انتخابات فرنسا وسيناريو التعايش بين ماكرون وبارديلا

05 يوليو 2024
جوردان بارديلا، 30 يونيو الماضي (Getty)
+ الخط -

بقي قليل من الوقت، وتنجلي صورة الموقف في فرنسا، في ضوء نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية مساء الأحد المقبل، التي ستُحدد الطرف المؤهل لتسمية رئيس الوزراء الجديد. ورغم التضارب في التقديرات بشأن نتائج انتخابات فرنسا المنتظرة، تُجمع استطلاعات الرأي على حلول حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في المقدمة، ومن خلفه في المرتبة الثانية تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" الذي يجمع أطياف اليسار وأنصار البيئة، وفي المرتبة الثالثة تحالف "معاً" التابع للرئيس إيمانويل ماكرون.

وتوقع استطلاع أجرته شركة تولونا هاريس إنترآكتيف بشأن نتائج انتخابات فرنسا المرتقبة، ونشرته أول من أمس الأربعاء، فوز حزب التجمع الوطني بما يراوح بين 190 إلى 220 مقعداً فقط في البرلمان المؤلف من 577 مقعداً، وهو أقل بكثير من الـ289 مقعداً التي يحتاجها اليمين المتطرف للحصول على غالبية مطلقة وتشكيل حكومة بمفرده. وتوقع الاستطلاع أيضاً فوز تحالف "الجبهة الشعبية الجديدة" بما يراوح بين 159 و183 مقعداً، والمعسكر الرئاسي الوسطي بما بين 110 و135 مقعداً. وجاء ذلك بعد انسحاب مرشحين لصالح آخرين، لقطع الطريق على استمرار تقدم اليمين المتطرف. ومن أصل 311 دائرة كان يتوقع أن تشهد انتخابات في الدورة الثانية، إذ تأهل فيها ثلاثة مرشحين بعد الدورة الأولى التي فاز بها اليمين المتطرف، شهد ثلث هذه الدوائر انسحاب مرشحين من أحزاب اليسار واليمين الجمهوري ويمين الوسط لصالح بعضهم في عمليات تجيير أصوات، بهدف تعقيد وصول مرشحي التجمع الوطني.

سيناريوهات اليوم التالي

وفي ظل عدم الوضوح، هناك سيناريوهات عدة يطرحها الشارع الفرنسي عن اليوم الذي يلي انتخابات فرنسا التشريعية المبكرة، وأكثرها تداولاً احتمال حصول حزب التجمع الوطني على أكثرية نيابية، تؤهل مرشحه جوردان بارديلا (وهو رئيس الحزب) لدخول مقر الحكومة الفرنسية في قصر ماتينيون. وبينما تسود حالة قلق عام محلي وخارجي في حال تحقُّق هذا السيناريو، هناك شبه إجماع على عدم وضوح الصورة حول مستقبل التعايش بين رئيسي الدولة والحكومة، في ظلّ تشكل البرلمان الجديد من ثلاث كتل متنافرة، وحساسية القضايا التي تصدرت الجدل الانتخابي خلال ثلاثة أسابيع، ومنها الخاصة بأوضاع الهجرة، وحل الأزمة الاقتصادية، والحرب الكلامية بين اليمين المتطرف والأحزاب الأخرى التي تحالفت ضده، بالإضافة إلى ردود فعل فئات أخرى تعارض حكم اليمين المتطرف، كالنقابات العمالية والكنائس الإنجيلية وأوساط المثقفين.

من المرجح أن يسلك ماكرون سبيل المبارزة المفتوحة مع حزب التجمع الوطني

وفي حال تحقُّق هذا السيناريو أو لا، فإن ماكرون بات مجرداً من الأسلحة القانونية، وليس في وسعه أن يخوض مواجهة رابحة مع بارديلا أو غيره، بالاعتماد على فريقه البرلماني محدود العدد، وسيفقد بذلك الدور والتأثير من خلال البرلمان، ولن تكون يده طليقة خلال الأعوام الثلاثة الباقية من ولايته. ومن المرجَّح أنه سيسلك سبيل المبارزة المفتوحة مع حزب التجمع الوطني، الذي وصف الرئيس برنامجه الانتخابي بأنه "يقود إلى حرب أهلية".

ستكون السلطة التنفيذية في فرنسا ثنائية الرأس، موزعة بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة، ولكن الصلاحيات المطلقة في يد الرئيس، الذي يخوله الدستور رئاسة اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي، ولذا يمكنه أن يمارس لعبة التعطيل. وتوحي مواقف ماكرون وردود فعله، أنه سيسير في هذا الطريق كي يوصل رئيس وزرائه (إذا كان بارديلا) إلى الفشل، وهو بذلك يراهن على عدم خبرة بارديلا وحزبه في الحكم من جهة، ومن جهة أخرى، على المعارضة الحزبية والشعبية في فرنسا لليمين المتطرف.

وظهرت أولى البوادر في تصريح وزير الداخلية جيرالد دارمانان، الذي قال إنه في حال وصول بارديلا إلى رئاسة الوزارة بعد الدورة الثانية من انتخابات فرنسا الأحد المقبل، فإنه لن يتابع الإشراف على دورة الألعاب الأولمبية المقررة في باريس في الـ 26 من شهر يوليو/ تموز الحالي، وذلك بعد تحضيرات استمرت قرابة عامين. وستكون هذه المناسبة، في جميع الأحوال، أول امتحان لبارديلا وحكومته.

في الأحوال كافة، يختلف التعايش بين الرئاسة والحكومة في فرنسا، هذه المرة عنه في مرّات سابقة، كما حصل بين الرئيس فرانسوا ميتران ورئيس وزرائه جاك شيراك (1986 - 1988)، وبين شيراك ورئيس وزرائه ليونيل جوسبان (1997 - 2002). حصلت التجربة في الفترتين السابقتين، بين حزبين كبيرين ذوي حضور على ساحة الأحداث، متنافسين على الحكم، وبين شخصيتين على قدر كبير من التجربة في الحكم وإدارة المؤسسات، في حين أنها تحصل في هذه المرة بين رئيس لديه تجربة حكومية ومهنية، وسبعة أعوام في الرئاسة، ورئيس وزراء لم يسبق له أن مارس العمل، ولا يفقه شيئاً عن شؤون إدارة الدولة.

العامل الشخصي يلعب دوراً أساسياً، ويتوقف تقدم العمل الحكومي، وسلاسة عمل أجهزة الدولة، على مدى التفاهم بين رأسي الدولة، ولا يقلّ أهمية عن ذلك الإطار العام الذي تحصل فيه العملية، وهو في هذه الحالة يتسم بالتوتر الكبير، وهناك اتهامات توجه لماكرون، بأنه قام بعدد من التعيينات الحكومية في مناصب أمنية، خلال الأيام القليلة الماضية، تحسباً لخوض تجربة التعايش، التي يغلب الشك على نجاحها.

تبدو صورة مستقبل التعايش قاتمة، وهناك ملفات عدة ذات حساسية عالية، مثار اختلاف كبير بين الشخصين، يأتي على رأسها الوضع الداخلي، الذي هو من اختصاص رئيس الحكومة حسب الدستور. ورسم بارديلا ملامح فرنسا الجديدة قبل أيام من الجولة الأولى لانتخابات فرنسا التي أُجريت في الـ 30 من الشهر الماضي، وحدّد بعض الخطوط العريضة لخريطة طريق، تبدأ من إدخال تعديلات على الدستور، وسنّ قوانين جديدة تستهدف الفرنسيين من غير أصول فرنسية، لم يسبق لأي حكومة فرنسية سابقة أن قامت بها خلال الجمهورية الخامسة، التي أسّسها الجنرال شارل ديغول عام 1958.

وعلى هذا يجري الربط بين حكومة فيشي، التي حكمت فرنسا عام 1940 في ظل الاحتلال الألماني بقيادة الماريشال فيليب بيتان، وبين حزب التجمع الوطني الذي تأسس على قاعدة العداء للأجانب، والتأثر بالفكر النازي. ومن أوجه التشابه، اعتماد قوانين تمييزية ضد الأجانب. وبينما وقع التمييز على اليهود من قبل حكومة فيشي، سيُستهدَف العرب من قبل حكومة بارديلا، الذي أعلن صراحة أن الأولوية في الوظائف الإدارية العليا ستكون حصرية للفرنسيين فقط، ويُستثنى من ذلك الفرنسيون المجنَّسون. وفي حين أنه تراجع عن إلغاء ازدواج الجنسية الذي سبق أن طرحه، فإنه تعهد بإلغاء ما يُسمى "حق التراب"، الذي يمنح الجنسية للأجنبي المولود على الأراضي الفرنسية بعد أن يبلغ الـ18 عاماً. كذلك سيلغي من الدستور حق لمّ شمل العائلات، ويتخذ إجراءات استثنائية لترحيل مئات الآلاف تحت مبررات مخالفة قواعد الإقامة.

المتضرر الأكبر من حكم اليمين المتطرف بعد انتخابات فرنسا هما أوروبا والعالم العربي. وفي المقام الأول، لن تبقى سياسة فرنسا العربية تجاه الشرق الأوسط كما هي عليه اليوم في منطقة قريبة من التوازن، حيال الصراع العربي الإسرائيلي. وبحسب التصريحات المعلنة، ستقف حكومة بارديلا بانحياز تام إلى جانب اسرائيل. أما على مستوى العلاقة مع بلدان المغرب العربي، فمن المنتظر حصول سلسلة من الأزمات، وهناك مخاوف كثيرة بعد انتخابات فرنسا من وصول هذا الحزب إلى الحكم، ليس أقلها على مستقبل قرابة 6 ملايين من أصول مغاربية، يعيشون في فرنسا، أكثر من نصفهم يحمل الجنسية الفرنسية، مع الأخذ بالاعتبار أن هذا الحزب حصد أكبر نسبة من الأصوات، بفضل التمييز الهوياتي والإسلاموفوبيا.

المتضرر الأكبر من حكم اليمين المتطرف هما أوروبا والعالم العربي، وسيكون المستفيد الأكبر روسيا وإسرائيل

وفي رأي أوساط دبلوماسية عربية في باريس، سيكون المستفيد الأكبر من وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في فرنسا، روسيا وإسرائيل. ومن المعروف أن العلاقة متميزة بين زعيمة الحزب مارين لوبان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي استقبلها في الكرملين عام 2017، وسبق لها أن اقترضت في عام 2014 مبلغ 9.4 ملايين يورو من مصرف روسي من أجل تمويل نشاطات حزبها، وواجهت بسبب ذلك التحقيق من قبل لجنة برلمانية، والتنديد من عدة أطراف سياسية، اعتبرت ذلك قرضاً سياسياً، خلال ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم. وبخصوص إسرائيل، فإن مجريات الحملة الانتخابية أظهرت مدى الدعم والتأييد الذي حصل عليه حزب التجمع الوطني، من قبل الجالية اليهودية، التي دعا بعض رموزها إلى التصويت له، واعتبرت أنه تجاوز ماضيه المعادي للسامية، ورُمي ذلك على ظهر أحزاب اليسار في ائتلاف "الجبهة الشعبية الجديدة".

انتخابات فرنسا تقلق أوروبا

على المستوى الأوروبي، يجري النظر بقلق إلى بارديلا، وقد لخص ذلك موقف المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي قال: "أشعر بالقلق من انتخابات فرنسا... وآمل أن تنجح الأحزاب غير المحسوبة على مارين لوبان في الانتخابات". وبالنظر إلى العلاقات الفرنسية الألمانية المتميزة ثنائياً، وعلى المستوى الأوروبي، ستكون المرحلة المقبلة مختلفة كلياً، ومن المؤكد أنها لن تعرف مستوى التعاون الذي بلغته بين البلدين، وفي داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، الذي يتولى فيه الثنائي الألماني الفرنسي دور قائد القاطرة.

أحد مصادر القلق الأوروبي، تعهد بارديلا، بأن يوقف العمل باتفاقية شينغن، التي تُعَدّ أحد أركان الوحدة الأوروبية، لكونها قائمة على حرية حركة السلع والأفراد. والعكس من ذلك يعني فرض رسوم جمركية على دول الاتحاد، تحت مبرر دعم السلع الفرنسية في وجه المضاربة، وخصوصاً المنتجات الزراعية القادمة من إسبانيا بأسعار أقل. وتروج معلومات في الكواليس عن أن الخطوة الثانية ضد أوروبا ستكون عودة العمل بالفرنك الفرنسي، وهي العملة الفرنسية السابقة لليورو. وإذا نجح في ذلك، فإنه يوجه ضربة للأسس التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، ويفتح الطريق أمام قادة أوروبيين آخرين يشاركونه المواقف نفسها تجاه الوحدة الأوروبية، مثل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، أقرب حلفاء بوتين الأوروبيين. وعلى هذا، صارت بعض وسائل الإعلام الأجنبية تستخدم مصطلح "فريكست"، على غرار "بريكست" الخاص بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

مرشح الحقيقة كما وصف نفسه، يريد إصلاح فرنسا، وهو يثير بذلك حالة من الغضب والخوف في أوساط فرنسا القديمة، وكل الرسائل التي يرسلها في الآونة الأخيرة، تدور حول نقطة واحدة وهي "أنا لست خطراً". لكن بعض الفرنسيين لا يصدقون، ونسبة هؤلاء ليست قليلة، وإذا كانت قد تلقت فوزه بشعور من الخوف على مستقبل فرنسا، فإن المرجح أنها لن تقبل بأن يمر مشروع حزب التجمع الوطني، وهناك إشارة هامة ذات دلالة، وهي أن هذا الحزب حلّ في مرتبة متدنية في باريس، التي تقاسم النسبة الكبيرة من أصواتها "الجبهة الشعبية الجديدة"، وتيار ماكرون.

ستدفع فرنسا الفاتورة الأكبر للنزاع المفتوح بين الرئيس ورئيس الوزراء، الذي سيلقي بظلاله وآثاره السلبية على مصالحها في الداخل والخارج، ومن ذلك حضورها الدبلوماسي وصورتها ودورها على المستوى الدولي.


 

المساهمون