الموصل: الأنقاض والحديد أهم من جثث السكان

05 ابريل 2018
لا تتوقف عملية رفع الأنقاض في المدينة (هيمن بابان/الأناضول)
+ الخط -
ما زالت شاحنات نقل الأنقاض والحديد تتردد على مدينة الموصل العراقية فجر كل يوم منذ أشهر، بلا أمل لنهاية قريبة لقصة الأنقاض وما تحتها من جثث المدنيين أو ما تبقى من تلك الجثث. فحطام المدينة المدمرة، وضمن ساحلها الأيمن تحديداً، يحتاج إلى جهود جبارة وإنسانية أيضاً، وبات هرس الهياكل العظمية للضحايا ظاهرة تتكرر تحت عجلات الجرافات التي ترفع الأنقاض إلى شاحنات كبيرة، قبل بيع الأنقاض إلى مقاولين يملكون ما يُعرف محلياً بـ"الكسارات"، المخصصة لإعادة تدوير الحجارة والإسمنت من خلال فرمه وتحويله إلى مواد أولية وبيعه لاستخدامه في تعبيد الطرق أو ردم المستنقعات.

التقديرات التي يؤكدها مسؤولون محليون تتحدث عن نحو 10 ملايين طن من الأنقاض في الساحل الأيمن من دجلة فقط، في الوقت الذي كشف فيه مسؤول عسكري عراقي لـ"العربي الجديد"، عن وجود ما لا يقل عن ألفي جثة ما زالت تحت أنقاض المدينة، غالبيتها تحولت إلى هياكل عظمية وسُحق قسم منها تحت الجرافات وعجلات شاحنات التحميل. بينما حالف الحظ ذوي أربعة آلاف و983 ضحية في العثور عليهم تحت الأنقاض وتم دفنهم في مقبرة استحدثتها بلدية الموصل تقع على بُعد 15 كيلومتراً جنوبي غربي المدينة، وأطلق عليها اسم "مقبرة الشهداء 3"، وفقاً لما كشفه أحد أعضاء مجلس محافظة نينوى (الحكومة المحلية) لـ"العربي الجديد". وأكد المسؤول أن من تم رفع جثثهم من شوارع الموصل ومبانيها أكثر بثلاثة أضعاف من الذين انتُشلوا من تحت أنقاض المنازل والمباني المدمرة، موضحاً أنه "بذلك يتجاوز العدد الإجمالي للضحايا المدنيين في الموصل بين قتلى ومفقودين عتبة الثلاثين ألفاً، نحو 62 في المائة منهم أطفال ونساء، جراء الحرب التي أسفرت عن تحرير ما تبقى من الموصل وأهلها من قبضة تنظيم داعش".

غالبية الضحايا ممن تم انتشالهم من تحت أنقاض الموصل من قبل لجنة حكومية مشتركة من وزارتي الصحة والدفاع، سُجلت كـ"شهداء" من ضحايا تنظيم "داعش"، على الرغم من أنهم قُتلوا في منازلهم بواسطة القصف الأميركي والعراقي الجوي والصاروخي. كما سُجل ضحايا لعمليات انتقامية للمليشيات في الخانة نفسها (ضحايا داعش)، على الرغم من أنهم أُعدموا في مناطق سيطرة الحكومة و"الحشد الشعبي"، وفقاً لعضو مجلس المحافظة ذاته، الذي شكا من أن ضحايا "داعش" الحقيقيين من قام بإعدامهم في ساحة الإعدام أو قطع أيديهم ورماهم من أسطح المباني العالية خلال فترة احتلاله المدينة لم يتم اعتبارهم "شهداء" حتى الآن، فيما ذووهم يراجعون من أجل ذلك لكن تتم مطالبتهم بشهود عيان وأدلة تدعم أقوالهم.
واعترف الجيش الأميركي في وقت سابق بتسبّب القصف الجوي على مدينة الموصل بسقوط مدنيين قال إنهم بالعشرات، متعهداً بفتح تحقيق وإعلان النتائج، غير أنه وعلى الرغم من مرور أشهر على الاعتراف، لم يعلن الجيش الأميركي عن أي نتائج لهذا التحقيق ولم يتم إشراك العراقيين به من الأساس.


الجراح العراقي سالم السعد، الذي يحمل الجنسية الدنماركية ووصل أخيراً إلى الموصل للمساهمة في إعادة ترميم صالة العمليات الكبرى في مستشفى المدينة على نفقته الخاصة، قال لـ"العربي الجديد"، إن "الموصل مغلّفة بالشعارات والوعود فقط". وأضاف: "أنا في المدينة منذ نحو أسبوعين ولم أرَ أياً من السكان يبتسم أو يضحك، بعضهم يصطنع ذلك فقط عند مروره عند نقاط التفتيش حتى لا يُفهم من عبوسه أنه ناقم على القوات العراقية فيدخل في دائرة الاتهام بالتعاون مع داعش". ولفت السعد إلى أن "هناك جيشاً من الجرحى، فتيات فقدن أطرافهن، وشباناً بلا مستقبل بسبب إعاقة وبينهم من حاول الانتحار بسبب فقدانه الأمل"، معتبراً أن "المدينة تحتاج لحشد إنساني بعيداً عن الدين والمعتقد والعِرق، فقد تعرضت لشيء يشبه قيام الساعة أو نهاية العالم".

ويقول سكان محليون إن عملية رفع الأنقاض تحصل عادة من قبل منظمات أو حملات تطوعية، لكن هناك مقاولين أو تجار حروب يدخلون بمزاعم مساعدة الأهالي وأنهم متطوعون يقومون برفع أنقاض المدينة ونقلها إلى ساحات عامة يتم من خلالها فرز الأنقاض والبحث عن أي شيء ثمين فيها ومن ثم نقلها إلى مكائن الطحن لتحويلها إلى مواد تُستخدم في مشاريع بناء.
وقال المواطن محمد الطائي لـ"العربي الجديد" إن أحد سائقي الشاحنات وجد بين الأنقاض عظاماً وجزءاً من جمجمة طفل، قام بوضعها في كيس وتسليمها للدفن في المقبرة. وأضاف أن "الشركات تأخذ الحديد والنحاس والمواد التي يتم العثور عليها في أنقاض منازل الناس التي كانت عامرة ومنها حطام السيارات، وهي تجني الكثير، وبهذا باتت الجثث أرخص ما هو موجود الآن في المدينة مع الأسف".

من جهتها، قالت النائب في البرلمان العراقي عن مدينة الموصل، نورة البجاري، لـ"العربي الجديد"، إن "كمية الأنقاض كبيرة جداً وقُدّرت بحوالي 11 مليون طن، فيما هناك جثث كثيرة جداً لضحايا مدنيين ما زالت تحت الأنقاض وهم من أبناء مدينة الموصل القديمة بالغالب وأيضاً لمقاتلي داعش". وأشارت إلى أن "قسماً من الأهالي ممن نجوا من الحرب لا يملكون مبالغ مالية كافية مما اضطرهم إلى القبول بالعرض المُقدّم لهم برفع أنقاض منازلهم بلا مقابل، خصوصاً أن الحكومة والمنظمات الدولية لم تباشر برفع الأنقاض من مدينة الموصل القديمة".

أما القيادي في "تحالف القوى" محمد نوري العبدربه، فأكد لـ"العربي الجديد" أن "هناك عملية بيع للأنقاض لأننا نرى المواطن وصل إلى مرحلة عدم اهتمام ويأس من تقديم الحكومة أي خدمة له، فبحث عن طرق بديلة ولم يجد سوى عملية بيع الأنقاض". وأضاف أن "غالبية الحكومة المحلية منشغلة اليوم بالمشاريع الوهمية ولم تقدّم شيئاً إنسانياً ملموساً للناس، فأوصلت رسالة واضحة للمواطن بأن يتدبر أموره بنفسه".

إلى ذلك، أوضحت النائب انتصار الجبوري، لـ"العربي الجديد"، أن "الشركات التي تشتري هذه الأنقاض تستفيد منها، فيما المواطن هو الخاسر الوحيد"، معتبرة أن "على الحكومة أن تبحث موضوع رفع الأنقاض والجثث". ولفتت إلى أنه "تم أخيراً رفع أكثر من 300 جثة بحسب المواطنين وشهود عيان، بينها جثث وُجدت داخل حفر كبيرة في مناطق خارج الموصل".

يُذكر أن الحكومة العراقية كانت قد أطلقت حملة تحرير مدينة الموصل منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2016 بمشاركة نحو 100 ألف جندي وعسكري عراقي وعنصر من البشمركة و"الحشد الشعبي" وبدعم كل من سلاح الجو الأميركي والفرنسي والأسترالي والبريطاني فضلاً عن العراقي، واستمرت المعارك حتى العاشر من يوليو/تموز 2017 بواقع 11 شهراً، أدت وفقاً لتقرير وزارة التخطيط العراقية إلى تدمير نحو 80 في المائة من الموصل، في وقت ما زالت فيه أعداد الضحايا المدنيين تتراوح ما بين 24 ألفا إلى 30 ألف قتيل ومفقود، بينما يصر مسؤولون عراقيون مثل وزير الخارجية السابق هوشيار زيباري، على أن المعركة حصدت أكثر من 40 ألف مدني.

المساهمون