في منتصف الطريق بين الانقلاب العسكري الذي أطاح في أغسطس/آب الماضي الرئيس المنتخب إبراهيم أبوبكر كيتا، والانتخابات العامة التي وعدت الطغمة العسكرية الحاكمة حالياً بإجرائها في فبراير/شباط 2022، شهدت مالي، أول من أمس الإثنين، الانقلاب الخامس في تاريخها منذ الاستقلال (1960)، وعلى أيدي فريق من العسكريين ذاتهم الذين أطاحوا الرئيس السابق قبل أشهر. وحتى الساعة، يبدو أن الخلاف يتمحور حول التعيينات التي جرت في حكومة مختار وان الثانية التي كشف عنها في اليوم ذاته، بعدما أطاح التعديل الحكومي وجهين رئيسيين من العسكر، اللذين كانا من أبطال الانقلاب الرابع، ما يعني أن الخلاف يدور بين الطغمة العسكرية نفسها. لكن الانقلاب، الذي حصل في أجواء شديدة التوتر تسود البلاد منذ فترة، لا سيما مع تصاعد الاحتقان الاجتماعي (إضراب نقابات عمالية) والسياسي، والضغوط التي تمارسها المعارضة على السلطات العسكرية، يجعل تحقيق هذه الأخيرة للوعود التي أغدقتها على البلاد وللمجتمع الدولي صعب المنال، وسط صراعها الداخلي الذي يؤكد تشبث العسكر بالحكم. ومن شأن أي انزلاق أكثر للأوضاع، أن يعمق الفوضى السياسية في البلاد، ويصّعب الجهود الأفريقية التي تبذل لاحتوائها. ويأتي ذلك مع تفاقم انعدام الأمن الإقليمي، بتعريض عملية مكافحة المتطرفين الموالين لتنظيمي "القاعدة" و"داعش"، شمالي البلاد، وفي المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، لخضّات كبيرة.
سبقت الانقلاب إطاحة جنرالين بارزين من الحكومة
وأقدم ضباط في الجيش المالي، مساء الإثنين، على اعتقال الرئيس الانتقالي، الكولونيل المتقاعد، باه نداو، ورئيس الحكومة المدني، مختار وان، ووزير الدفاع سليمان دوكوري، واقتيادهم إلى قاعدة كاتي العسكرية، شمال غرب العاصمة باماكو، وذلك بعد ساعات قليلة من فقدان شخصيتين عسكريتين نافذتين، هما وزير الأمن الداخلي الجنرال موديبو كوني، ووزير الدفاع الجنرال ساديو كامارا، لمنصبيهما، في التعديل الحكومي الذي أعلن عنه في اليوم ذاته. ولم تخرج تفسيرات حول سبب عزل كوني وكامارا، ولكن ذلك بدا مؤشراً حول انقسامات داخل الطبقة العسكرية، على الرغم من استمرار وان في إسناد حقائب رئيسية في حكومته الثانية، إلى شخصيات عسكرية، متحدياً الانتقادات الداخلية المتزايدة، لدور الجيش في حكم البلاد. وأعلن قائد الانقلاب، الكولونيل أسيمي غويتا، أمس، تجريد الرئيس ورئيس الوزراء الانتقاليين من صلاحياتهما، واتهامهما بمحاولة "تخريب". وكان الكولونيل غويتا قد قاد الانقلاب ضد كيتا العام الماضي.
ومما يشي به انقلاب أول من أمس، هو أن نداو ووان، اللذين أقسما اليمين الدستورية في سبتمبر/أيلول الماضي، قد حاولا التحرك منفردين، وتخطي سيطرة عسكريين بعينهم على مراكز أساسية. وقال مسؤول حكومي كبير سابق لـ"رويترز"، إن إطاحة الرجلين اثنين من أعمدة انقلاب أغسطس الماضي، كان خطأ كبيراً. وبرأيه فإن انقلاب أول من أمس الإثنين "يهدف إلى إعادة الوزيرين العسكريين إلى منصبيهما". وقال مسؤول عسكري في قاعدة كاتي للوكالة: "هذا ليس اعتقالاً. ما فعلاه (نداو ووان) ليس جيداً"، في إشارة إلى التعديل الحكومي. وأضاف: "سوف نعلمهم بذلك، ستتخذ قرارات بهذا الصدد". وأمس الثلاثاء، أكد مصدر مقرب من الجيش، لوكالة "فرانس برس"، أن الرئيس الانتقالي المالي ورئيس الوزراء، أمضيا ليلتهما الأولى في عهدة الجنود الذين اعتقلوهما، بعد اقتيادهما من منزليهما مساء الإثنين.
وكان نداو ووان قد تعهدا بالإشراف على فترة انتقالية إثر الإطاحة بكيتا العام الماضي، مدتها 18 شهراً، وإعادة الحكم إلى سلطة مدنية إثر انتخابات تشريعية ورئاسية مقررة العام المقبل، بحسب ما أعلنت السلطة الانتقالية في شهر إبريل/نيسان الماضي. وقبلت الطغمة العسكرية بهذه المدة الزمنية للمرحلة الانتقالية، على مضض، وتحت الضغط الأفريقي، إذ إنها كانت أعلنت أنها تفضل استمرار السلطة الانتقالية في مهامها ثلاث سنوات. وحول ذلك، شرح بيتر فام، المبعوث الأميركي السابق لمنطقة الساحل الإفريقي، لوكالة "رويترز"، أن الانقلاب الأخير "مؤسف لكن غير مفاجئ، فالاتفاق الذي تمّ التوصل إليه العام الماضي لم يكن مثالياً، لكنه عبارة عن حلّ وسط وافق عليه كل اللاعبين الداخليين والدوليين". ومن ضمن تعهدات السلطة العسكرية أيضاً، إجراء استفتاء في 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل حول تعديل للدستور، كان وُعد به منذ فترة طويلة ولم ينفذ حتى الآن، وتعديل القانون الانتخابي، وإعادة البحث في اتفاق الجزائر مع المتمردين في الشمال. وكانت حركة "إم 5" المعارضة دعت الشهر الحالي إلى حلّ المجلس الانتقالي، مطالبة بتشكيل هيئة "أكثر شرعية والتزاماً بالقانون". ورأى مراقب للشؤون المالية، في حديث لصحيفة "لوموند" الفرنسية، أنه "من خلال استبدال شخصيتين عسكريتين أساسيتين في انقلاب العام الماضي، بجنرالين أكثر اعتدالاً، فإن نداو ورئيس حكومته حاولا الموازنة داخل الجيش، في تحد كان هدفه مساعدتهما على تخطي وصاية الانقلابيين، وتهدئة العسكريين الذين كانوا على خلاف معهم".
تعهد العسكر بإجراء انتخابات عامة في فبراير المقبل
وكان أبوبكر كيتا أعلن استقالته إثر انقلاب العام الماضي، تحت الضغط، رافضاً "إراقة الدماء للبقاء في الحكم". وكان اقتيد أيضاً إلى قاعدة كاتي، التي تبقى مسرح معظم الانقلابات التي شهدتها البلاد. وأعلنت الطغمة العسكرية حينها، والتي نفذت الانقلاب، عن نفسها، تحت مسمى "اللجنة الوطنية لخلاص الشعب"، واعدة بانتقال سريع للحكم المدني.
وفي محاولة لتنفيس الأزمة المستجدة، توجه وفد من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، إلى باماكو، أمس، بحسب ما أكد بيان مشترك للمنظمة والأمم المتحدة (قوتها في مالي تحمل اسم مينوسما) والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا والولايات المتحدة. وقال البيان إن "المجتمع الدولي يرفض مسبقاً أي عمل يفرض بالقوة، بما فيه الاستقالات القسرية". وطالب الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي، الرئيس الكونغولي فيليكس تشيسكيدي تشيلومبو، أمس بـ"الإفراج الفوري وغير المشروط" عن المسؤولين المعتقلين. كما دعت الخارجية الأميركية إلى "الإفراج غير المشروط عن المحتجزين". ودعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس إلى الهدوء في مالي، والإفراج غير المشروط عن المعتقلين. ويرجح أن يعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا طارئا في الأيام المقبلة بشأن الوضع في مالي.
(العربي الجديد، رويترز، أسوشيتد برس، فرانس برس)