملين جرحاهم عبر الغابة. وما هي إلا أيام قليلة حتى وصلت التعزيزات الروسية، حيث أنشأت قاعدة لها في مجمع سكني خلف المدرسة الثالثة، وهي مدرسة ثانوية رئيسة، ونشروا قناصاً في مبنى مرتفع لا يزال قيد الإنشاء.

في تلك الفترة، كان سكان بوتشا يحتمون من القصف الصاروخي والمدفعي الروسي، وكثير منهم ينام في الأقبية والملاجئ، لكن بعضهم غامر بالخروج من وقت لآخر للحصول على المياه أو إلقاء نظرة على الأضرار. كان القصف متقطعاً، وجزء كبير من نيران المدفعية الروسية كان يمر فوق رؤوسهم باتجاه بلدة إربين المجاورة.

في 4 مارس/آذار، انطلق فولوديمير، 50 عاماً، سيراً على الأقدام حوالي الساعة الخامسة مساءً، ليحضر الخبز من الجيران الذين كانوا يخبزون في المنزل، ورغم مطالبة والدته وشقيقه إياه بعدم الذهاب، ولكنه أصرّ، بحسب ما تروي الوالدة المفجوعة لـ"نيويورك تايمز". في تلك اللحظة مرت سيارات روسية على طول الطريق، وفجأة سُمع صوت طلقتين ولم يعد فولوديمير، في اليوم التالي وجدوه ميتاً في الشارع.

في 5 مارس/آذار، بدأ قناص روسي بإطلاق النار على أي شيء يتحرك في محيط المدرسة الثانوية. في ذلك الصباح قتلت العمة ليودا، وبعد ظهر ذلك اليوم خرج إيفان وابنه من منزلهم، فقتل ابنه. يقول إيفان: "كان بجانبي، أتمنى لو أنهم قتلوني بدلاً عنه". ويضيف: "بقي يعاني طوال الليل وتوفي في الساعة 8:20 صباحاً". ودفنته الأسرة في حديقة المنزل، يقول الأب: "من الصعب جداً دفن ابنك... لا أتمنى ذلك لألد أعدائي".

وسرعان ما أصبحت المنطقة واحدة من أكثر المناطق فتكاً بالمدنيين العابرين. وقد أظهرت صور الأقمار الاصطناعية أنه بحلول 11 مارس/آذار كان هناك ما لا يقل عن 11 جثة ملقاة في الشوارع والأرصفة.

لاحقاً، بدأت القوات الروسية بتفتيش المنازل، وأمرت السكان بعدم الخروج. يقول فاليري، 42 عاماً: "كانوا يذهبون إلى المنازل واحداً تلو الآخر". وقد حذره قائد روسي من الخروج إلى الشارع، قائلاً: "لدينا أوامر بإطلاق النار".

صادر الجنود الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر. وأمروا العائلات بمغادرة منازلهم القريبة من المدرسة، والذهاب إلى روضة أطفال قريبة.

تقول تيتيانا، 65 عاماً: "أعطوني عكازي وطلبوا مني المغادرة"، ولاحقاً استخدم الجنود إحدى الغرف كمرحاض. تقول: "لقد سرقوا كل شيء".

ومع وصول المزيد من القوات، قاد الجنود عرباتهم المدرعة مباشرة إلى حدائق الناس، وسحقوا البوابات والأسوار المعدنية، وتمركزوا في الشوارع.

بوتشا

اعتداءات جنسية واغتصاب جماعي

فرّ فولوديمير شبيتكو، 66 عاماً، إلى إحدى المدارس، مع زوجته عندما اخترقت مركبة مدرعة روسية السياج الخلفي لحديقتهم. وفي 9 مارس/آذار، حاول شبيتكو الوصول إلى منزله لجلب بعض الطعام من المنزل، ووجد الجنود الروس يعيشون فيه. يصفهم لمراسل "نيويورك تايمز" بأنهم "جنود متعاقدون"، وهم غالباً ما يكونون من ذوي خبرة عسكرية، ولكنهم معروفون بارتكاب الانتهاكات والإفلات من العقاب. سأله الجنود عن "الفاشيين الأوكرانيين"، ثم طلبوا هاتفه المحمول وتركوه يذهب.

بعد انسحاب الروس، كان منزل شبيتكو منهوباً بالكامل، ومليئاً بالقمامة وزجاجات البيرة. وسرعان ما اكتشفت في قبو المنزل جثة امرأة عارية، ألقي عليها معطف من الفرو. كان الجثة مصابة برصاصة في رأسها، ووجدت الشرطة عدداً من أغلفة الواقيات الذكرية الممزقة حول الجثة، كانت الضحية ضحية اعتداء جنسي قبل أن يتم قتلها.

وتنقل "نيويورك تايمز" عن ليودميلا دينيسوفا، وهي مسؤولة أوكرانية في ملف انتهاكات حقوق الإنسان، إن تلك المرأة هي واحدة من حالات كثيرة، وإنه قد سُجّلت حالات مروعة للعنف الجنسي من قبل القوات الروسية في بوتشا وأماكن أخرى، بما في ذلك حالة تم فيها احتجاز مجموعة من النساء والفتيات في قبو منزل لمدة 25 يوماً، والآن هناك تسع نساء منهن حوامل.

وتتكهّن دينيسوفا بأن هذا العنف الجنسي "جاء انتقاماً من المقاومة الأوكرانية".

جلب الماء مغامرة قد تنتهي بالموت

كانت المدينة بدون كهرباء أو مياه أو غاز أو إنترنت منذ أوائل مارس/آذار، وكان الآلاف من السكان ما زالوا في منازلهم يعيشون في درجات حرارة متجمدة، وينامون بملابسهم تحت طبقات من البطانيات.

وتنقل "نيويورك تايمز" عن عمال الدفن، الذين جمعوا الجثث في أوائل إبريل/نيسان، أن "ستة أشخاص في منزل لكبار السن لقوا حتفهم من الجوع. كان البهو بارداً جداً، وكان أربعة من القتلى قد تجمعوا في غرفة مشمسة مطلة على الحديقة، وفي المنزل المجاور وجد العمال امرأة شنقت نفسها.

و"مع تقدم الحرب، ومرور الأيام، ازداد سلوك القوات الروسية بشاعة، وبدت بعض أعمال العنف وكأنها مصممة لإرهاب الناس، وكانت القوات الروسية تشك بشكل خاص في الرجال الذين هم في سن القتال، وغالباً ما كانت تتهمهم بأنهم أعضاء في قوات الدفاع الأوكرانية، قبل أخذهم للاستجواب"، وفق الصحيفة.

وتقول ناتاليا أولكساندروفا، وهي أخصائية بصريات متقاعدة، إن الجنود احتجزوا ابن أخيها، قائلين إنهم سيأخذونه ليومين للاستجواب. وبعد مغادرة القوات الروسية، وجده الجيران مقتولاً في أحد الأقبية، وقد أطلق عليه النار في أذنه.

في الأسبوع الأخير من شهر مارس/آذار، شنت القوات الأوكرانية هجوماً مضاداً لاستعادة الضواحي الشمالية الغربية للعاصمة كييف. اشتد القتال بشكل كبير في بوتشا، وبدأت الوحدات الروسية تستعد للانسحاب. ومن بين أعمالهم الأخيرة، كان إطلاق النار على معتقليهم، أو أي شخص آخر يعترض طريقهم. وفي أحد الشوارع، عثرت الشرطة فيما بعد على خمسة أفراد من عائلة واحدة، بينهم امرأتان وطفل، كانت جثثهم محترقة.

تم العثور على ما لا يقل عن 15 شخصاً مقتولين وأيديهم مقيدة في أماكن مختلفة حول المدينة، مما يشير إلى أن أكثر من وحدة روسية اعتقلت وأعدمت أشخاصاً. كما تم العثور على خمس جثث في قبو بمخيم صيفي للأطفال كانت الوحدات الروسية تستخدمه كقاعدة، إلى جانب جثث أخرى تم العثور عليها في مناطق متفرقة من المدينة.

في قرية موتيزين القريبة، لعب الانتقام دوراً أكبر في مقتل العمدة وزوجها وابنها، الذين عُثر عليهم مدفونين على أطراف القرية مع ثلاثة جثث أخرى، وقد ظهرت آثار التعذيب عليهم، حيث كسرت أصابع الابن وحمل وجه العمدة كدمات عديدة، "كان واضحاً أن ذلك حل" بهما قبل أن تطلق عليهما القوات الروسية الرصاص".

وفي روايات أكدها قائد عسكري محلي لمراسلي "نيويورك تايمز"، وصف السكان كيف أدى كمين أوكراني فجّر عربة مصفحة وشاحنة إمداد روسية إلى اندلاع أعمال عنف روسية استهدفت المدنيين.

يقول سيرهي بتروفسكي، وهو قائد وحدة محلية من المتطوعين، إن ناقلة جند مدرعة روسية نزلت في اليوم التالي إلى أحد الشوارع، وأطلقت النار بشكل عشوائي على المنازل بمدفع رشاش ثقيل، ولا يعرف عدد الجرحى أو القتلى الذين سقطوا في ذلك اليوم، لكن بعد رحيل الروس جُمعت 20 جثة من القرية وما حولها.

تحقيقات مستمرة لتحديد الجناة

في الأيام التي أعقبت استعادة القوات الأوكرانية السيطرة على بوتشا، بدأت الشرطة وعمال المقابر في جمع الجثث المنتشرة في كل مكان، ونقلوا أكياس الجثث السوداء في شاحنة بيضاء. وبحلول 2 إبريل/نيسان، كانوا قد جمعوا أكثر من 100 جثة، وبحلول يوم الأحد الماضي ارتفع العدد إلى أكثر من 360 جثة في منطقة بوتشا وحدها، كان بينهم 10 أطفال.

وفي مقابلة أجرتها "نيويورك تايمز" مع روسلان كرافشينكو، كبير المدعين العامين في بوتشا، يقول إنه من بين 360 جثة تم العثور عليها خلال نهاية الأسبوع الماضي في بوتشا ومحيطها المباشر، قُتل أكثر من 250 برصاص أو شظايا، كما مات كثيرون آخرون من الجوع والبرد ونقص الأدوية.

يتوقع كرافشينكو العثور على المزيد من الجثث مع استمرار الشرطة في البحث، ويقول إن هناك ما لا يقل عن 1000 حالة وفاة في الحرب في بوتشا والمناطق التابعة، الغالبية الساحقة من القتلى هم من المدنيين، وهناك اثنان فقط من أفراد الجيش الأوكراني بين القتلى في بوتشا، بحسب سيرهي كابليشني، المسؤول في مقبرة المدينة.

يقول سكان محليون ومحققون إن بعض أسوأ الجرائم، بما في ذلك التعذيب والاغتصاب وإعدام المعتقلين، ارتكبتها القوات المتمركزة في مصنع الزجاج في بوتشا. ويقول كرافشينكو إن المحققين عثروا هناك على جهاز قرص صلب لجهاز كمبيوتر تركه الروس وراءهم، يمكن أن يساعد في التعرف على الجناة.

ويضيف كرافشينكو: "لقد وضعنا بالفعل قوائم وبيانات بالجنود... تصل هذه البيانات إلى أكثر من 100 صفحة".

وتنقل "نيويورك تايمز" عن إيرينا فينيديكتوفا، المدعية العامة الأوكرانية، أن المحققين الأوكرانيين لديهم موارد هائلة من المنظمات والمواطنين والصحافيين الذين نشروا أكثر من 7000 مقطع فيديو وصورة. وتضيف: "تنتظرنا عملية تحديد هوية طويلة وشاقة".