القطب الشمالي: استراتيجية أميركية - غربية لمواجهة روسيا والصين

23 يوليو 2024
قاعدة بيتوفيك الفضائية الأميركية في غرينلاند 4 أكتوبر 2023 (توماس تراسدال/فرانس برس)
+ الخط -

أُعلن، أمس الاثنين، في واشنطن عن ملامح استراتيجية أميركية-غربية جديدة لمنطقة القطب الشمالي الحيوية تحت عنوان "استراتيجية جديدة للقطب الشمالي"، تهدف خصوصاً إلى تعزيز تعاون واشنطن مع دول الشمال والغرب الأوروبي. والخطة، التي نوقشت خلال قمة الذكرى الـ75 لتأسيس حلف شمال الأطلسي في واشنطن، تسعى لزيادة عسكرة المنطقة القطبية، ورفع مستوى المراقبة وتعميق وتكثيف التدريبات لاستعراض القوة بحجة "الردع".

وجاء إعلان نائبة وزير الدفاع الأميركية، كاثلين هيكس، عن استراتيجة القطب الشمالي في مؤتمر صحافي في البنتاغون، أمس الاثنين، ليضع جزيرة غرينلاند في بؤرة الاهتمام الأميركي. واستثمرت واشنطن في قواعدها بغرينلاند خلال فترة الحرب الباردة (حتى 1992)، وتعتبر قاعدة ثول في غرينلاند، وتسميها واشنطن قاعدة بيتوفيك الفضائية، حجر زاوية في مسألة الاستثمار العسكري والتقني للتصدي للصواريخ الروسية التي من الممكن أن تطاول الأراضي الأميركية شمالاً. واعتبر البنتاغون في السنوات الأخيرة أن غرينلاند فيها ثغرات على مستوى المراقبة الجوية، وتود أن تلعب الدنمارك دوراً حيوياً في سدها، وخصوصاً مع تعاظم الخشية من أن الصواريخ النووية الروسية يمكنها ببساطة عبور الفضاء الغرينلاندي دون مشاكل.

وتلعب الدنمارك، وباقي دول الشمال (فنلندا والسويد وأيسلندا والنرويج والدنمارك)، دوراً رئيساً في هذه الاستراتيجية بحكم تبعية جزيرة غرينلاند وبعض أجزاء القطب الشمالي لسيادتها. ورغم أن المنطقة القطبية الشمالية حظيت في السنوات الأخيرة باهتمام الناتو، إلا أن اشتداد لغة الحرب الباردة مع روسيا المدعومة صينياً، برأي الغربيين، بات يزيد من الاهتمام الأميركي في هذه المنطقة الحيوية والتي تحظى باهتمام روسي لكونها طريقا قصيرا نحو الأراضي الأميركية، بينما قلق واشنطن يتزايد مع ضعف النظام الدفاعي بوجه صواريخ روسيا العابرة للقارات.

ولم توقف القوات الأميركية، التي بات حضورها كبيراً في مجموعة "دول الشمال" لا سيما إثر انضمام كل من فنلندا والسويد إلى الناتو، منذ مارس/آذار الماضي تمارينها المشتركة "الردعية" مع هذه الدول بمشاركة بريطانية، كما جرى في تمارين "أرتيك إيدج 24" ربيع العام الحالي. وتزامنت تلك التمارين مع أخرى أميركية - دنماركية احتضنتها جزيرة غرينلاند الحيوية في سياق الاستراتيجية الأميركية في القطب الشمالي.

القطب الشمالي أصبح منطقة توتر ساخن

ويؤشر تسارع شعور الدنمارك البلد الإسكندنافي الصغير(نحو 5.9 ملايين نسمة)، بأنه في قلب معادلة الحرب الباردة الجديدة إلى رفع مستوى توتر العلاقة مع موسكو، ما دفع ساستها إلى رفع الجهوزية العسكرية وتنبيه المواطنين لضرورة التعايش مع احتمالية أن تصير الدنمارك جزءاً من صراع ساخن. وطُلب من السكان التزود بمواد غذائية ومياه وأساسيات البقاء على قيد الحياة دون تدخل السلطات لمدة ثلاثة أيام على الأقل، أضف إلى ذلك تسارع عمليات تأهيل وتوسيع الملاجئ في طول وعرض البلد، وهو أمر يطبق أيضاً في السويد وفنلندا.

وأهمية الدور الدنماركي غير مرتبطة بحجم البلد بل تنبع من احتلاله، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، مكانة جيوسياسية في سياق التحشيد الغربي لدعم كييف ومواجهة روسيا في منطقتي البلطيق والقطب الشمالي. وفي الأولى تقع جزيرة بورنهولم المقابلة لجيب كالينينغراد الروسي على البلطيق بين ليتوانيا وبولندا، وفي الثانية تقع الجزيرة الجليدية الضخمة غرينلاند (التي تتبع سيادتها في مسائل الدفاع والسياسة الخارجية بيد كوبنهاغن).

وقالت كبيرة باحثي معهد هدسون في واشنطن، ليزلوت أودغار، للتلفزيون الدنماركي (دي آر)، اليوم الثلاثاء، إن الحاجة الأميركية لدول الشمال الإسكندنافية تعبير عن عدم مقدرة الولايات المتحدة على تطبيق الاستراتيجية بمفردها "بل هي تحتاج إلى تعاون جميع حلفاء شمال الأطلسي للتعامل مع التحديات والتهديدات في القطب الشمالي". ويسود اعتقاد لدى واشنطن ومجموعة دول الشمال بأن "روسيا، بدعم من الصين، تشكل تهديداً كبيراً في المنطقة القطبية الشمالية " وبالتالي هم يتفقون على اعتبار الاستثمار في الردع وتعزيز القدرات العسكرية أمرين حيويين في الاستراتيجية الجديدة. وتشعر واشنطن بقلق من تكثيف الحليفين الروسي والصيني، خلال الأشهر الأخيرة، تدريباتهم البحرية قرب ألاسكا، معتبرة ذلك تحدياً ضخماً تحتاج فيه إلى الحلفاء الأوروبيين.

وعلى مدار الحرب الأوكرانية أظهرت حكومة الائتلاف الدنماركية برئاسة ميتا فريدركسن رغبة قوية في تعزيز تعاونها مع البنتاغون، حيث أصبحت موانئها عقدة مواصلات حيوية للتحشيد العسكري الأميركي باتجاه دول بحر البلطيق ونحو العضوين الجديدين في "الأطلسي" السويد وفنلندا. وتدفع التهديدات الروسية الضمنية لكوبنهاغن إلى انخراطها بشكل أكبر في الأهداف الأميركية. وتراقب موسكو من جهتها عن كثب ما يجري في المنطقة الشمالية، حيث تشهد منطقة فينمارك الواقعة على الحدود بين النرويج والسويد وفنلندا، تمرينات وانتشاراً شبه دائمين من نحو ثلاث عشرة دولة أطلسية، بحجة "مواجهة أي هجوم روسي ضد دولة عضو".

وتتزايد مؤشرات تحول منطقة القطب الشمالي إلى منطقة توتر ساخن في علاقة الغرب بروسيا وحليفتها الصين الراغبة في تعزيز حضورها في المنطقة. والإعلان عن تبني الاستراتيجية الغربية الجديدة لا يساهم في تبريد المنطقة.

وكان أُعلن عن تعاون وثيق بين كل من الولايات المتحدة وكندا وفنلندا، التي تملك حدوداً مع روسيا بطول أكثر من 1300 كلم، على هامش قمة الأطلسي في واشنطن، تحت مسمى "جهود التعاون لكسر الجليد"، لتشييد كاسحات جليد في القطب الشمالي ما يؤشر إلى قلق أميركي من ريادة روسيا في مجال أسطول كاسحات الجليد، وخصوصاً أورال العاملة بالطاقة النووية حيث تمتلك روسيا 36 كاسحة جليد، بينما تمتلك أميركا كاسحتين وكندا تسع كاسحات فيما فنلندا تملك 12 كاسحة.

وتستغل روسيا والصين التغيرات المناخية، التي تؤدي لذوبان الجليد، لفتح ما يسمى بـ"الطريق البحري الشمالي" (الممتد بين شمال روسيا والنرويج وصولاً إلى مضيق بيرينغ بين روسيا وأميركا)، يزيد من قلق واشنطن، فهذا الطريق يختصر المسافة بين الصين وشمال أوروبا. وترغب واشنطن بجعله طريقاً دولياً لكسر احتكار موسكو وبكين له، بينما يصر الكرملين على اعتباره "طريقاً بحرياً وطنياً".

ويدل ما سبق بالإضافة لمؤشرات أخرى كثيرة على أن تسخين منطقة القطب الشمالي ليس بمعزل عن مجريات التحشيد وتوسع الانتشار التسليحي الأميركي في مناطق بحر البلطيق ودول أخرى في شرق وغرب القارة.

المساهمون