الهبّة في الداخل... الهبّة في فلسطين

30 مايو 2021
كثفت إسرائيل اعتقالاتها للفلسطينيين في الداخل (لورين فان ديرستوكت/Getty)
+ الخط -

تصدّرت المظاهرات والمواجهات في الأراضي الفلسطينيّة عام 1948، عناوين الأخبار وتحليلات المراقبين، حول المشاركة الشعبيّة الفاعلة خلال الهبّة الأخيرة في كل فلسطين. لطالما شارك فلسطينيو الـ48 في حراكات شعبيّة خلال أي عدوان إسرائيلي على الشعب الفلسطيني، إلا أن الهبّة الأخيرة كان لها زخم شعبي أكبر بسبب طبيعة المواجهات وامتدادها وشدّتها، في الوقت الذي اعتقدت فيه المؤسسة الإسرائيليّة أنها نجحت في تدجين عرب الداخل ضمن مشروع الأسرلة.

يأتي سياق الهبّة في الداخل كما في كل فلسطين دون أي خصوصيّة تختلف، إذ كانت قضية التطهير العرقي في حي الشيخ جرّاح والاعتداء على المسجد الأقصى المحرّك الرئيسي لهذه الهبّة، بحيث كانت لفلسطينيو الـ48 مشاركة فاعلة ومنذ الأيّام الأولى وقبل بدء العدوان على غزّة، في التواجد في مظاهرات حي الشيخ جرّاح من قبل مئات الشباب والنشطاء، بالإضافة للتواجد والرباط بالآلاف في المسجد الأقصى، وتعاملوا مع الشيخ جرّاح والمسجد الأقصى وغزّة كجزء من قضيتهم كشعب فلسطيني.

في أعقاب ذلك، انطلقت المظاهرات إلى البلدات العربيّة في الداخل بالذات بعد القمع في ليلة القدر، وكان لها مستويان من ناحية التنظّم؛ الأول حراك سياسي مُنظم من قبل حراكات شبابيّة ونسويّة وطلابيّة ولاحقًا حزبيّة ولجان شعبيّة، والثاني حراك شعبي عفوي. عكس المستوى الأول قدرة الناشطين من الجيل الشاب في وضع قضايا القدس على أجندة العمل والاحتجاج السياسي كقضايا جامعة، وخلق فضاء فلسطيني متحدٍ لسياسات الأسرلة وقادر على بناء شبكة تواصل مع كل فلسطين، بحيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًا في خلق هذا الفضاء وتجاوز الحدود الاستعماريّة المفروضة على الشعب الفلسطيني وتجاوز حدود السقف السياسي على مستوى الفعل مقارنة بما تقوم به الأطر السياسيّة التقليديّة عادة. بالإضافة إلى تراكم قدرات وخبرات تنظيميّة داخل هذه الحراكات الشبابيّة المتعددة، وهي حراكات بدأت تتشكل كظاهرة في العمل السياسي في الداخل في أعقاب الثورات العربيّة، وكانت ذروتها تنظيم حراك الاحتجاج على مخطط برافر وإسقاطه عام 2013. كما عكست قدرة الأطر التقليديّة فيما لو عملت بشكل جذري على إمكانية إنجاح التحركات الشعبيّة مثلما حصل في يوم إضراب الكرامة.

أما المستوى الثاني المتمثل في الحراك الشعبي والعفوي؛ فهذه ليست المرّة الأولى التي تتحول فيها الاحتجاجات إلى هبّة شعبيّة في أراضي الـ48، إذ نذكر محطتين فارقتين في تاريخ فلسطين: يوم الأرض عام 1976 ويمكن اعتباره أول هبّة شعبيّة في فلسطين بعد النكبة ارتقى خلالها ستة شهداء واًصبحت ذكرى مؤسسة في الوعي الفلسطيني الجمعي، وهبّة وانتفاضة القدس والأقصى عام 2000 التي امتدت لأسبوعين في الداخل وارتقى ثلاثة عشر شهيدًا من البلدات العربيّة. ما يميّز الحراك الشعبي هذا هو خروج جموع كبيرة من الناس إلى الشارع من شرائح مختلفة، قد لا يشارك قسم كبير منها في الاحتجاجات المنظّمة خلال باقي أيّام السنة. وهناك من يشارك لأول مرّة خصوصًا الأجيال الشابّة حتى القاصرين منها، بالإضافة إلى الاستعداد للمواجهة المباشرة والشرسة مع الشرطة الإسرائيليّة لساعات وبشكل يومي.

ما ميّز الهبّة هذه المرّة التي امتدت قرابة أسبوعين، وزاد من اشتعالها هو دخول جماعات المستوطنين الفاشيين بحماية الشرطة الإسرائيليّة إلى مدن فلسطين الساحليّة (ما تُسمى "المختلطة": عكّا، حيفا، يافا، اللد والرملة) والاعتداء على العرب وممتلكاتهم. في أعقاب هذا الهجوم المنظّم والموثّق بعشرات الفيديوهات والتي كان منها اعتداءات على عمّال عرب في بلدات إسرائيليّة إضافة لاستشهاد موسى حسونة في اللد بنيران مستوطنين جرى إطلاق سراحهم، بدأ يتشكل حس لدى أصحاب البلاد في هذه المدن بضرورة حماية أنفسهم بأنفسهم وبكافة الوسائل المتاحة في ظل هجمة تحريض مفتوحة في وسائل الإعلام الرسميّة الإسرائيليّة ومسؤولين ووزراء، حتى وصلت ذروة الحماية هذه إلى استخدام السلاح الناري في أكثر من بلدة وحادثة لصد هجوم المستوطنين برعاية الشرطة.

كان لاستخدام السلاح الناري بالنسبة للمؤسسة الإسرائيليّة ضوء أحمر يضيء في غرف المؤسسة الأمنيّة المنشغلة في قصف غزّة خوفًا من فقدان السيطرة بشكل كبير، الأمر الذي دفع بعض المسؤولين بحسب تقارير إسرائيليّة إلى التفكير في إنهاء العدوان على غزّة سريعًا بهدف التفرغ "للفوضى" في الداخل. ولوحظ في أعقاب هذه الحوادث توقف دخول جماعات المتطرفين المحميين من الشرطة إلى مدن الساحل، وبدء الشرطة في زيادة قمعها للمتظاهرين السلميين بشكل أكبر ودخول الشاباك على الخط، ليصل عدد الاعتقالات إلى أكثر من ألف شخص خلال أسبوع واحد فقط، رافقته اعتقالات من داخل المنازل بشكل ترهيبي (منهم من لم يشارك في مظاهرات) واعتداء انتقامي على المعتقلين بعد اعتقالهم بحسب عشرات القصص التي ترويها طواقم المحامين المتشكّلة تطوعًا للدفاع عن المعتقلين، إضافة إلى استشهاد الشاب محمد كيوان من أم الفحم بنيران الشرطة.

في أعقاب انتهاء العدوان على غزّة وعودة حالة الهدوء إلى الشارع وتوقّف المظاهرات، أعلنت الشرطة الإسرائيليّة أنها سوف تعتقل 500 شخص إضافي وبدأت في ذلك، بحجة ملاحقة مثيري الشغب، وهي حجة تقف من ورائها دوافع ترتبط بمحاولات قمع هذه الهبّة والانتقام من الجيل الفلسطيني الجديد المتشكّل.

جاءت الهبّة في الداخل في أعقاب حالة من الإحباط من الوضع السياسي الفلسطيني العام وارتفاع مستمر في حوادث العنف والجريمة المنظمة، وهرولة أحزاب سياسيّة عربيّة في الكنيست نحو التوصية واستعدادها لدعم تشكيل الحكومة الإسرائيليّة، لتعيد الهبّة تعريف معنى الصراع وجذوره من جديد، ولتضع حداً لمحاولات التدجين المستمرة للفلسطينيين في الداخل ولتنسف مشاريع أسرلة عملت عليها المؤسسة الإسرائيليّة منذ أكتوبر 2000.

تقف المؤسسة الإسرائيليّة أمام تحدٍ جديد بعد الهبّة في تعاملها مع مواطنيها العرب بدأته في المزيد من القمع والملاحقة وبعض مشاريع ما يُسمى بالتعايش، كذلك تقف الأحزاب والحراكات والقيادات السياسيّة الفلسطينيّة في الداخل أمام تحدٍ في استثمار هذه الهبّة وتنظيم المجتمع والعمل المدني وصد الهجمة الإسرائيليّة المستقبليّة المرتقبة.

المساهمون