يؤمن الرئيس الأميركي جو بايدن بمقولة منظّري الحزب الديمقراطي أن الشباب الأميركي ليس مولعاً بالحزب "لكنه يعطيه صوته يوم الانتخاب". ويَأمن بايدن لفكرة أن ترشحه لولاية ثانية على قاعدة أنه الأقل سوءاً بينه وبين دونالد ترامب، الذي قد يعود لمنافسته في العام المقبل، قد تمنحه زخماً لدى جيلين من الأميركيين على الأقل، هما الأصغر سنّاً وباتوا يصوتون بكثافة للحزب الديمقراطي بحسب استطلاعات الرأي. لكن هذا الاطمئنان لم يعد مضموناً للرئيس كما تشير التوقعات، إذ بينما تزداد الفجوة العمرية اتساعاً بين الرئيس الحالي والناخبين الأميركيين الشباب، وخصوصاً الجيل الذي يعرف بـ"جيل زد"، يزداد أيضاً الابتعاد السياسي بين الطرفين، بعدما صوّت هذا الجيل بكثافة لبايدن في 2020، نكايةً بترامب.
وأدّت حرب غزة إلى تفاقم الوضع بين بايدن وناخبيه الشباب. فللمرة الأولى يضع هؤلاء القضية الفلسطينية في سلّة واحدة مع مشاغل انتخابية تؤثر على رأيهم العام، مثل تغير المناخ. وإذا كان الأمر يعود إلى عوامل عدة، من بينها عدم بذل الإسرائيليين هذه المرة أي عناء لإخفاء عقيدتهم العسكرية المتوحشة، ولو من باب كسب الرأي العام، وكسب الفلسطينيين في المقابل نقطة في معركة الوعي، فإن هذا التحول الذي يحصل بدرجات متفاوتة لدى الشباب الأميركي، قد يأتي أُكله في صناديق الاقتراع ويساهم في تبديل المعادلات. فبينما تشيخ فئة أميركية، هرمت على دعم إسرائيل، يبرز جيل شاب أكثر حذراً من دولة الاحتلال، يدرك أن بايدن ينفخ في سردية مزيّفة طمعاً بمنح "دولة حليفة" صورة انتصار.
صوّت جيلا زد والألفية بكثافة في 2020 و2022، ومنحت أغلبية منهما أصواتها للديمقراطيين
وإذا لم يؤخذ بالحسبان ما سيكون عليه تصويت الناخبين المسلمين في الولايات المتحدة، أو الأقليات "الملونة" والأميركيين من أصول أفريقية أو التقدميين ومنهم يهود أميركيون رافضون للحرب، في 2024، فإن الاستياء من بايدن، بسبب أدائه في حرب غزة، جاء من طائفة الشباب الأميركي، الذي ندّد بعملية حركة "حماس" في مستوطنات غلاف غزة، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وفي الوقت ذاته بمنح إسرائيل شيكاً على بياض لارتكاب حرب إبادة جماعية بحق الغزّيين الأبرياء.
ويعتبر "جيل زد"، إلى جانب جيل الألفية (Millenials)، الذي صوّت بكثافة لباراك أوباما في 2008 و2012، الرافعة التي سمحت لبايدن بدخول البيت الأبيض في 2020، حيث أن تصويتهما غير المسبوق قبل ثلاثة أعوام ثم في الانتخابات النصفية في 2022، بحسب الإحصاءات، سمح بصدّ الجمهوريين بعد 4 سنوات من حكم ترامب.
و"جيل زد"، هم المولودون بعد عام 1997، أما جيل الألفية، فهو المولود بين 1981 و1996. وفي العموم، فإن جيلي "زد" والألفية، تصوّت أغلبية واسعة منهما للديمقراطيين، فيما يعرف جيل طفرة الإنجاب (baby boomers- المولودون بين 1946 و1964)، والجيل الصامت (silent generation- المولودون بين 1925 و1945)، بتصويتهم بكثافة للجمهوريين. وهنالك أيضاً جيل "إكس"، المولود بين 1965 و1981، وهؤلاء أصبحوا محافظين أكثر خلال السنوات العشر الماضية، بحسب إحصاء لشبكة "أن بي سي"، نشرته في يناير/ كانون الثاني الماضي.
وجاءت حرب غزة لتوسع الشرخ بين جيلي "زد" والألفية، وبايدن، وهو شرخ كان يتنامى منذ بداية العام الحالي، مع إخفاق الرئيس في تلبية وعوده الانتخابية لهم، لتتوالى الصور الآتية من غزة، وترتفع معها الأصوات الشابة الداعية لوقف الحرب. وبدا ذلك جلياً في التظاهرات الحاشدة التي شهدتها مدن أميركية، مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس، حيث لم تكن الجاليات العربية والمسلمة وحدها التي افترشت الطرقات، فيما رسمت الجامعات الأميركية صورة ذكّرت بحراك الشباب الأميركي لإنهاء حرب فيتنام.
جيل الإنترنت والحقائق المُتاحة
لم تؤدِّ وسائل التواصل الاجتماعي وحدها دوراً لصالح التحول في الرأي العام الأميركي الشاب من مسألة القضية الفلسطينية، أو من حرب غزة التي هي استكمال لحروب إسرائيل على مدى عمر الصراع، بل أيضاً النزعة "الليبرالية" (أو التي تميل يساراً) للأميركيين ما دون الـ25 عاماً، ورفع هذا الجيل شعارات اجتماعية وسياسية تتمايز عن تلك التي ترفعها الأجيال السابقة، كحتمية حماية إسرائيل، وتلميع صورة الصهيونية.
وفي تقرير نشرته في 12 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، شددت صحيفة "واشنطن بوست" على أن قليلاً من العرب والمسلمين، وكذلك "الشباب الأميركي والليبراليين المعارضين للحروب"، لا يرون أي تعاطف من قبل بايدن تجاه الفلسطينيين، بينما وجد استطلاع لجامعة "كويبينياك" الأميركية، نشر في 16 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن 52 في المائة من الناخبين الأميركيين بين سنّي الـ18 والـ34، يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين. وفي استطلاع نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، الثلاثاء، بالتعاون مع جامعة "سيينا"، قال ثلاثة أرباع الناخبين الشباب بين سنّ الـ18 والـ28 (و57 في المائة من كل الأجيال) إنهم غير موافقين على سياسة بايدن في غزة، وقال معارضون للحرب، حتى، إنهم سيصوّتون لترامب الذي "قد يكون أفضل في إدارة هذا الصراع".
يعتبر المعارضون للحرب أن استمرارها بهذا الشكل سقطة أخلاقية للولايات المتحدة
وحصلت الانعطافة في وقت قياسي، بحسب شبلي تلحمي، مدير استطلاعات المسائل الحسّاسة في جامعة ماريلاند، والذي قال لصحيفة "ذا غارديان" البريطانية، الأسبوع الماضي، إنه "لم ير أبداً تغيراً أعمق لدى الشباب الأميركي في فترة قصيرة كالذي يراه حالياً".
وبدأت طائفة الشباب الأميركي الذي يصنّف نفسه ليبرالياً، تضع حرب غزة في سلّة واحدة مع مسائل تعتقد أن بايدن نكث بوعوده فيها أو أخطأ في معالجتها، مثل استعادة الديمقراطية والتقديمات الاجتماعية وتخفيف قروض الطلاب ومحاربة تغير المناخ وتفلت السلاح الفردي وتثبيت حق الإجهاض وتقييد صلاحيات الشرطة.
ويعتبر هؤلاء أن حرب غزة واستمرارها بهذا الشكل، رغم التنديد عموماً بهجوم حركة "حماس" في 7 أكتوبر، "سقطة أخلاقية" قوية للولايات المتحدة، وللرئيس الذي يكيل بمكيالين في ما يتعلق بأرواح المدنيين، ويسلّح إسرائيل بضرائب الأميركيين لترتكب جرائم حرب. وإذ تبدو مسألة حقوق الإنسان متقدمة في هذا الإطار، إلا أن الأمر وصل لمرحلة التمييز بين "المعتدي والمعتدى عليه" تاريخياً.
متعاطفون مع الفلسطينيين
منذ 7 أكتوبر الماضي، تنهال استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، مترافقة مع تحذيرات ديمقراطية من مغبة خسارة الانتخابات بسبب الموقف المتعنت للرئيس بايدن.
وأحدث استطلاع جامعة "كويبينياك" في 16 نوفمبر ضجة، بعدما أظهر أنه بين الناخبين الذين تراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة، فإن 52 في المائة يتعاطفون مع الفلسطينيين، فيما قال 20 في المائة فقط ممن أعمارهم بين 18 و34 سنة إنهم يوافقون على ردّ إسرائيل على هجوم "حماس". وكان الاستطلاع واضحاً في أن هنالك "فجوات جيلية كبيرة" في الإجابات، حيث إنه "بينما يعتبر الأميركيون بشكل واسع أن حماس أشعلت فتيل النار، إلا أن الدعم للرد الإسرائيلي المدمّر يتراجع كلما كان الناخبون أكثر شباباً".
وفي استطلاع لمجلة "ذا إيكونوميست" ومؤسسة "يوغوف" البريطانية، نشرت نتائجه في 8 ديسمبر، قال 33 في المائة من الناخبين الأميركيين الشباب بين 18 و29 عاماً إنهم يؤيدون مقاطعة إسرائيل ومنتجاتها، ووافق 32 في المائة منهم على أن إسرائيل هي دولة فصل عنصري.
ورأت مجلة "بوليتيكو" في 16 نوفمبر، أن الانقسام حول فلسطين وإسرائيل لدى الشباب الأميركي الأصغر سنّاً يمثل مشكلة للحزب الديمقراطي، لأن هذه الكتلة الانتخابية تعدّ حاسمة للحزب. وخرجت استطلاعات أخرى بخلاصات مشابهة، منها استطلاع لمعهد "هاريس" ومركز الدراسات السياسية الأميركية في هارفرد، أجري في الأسبوع الثاني من الشهر الحالي، ووجد أن 51 في المائة من الشباب الأميركيين الذين تراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً يعتقدون أن الحل للقضية الفلسطينية هو من خلال "إنهاء إسرائيل وتسليمها للفلسطينيين".
ويضع ذلك بايدن في وضع غير مريح انتخابياً، إذ سيشكل الناخبون تحت سنّ الـ45 حوالي نصف الناخبين في العام المقبل. وفي 2020، 61 في المائة من الناخبين تحت سنّ الـ30، و55 في المائة من الناخبين بين الـ30 والـ44 صوّتوا له، بحسب وكالة "أسوشييتد برس"، فيما صوّت 63 في المائة منهم للديمقراطيين في 2022، بحسب معهد "بروكينغر". وكان استطلاع لـ"أسوشييتد برس" ومركز "نورك"، في إبريل/ نيسان الماضي، قد وجد أن 25 في المائة فقط من الديمقراطيين تحت سنّ الـ25 سيدعمون بايدن مرة أخرى.
وخلص استطلاع لجامعة هارفرد نشرت نتائجه في 5 ديسمبر الحالي، إلى أن الأميركيين الشباب سيصوتون في خريف 2024 بأعداد أقل بسبب ترشح بايدن لولاية ثانية. ووضع مدير معهد هارفرد للسياسة سيتي وارن "الحرب في الشرق الأوسط" ضمن "مشاغل الشباب الأميركي التي تظهر جلياً". وقال استطلاع لشبكة "أن بي سي" نشر في منتصف الشهر الماضي، إن 70 في المائة من الأميركيين بين الـ18 و34 عاماً غير راضين عن إدارة بايدن في ما خص حرب غزة.
بول بيك: الخطر على بايدن هو أن يصوّت معارضوه لمرشح ثالث أو يمتنعوا عن التصويت
ولم تساهم سياسة بايدن وحدها في هذه النتيجة، بل أيضاً جنوح إسرائيل نحو اليمين المتطرف، وتعنتها في رفض حلّ الدولتين واستخدامها غير المتكافئ للقوة في وجه المدنيين. وفي الولايات المتحدة، جاء تنامي قوة التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، وتوالي وقائع وأحداث أزعجت الشباب الأميركي، منها نفوذ اللوبيات الصهيونية داخل بلدهم، ومدّ إسرائيل بالأسلحة المحرمة، أو مسائل أثارت الرأي العام الليبرالي، كالتواطؤ الأميركي مع إسرائيل وعرقلة محاسبتها، وصولاً إلى تصويت أميركا ضد وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، ليزيد هذا النفور.
وسبق حرب غزة استطلاع شمل أكثر من 10 آلاف ناخب أميركي، أجراه معهد "بيو" في مارس/ آذار الماضي، قال فيه 61 في المائة من الناخبين الأميركيين تحت سنّ الـ30 إنهم ينظرون إلى الفلسطينيين بتعاطف. وتحدثت مؤسسة "غالوب" في الشهر ذاته عن فروق بين الأجيال في النظرة للصراع، لافتة إلى أن 42 في المائة من الناخبين من جيل الألفية قالوا إنهم يتعاطفون مع الفلسطينيين.
"ليس باسمنا"
ويستفز بايدن "جيل زد" بتصلبه في دعم حرب إسرائيل، مقابل رفعه شعار حقوق الإنسان. ففي 7 نوفمبر الماضي، حذّر قادة مجموعات تقدمية ناشطة، منها "مارش فور أوير لايفز" (march for our lives)، و"يونايتد وي دريم أكشن" (united we dream action)، و"جين زد فور تشانج" (Genz for change)، بايدن، في رسالة مفتوحة، من أنه "لا يمكنك أن تربح السباق المقبل فقط عبر القول للناخبين إنك أقل الشرّين"، في إشارة لترامب، مضيفين "لأجل الفلسطينيين والإسرائيليين والضمير والإنسانية، عليك أن توقف دوامة هذا العنف"، مشددين على أنه "لا يمكننا أن نشرح موقفك لجيلنا".
وأكدوا أن "الشباب هو حجر الأساس لفوز تحالف ديمقراطي"، وأن "غالبية واسعة منهم في بلدنا مذهولون لرؤية هذه الفظاعات ترتكب بأموال ضرائبنا ودعمنا ودعم جيشنا". كما حذروا بايدن من أنهم "لم يمضوا وقتهم (في 2020) بالطرق على الأبواب لحثّ الناس من أجل التصويت لك، حتى تدعم في آخر المطاف مذبحة من هذا النوع".
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوهايو بول بيك، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الرئيس بايدن يواجه ردّ فعل من العديد من الناخبين الشباب الليبراليين بسبب دعمه لإسرائيل، رغم أن ردّ الفعل هذا يأتي بدرجات متفاوتة". ويضيف: "إنهم متعاطفون تجاه مأساة الفلسطينيين حتى ولو لم يكونوا جميعهم داعمين لهجوم حماس". وبرأيه، فإن السؤال هو "هل سيؤثر ذلك على خياراتهم الانتخابية في العام المقبل؟"، لكنه لا يرى أبداً هذا النوع "مصوتاً لترامب".
ويقول بيك إن "الخطر على بايدن هو أن يصوّتوا لمرشح ثالث أو يمتنعوا عن التصويت"، مرجحاً أن بإمكان الرئيس الديمقراطي "استرجاع أصوات عدد منهم حتى موعد الانتخابات"، ومعرباً عن اعتقاده بأن "بايدن بدأ يبدل لهجته حيال الحرب، ويعمل من خلف الكواليس من أجل وقف إطلاق النار". ويعتبر أستاذ العلوم السياسية أن الرئيس الأميركي في كل الأحوال "في موقف صعب" بسبب حرب غزة، "فبقدر صدمته من هجوم حماس، إلا أنه بدأ يغضب من الحرب التي لا تنتهي وعدد الضحايا المدنيين على يد الجيش الإسرائيلي".