تأتي وفاة الملكة إليزابيث الثانية في مقدمة الأحداث الهامّة التي شهدتها المملكة المتحدة خلال هذا العام، فاحتلّت حيّزاً كبيراً من المشهد السياسي والإعلامي والوجداني. ولم يكن تعبير ملايين البريطانيين عن خسارتهم لملكة حكمت البلاد لأكثر من 70 عاماً وأضحت فترة حكمها هي الأطول تاريخياً بعد لويس الرابع عشر، سوى تعبير باطني أيضاً عن خساراتهم المتراكمة طوال السنتين الماضيتين.
وجاء رحيل الملكة في الثامن من سبتمبر/أيلول، في سياق وضع قاتم عاشه البريطانيون منذ بداية عام 2022. فلم يكد يرحل عنهم خطر كوفيد-19، حتى نهضت أمامهم مخاطر جديدة أكثر استقراراً وأشدّ فتكاً، كغلاء المعيشة وتردّي الخدمات العامة وارتفاع أسعار الطاقة والضرائب ووصول التضخّم لمستويات قياسية. هذا ما جعل ربما تنصيب الملك تشارلز الثالث خلفاً لوالدته، فاتراً بعض الشيء وكأنه حدث عادي وسط أزمات حقيقية تشغل الناخبين وتنغّص عيشهم.
والسنة التي بدأت بإعلان هيئة الأرصاد الجوية عن تسجيل الأول من يناير/ كانون الثاني 16.2 درجة مئوية وهي الأعلى على الإطلاق، شهدت لاحقاً أكثر من 3 عواصف وحصدت العديد من الأرواح وتسبّبت بأضرار فادحة.
وكما كانت هذه السنة هي سنة الاضطرابات السياسية، شهدت المملكة تقلّباً هائلاً في أحوال الطقس نتيجة التغير المناخي بين الأمطار والسيول والعواصف، ثم الجفاف والحرائق، حيث وصلت درجة الحرارة في أحد أيام يوليو/تموز إلى 41 درجة مئوية متسبّبة بإعلان الجفاف على مساحات شاسعة من المملكة المتحدة المعروفة بخضرتها.
أما فوج إطفاء لندن الذي شارك في إخماد الحرائق، فأعلن في 19 يوليو أن فرق الإنقاذ لم تشهد هذا الازدحام منذ الحرب العالمية الثانية. ولم يكد ينتهي العام حتى شهدت بريطانيا موجات من الصقيع ودرجات متدنية من الحرارة وصلت إلى أربع درجات تحت الصفر خلال النهار، الأمر الذي لم تشهده بريطانيا منذ ما يقارب الثماني سنوات.
يُذكر في هذا السياق أن حكومات "المحافظين" المتعاقبة متّهمة أكثر من أي وقت مضى بتجاهل مخاطر التغير المناخي وبالتخلّي عن أي سياسات ووعود وخطط في هذا الملف. يُذكر أيضاً أن درجات الحرارة تدنّت في الوقت الذي يعجز فيه ملايين البريطانيين عن تدفئة بيوتهم بسبب فواتير الطاقة وإطعام أطفالهم بسبب غلاء المعيشة.
اللافت في هذا العام أيضاً هو سيطرة صفات التفضيل على العناوين العريضة في الصفحات الأولى. فكان زعيم "حزب المحافظين" ورئيس الحكومة السابق بوريس جونسون، أول رئيس وزراء يخرق القانون في تاريخ بريطانيا، وتصدر الشرطة بحقّه غرامة بعد التحقيقات التي أجرتها حول "حفلات داونينغ ستريت" وانتهاكه قانون الإغلاق، الذي أجبر الملايين على البقاء في بيوتهم لأشهر طويلة بقوة القانون.
وكانت ولاية ليز تراس، التي وصلت إلى "داونينغ ستريت" خلفاً له بعد فوزها على منافسها وزير المالية المستقيل ريشي سوناك، هي الأقصر على الإطلاق في تاريخ المملكة، إذ استقالت بعد 45 يوماً فقط، استجابة لمطالب حلفائها قبل أعدائها. أما التنصيب الأخير الذي قامت به الملكة إليزابيث الثانية قبل وفاتها بيومين فكان سابقة في فترة تولّيها العرش، إذ خلافاً لما جرت عليه العادة، عيّنت الملكة رئيسة حكومتها (ليز تراس) من قلعة بالمورال في اسكتلندا وليس من قصر "باكنغهام". ثم كان ريشي سوناك الذي فاز في ثاني سباق يخوضه إلى الزعامة، هو أول رئيس حكومة من أصول مهاجرة.
تضخم بلغ مستويات قياسية
هذا إضافة إلى التضخّم الذي بلغ مستويات قياسية هي الأعلى بين دول مجموعة السبع والأعلى أيضاً محلياً منذ العام 1982، بينما بلغت أسعار الطاقة حدّاً لم تبلغه من قبل. أما الإضرابات التي خاضها عمّال القطاعات الصناعية في المملكة المتحدة، فكانت الأعلى والأكثر اتّساعاً منذ السبعينيات، خاصة إضرابات السكك الحديدية والمواصلات العامة وعمّال البريد والإطفاء والتعليم.
يُضاف إلى ذلك إضراب موجع و"قاتل" خاضه الممرّضون والممرّضات في هيئة الصحة الوطنية NHS جنباً إلى جنب مع المسعفين والمسعفات، وهو الإضراب الأكبر منذ تأسيس الهيئة قبل 106 أعوام. وفي ملف الهجرة الشائك حالياً، عبر القناة الإنكليزية هذا العام أكثر من 45 ألف مهاجر على متن قوارب صغيرة، وهو الرقم الأعلى على الإطلاق منذ ما يقارب السنوات الخمس، ويبلغ ثلاثة أضعاف العدد الذي بلغه العام الماضي.
خطة رواندا
ومن الأحداث الهامة التي شهدتها المملكة أيضاً في الشهر الرابع من هذا العام، كان توقيع خطة رواندا المثيرة للجدل في الرابع عشر من إبريل/نيسان برعاية وزيرة الداخلية آنذاك بريتي باتيل وبدعم من رئيس الحكومة السابق بوريس جونسون.
وتقضي الخطة بترحيل طالبي اللجوء من بريطانيا إلى كيغالي وفق اتفاقية تبادل كلّفت الحكومة البريطانية 140 مليون جنيه إسترليني، وسط إدانة واسعة من المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومجموعة كبيرة من المؤسسات الخيرية والحقوقية.
إلا أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تدخّلت في اللحظة الأخيرة قبل إقلاع الطائرة الأولى في 14 يونيو/حزيران ومنعت عملية الترحيل "غير القانونية" و"التمييزية"، كما وصفتها.
وقبل نهاية العام بأسبوعين، أطلقت المحكمة البريطانية العليا حكمها النهائي في قضية رواندا، واعتبرت أن الترحيل قانوني. ولم تكن خطة رواندا التي دعمتها معظم الأطراف "المحافظة" في الحكومة، هي آخر ما أثار الجدل هذا العام بشأن المهاجرين، بل فضيحة مركز مانستون سيئ الصيت، والتي على الرغم من فداحتها لم تتسبّب باستقالة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان ولا أي مسؤول آخر. ما زال المركز الذي صمّم لاستيعاب 1600 مهاجر كحدّ أقصى، مزدحماً بعدما حشرت فيه الوزارة 4000 مهاجر وسط تفشي الأمراض المعدية، كالدفتيريا والجرب وغيرهما.
ولم يكن هذا العام بالنسبة للحزب الحاكم أفضل حالاً مما كان بالنسبة لملايين الناخبين. حيث عمّت الإخفاقات والخلافات الداخلية أروقة الحزب والحكومة وتسبّبت بالكثير من الهزائم في الانتخابات المحلية والانتخابات الفرعية مقابل صعود "حزب العمال" المعارض والأحزاب الأخرى كالديمقراطي الليبرالي.
لم يكن هذا العام بالنسبة للحزب الحاكم أفضل حالاً مما كان بالنسبة لملايين الناخبين
وليست سياسات جونسون المستهترة في ملفّات كثيرة هي السبب الوحيد وراء هذا التراجع الكبير الذي شهدته شعبية الحزب ولا تزال، بل أيضاً العقلية السائدة و"البالية"، على حدّ وصف المعارضين، حيث إن خطط كل المرشّحين لخلافة جونسون لم تكن على مستوى التطلّعات ولم تستجب للمطالب الواسعة بل اقتصرت على المصالح الشخصية والمحدودة. كل هذا وسط عدد من الفضائح الجنسية والأخلاقية والمهنية التي طاولت نوّاباً من الحزب.
يبقى أن المملكة المتحدة كانت سبّاقة في استجابتها للغزو الروسي على أوكرانيا، ولا تزال حتى اللحظة تدفع الثمن الأكبر بين غيرها من الدول الأوروبية من جراء تداعيات الغزو وارتفاع أسعار الطاقة والوقود والمواد الأساسية. إلا أنه وبالعودة إلى صفة التفضيل، بات جونسون هو الأول بين غيره من الزعماء، والوحيد ربما، الذي استفاد من الغزو الروسي لينجو من الفضائح المتلاحقة ومن التصويت على حجب الثقة الذي أعلن عنه رئيس لجنة 1922 غراهام برادي في السادس من يونيو، كما أن الزيارات "السرية" التي قام بها إلى أوكرانيا، جرت جميعها أثناء تورّطه في أزمات داخلية، ما لفت الأنظار لبعض الوقت عن أخطائه.