استهلّ الأردن عام 2020 ببدء اعتماده على الغاز المستورد من الاحتلال الإسرائيلي، في خطوة تعدّ أحد تجليات الترجمة الاقتصاديّة لما يعرف بصفقة القرن، التي أعلنت عمّان رفضها لشقّها السياسي، دون أن يمنعها ذلك من المضي بمشاريع من شأنها ربط اقتصادها مركزيّاً بتلّ أبيب.
وزير الطاقة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، يوفال شتاينتس، أعلن في أوّل أيّام السنة بدء ضخ الغاز الطبيعي من حقل ليفياثان في البحر المتوسط إلى الأردن. وأضاف في حديث لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبريّة: "نعلن من هنا، أنه في هذه اللحظة، بدأ ضخ الغاز من حقل ليفياثان إلى الأردن، وبذلك تصبح (إسرائيل) للمرة الأولى في تاريخها مُصدّرة للطاقة".
الشارع الأردني (بشقيه من الأردنيين "الشرقيّين" والمنحدرين من أصول فلسطينيّة) عبّر عن رفضه لهذه الخطوة، خلال تظاهرات سلميّة شهدتها العاصمة عمّان ومحافظات أخرى، ولكن هذا الرفض بقي في حدود ممارسة حقّ حريّة الرأي والتعبير، دون التأثير الفعلي في دوائر صنع القرار.
وما لبث الأردن الشعبي أن استوعب صدمة بدء الاعتماد على الاحتلال - عمليّاً - في مجال الطاقة، حتّى أعلنت الحكومة جملة من الإجراءات المشدّدة لمواجهة جائحة كورونا، التي وصلت إلى المملكة، حيث فرضت حظر التجوّل الشامل في أواخر شهر آذار، واستمرّ حتّى منتصف حزيران، لتبدأ بعد ذلك مرحلة الحظر الجزئي، التي عاد فيها العمل بمعظم القطاعات الاقتصاديّة، والتي تسمح فيها بالحركة خلال النهار، باستثناء أيّام الجمعة.
قرار حظر التجوّل الشامل، الذي أفضى إلى إغلاق مختلف المنشآت الاقتصاديّة بموجب قانون الدفاع، أدّى بطبيعة الحال إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي خلال الربع الأول من عام 2020، وبالتالي تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي للأردن إلى 1.3٪، مقارنة بـ 2.0٪ في الربع الأول من عام 2019، وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي في شهر تشرين الأول الماضي.
وتوقّع البنك الدولي انكماش الاقتصاد الأردني بنسبة 5.5٪، إضافة إلى ارتفاع الدين العام الإجمالي على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ليصل إلى 115.2% من الناتج المحلي الإجمالي، بواقع 113.5% في العام الحالي، و114.1 في العام المقبل، وصولاً إلى 115.2% في عام 2022. وكذلك توقّع ارتفاع معدّل البطالة، التي كانت قد بلغت نسبة 23%، وفقاً لدائرة الإحصاءات العامّة الأردنيّة.
وبالتوازي مع فرض حظر التجوّل، قرّرت الحكومة الأردنيّة وقف التعيينات في القطاع العام (الذي يشكّل الشرق أردنيّون النسبة الأكبر من العاملين فيه)، وقرّرت أيضاً وقف صرف علاوات الموظّفين. في المقابل، تعهدت باتّخاذ جملة من الإجراءات لحماية القطاع الخاص (الذي تعمل فيه غالبيّة الأردنيّين المنحدرين من أصول فلسطينيّة)، غير أن هذه الإجراءات لم تحل دون تفسّخ كثير من المنشآت، الصغيرة والمتوسّطة، في مختلف القطاعات الاقتصاديّة، نتيجة للإغلاقات المحليّة.
من الإجراءات التي اتُّخِذَت لحماية منشآت القطاعات الاقتصاديّة المتضرّرة من تداعيات الجائحة، توجيه البنك المركزي البنوك إلى تأجيل أقساط القروض المترتّبة خلال فترة الحظر الشامل، لمن يثبت عدم قدرته على السداد، غير أن ترك مسألة "تقدير" عدم القدرة للبنوك أدّى إلى عدم الالتزام تماماً بهذا "التوجيه".
على أيّة حال، تأثُّر الفلسطينيّين في الأردن بالتداعيات الاقتصاديّة لجائحة كورونا كان متبايناً، وفقاً لاختلاف القطاعات التي يمارسون فيها نشاطهم الاقتصادي. ففي الوقت الذي لم تتأثر فيه بعض القطاعات، كالصحّة، والصناعات الدوائيّة، والمدارس الخاصّة (التي استوفت كامل رسومها الدراسيّة رغم إقرار سياسة التعليم عن بعد)، تدهورت الأوضاع في قطاعات أخرى إلى درجة حملت كثيراً من المنشآت على إغلاق أبوابها، خاصّة في قطاعات: السياحة، والنقل، والمطاعم، والمقاهي، ومحلات الألبسة. إلا أن القطاع الأكثر تضرّراً، والذي تعمل فيه غالبيّة الفلسطينيّين من سكان المخيّمات، إلى جانب "الشرق أردنيّين"، كان قطاع الحرف والمهن الحرّة، أو ما اتّفق على تسميته القطاع غير المنظّم.
مدير مركز الفينيق للدراسات الاقتصاديّة والمعلوماتيّة، أحمد عوض، أكّد في أكثر من محطّة أن العاملين في هذا القطاع تضرّروا بشكل كامل من الإجراءات الحكوميّة، في حين أن العاملين في القطاع العام لم يتأثروا إلا بقرار وقف صرف العلاوات، حيث بقيت رواتبهم مستمرّة خلال فترة الحظر.
وأكّد عوض أن اللاجئين من أبناء غزة في الأردن، الذين لا يحملون الجنسيّة الأردنيّة، كانوا الأكثر تضرّراً على الإطلاق، حيث لم يحصلوا على أيّة مساعدات، سواء من الدولة الأردنيّة، التي قدّمت بعض المساعدات لمواطنيها عبر مؤسّسة الضمان الاجتماعي، أو من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين "أونروا"، التي امتنعت عن تقديم أيّة مساعدات للمخيّمات الفلسطينيّة في الأردن في ما يتعلّق بتداعيات الجائحة.
لكن الغالبيّة العظمى من الفلسطينيّين في الأردن (85%) يعيشون خارج المخيّمات، ويتمتّعون بالجنسيّة الأردنيّة، وينخرطون في مختلف الأنشطة الاقتصاديّة التي يتولاها القطاع الخاص. وقد أصدرت الحكومة عدّة أوامر دفاع لضمان استدامة العمل في هذا القطاع، بحيث ألزمت كل المنشآت الاقتصاديّة التي لم يتوقّف عملها كليّاً بالاستمرار في دفع رواتب العاملين لديها بنسب راوحت ما بين 50-75%، قبل أن تقرّر أخيراً إطلاق برنامج "استدامة"، الذي خصّص له مبلغ 200 مليون دينار أردني، لمساندة القطاعات الأكثر تضرّراً، حيث تتحمّل الحكومة جزءاً من النفقات المتعلّقة برواتب الموظّفين، الذين باتوا يحصلون على رواتبهم كاملة.
رغم هذا، فإن الإجراءات الحكوميّة المعلنة لضمان استدامة العمل في القطاع الخاص، لم تحل، خاصّة في بداية الأزمة، دون تعرّض كثير من العاملين في هذا القطاع لانتهاك حقوقهم، تحت عنوان الآثار الاقتصاديّة للجائحة. المرصد العمّالي، التابع لمركز الفينيق للدراسات الاقتصاديّة والمعلوماتيّة، كشف في تقرير أصدره بعنوان: "انتهاكات بالجملة ضدّ العاملين والعاملات خلال إجراءات مكافحة فيروس كورونا" عن تلقّيه 406 شكاوى خلال الأسبوع الممتدّ من 25 آذار إلى 2 نيسان. 64% من هذه الشكاوى تتعلّق بعدم دفع رواتب العاملين، و20.7% منها تتعلّق بالفصل من العمل أو الإجبار على تقديم الاستقالة.
وعودة إلى واقع القطاعات التي لم تتأثر سلباً بتداعيات جائحة كورونا، تجدر الإشارة إلى تصريحات رئيس غرفة صناعة الأردن، المهندس فتحي الجغبير، الذي قال خلال اجتماع للمجلس الاستشاري للسياسات الاقتصادية في شهر تموز الماضي، إن "أزمة كورونا قسمت القطاع الصناعي إلى أجزاء، مبيّناً أن 60% من هذا القطاع شهد ازدهاراً". كذلك كشفت تصريحات حكوميّة في أكثر من محطّة عن زيادة الطاقة الإنتاجيّة للصناعات الدوائيّة (التي ينخرط فيها المكوّن الفلسطيني بنسبة جيّدة) إلى ما مكّنها من استيعاب متطلّبات الأسواق الخارجيّة.
وممّا يشير إلى تمكّن كبرى مؤسّسات القطاع الخاص من التكيّف مع الأزمة، وصول حجم تبرّعات هذا القطاع إلى صندوق همّة وطن (الذي أطلقته الحكومة الأردنيّة في بداية الأزمة لمساعدة الفئات والشرائح الاجتماعيّة الأكثر تضرّراً من الأزمة المقترنة بالجائحة) إلى أكثر من 90 مليون دينار خلال أوّل شهر فقط. وقد أسهم في هذه التبرّعات كثير من رجال الأعمال المنحدرين من أصول فلسطينيّة، إلى جانب نظرائهم من "الشرق أردنيّين".
ولكن رغم عدم تأثر بعض القطاعات التي تعود ملكيّة منشآتها لأردنيين من أصول فلسطينيّة جرّاء الإجراءات المحليّة لمواجهة الجائحة، إلا أن التطوّرات في بعض الدول المجاورة انعكست سلباً على استثماراتهم أو مدّخراتهم، ولعلّ أبرز مثال على هذا القضيّة التي رفعها رجل الأعمال الفلسطيني - الأردني طلال أبو غزالة ضدّ بنك "سوسيته جنرال" في لبنان لاستعادة ودائع بقيمة 23 مليون دولار.
باختصار، يمكن القول أن الإجراءات المحليّة التي اتّخذتها الحكومة الأردنيّة لمواجهة جائحة كورونا لم تنعكس سلباً - إلى درجة يصعب تحمّلها - على كبار المستثمرين من أصول فلسطينيّة، ولكنّها انعكست بالطبع على العاملين في المؤسّسات التي تعود لأولئك المستثمرين، فقد سمحت حكومة عمر الرزاز السابقة، منذ بداية الأزمة، بتخفيض رواتب العاملين في القطاع الخاص بنسبة 30%، رغم استمرار عملهم بكامل طاقاتهم، مدرجة "شرطاً" مثيراً للجدل، هو: "موافقة العامل ورضاه".
وفي المقابل فإن المؤسّسات الصغيرة والمتوسّطة باتت تواجه أزمة حقيقيّة تهدّد إمكانيّة استمرارها، فوفقاً لدراسة أجرتها منظّمة العمل الدوليّة في شهر نيسان الماضي، فإن 42% فقط من المنشآت المشاركة في الدراسة صرّحت بأنها قد تستطيع دفع رواتب جميع موظفيها لأقل من شهر، وقالت نسبة مماثلة إنها تستطيع فعل ذلك لأقل من ثلاثة أشهر في ظل الظروف السائدة وقت إجراء التقييم. وقال معظم أصحاب المنشآت إن الدعم المالي المباشر هو الأكثر ضرورة للتأقلم مع الوضع في هذه المرحلة، وذكر العديد منها أيضاً الحاجة إلى دعم حكومي لدفع الأجور.
وقد صرّحت سارة فيرير أوليفيا، الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الأردن، بالقول إنه "مع إعادة فتح الاقتصاد، لا يزال العديد من القطاعات يشهد طلباً ضعيفاً وتحديات في المستقبل المنظور". وأكدت أن "المخاوف الاقتصادية كبيرة".
وتبقى الحلقة الأضعف في ما يتعلّق بالتداعيات الاقتصاديّة لجائحة كورونا هي مخيّمات اللاجئين الفلسطينيّين، التي لا تمتلك الدولة الأردنيّة الإمكانيّة الكافية لإغاثتها، في الوقت الذي تتنصّل فيه المؤسّسات الدوليّة من مسؤوليّاتها تجاه هذه المخيّمات، خاصّة أن برنامج "استدامة"، الذي أعلنته الحكومة أخيراً للإسهام في تحمّل نفقات رواتب العاملين في بعض منشآت القطاع الخاص، تفوق نفقاته قيمة "التبرّعات" الواردة لخزينة الدولة.
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين "أونروا" تصرّ على التخلّي تماماً عن واجباتها في دعم الفلسطينيّين وتمكينهم من مواجهة التداعيات الاقتصاديّة للجائحة، سواء داخل الأردن أو خارجه. تكفي الإشارة هنا إلى البيان الصادر أخيراً عن المؤتمر العام لاتحادات العاملين في "الأونروا"، حيث تقرّر الدخول في إضراب عام ومفتوح في جميع الأقاليم (الضفة الغربية، وقطاع غزة، والأردن، وسورية، ولبنان) اعتباراً من بداية العام القادم.
وقد ورد في البيان المذكور أنه "بدل أن تقوم الإدارة بواجبها في مواجهة العجز المالي، قرّرت ان تستمرّ في سباتها وتضع الحلول على حساب اللاجئين والموظّفين، فهي تخطّط لوضع الكثير من الموظّفين في إجازة استثنائية بدون راتب، وتجميد خدمات "الأونروا"، وسحب الزيادات والعلاوات التي استحقّها الموظّفون خلال السنتين الماضيتين"، معتبراً الأمر بمثابة "إعلان حرب على الموظفين واللاجئين".
في النهاية، يمكن القول إن الحكومة الأردنيّة نجحت في ضمان توفير نفقاتها الجارية المتعلّقة برواتب العاملين في القطاع العام، (الذين يشكّل المكوّن "الشرق أردني" النسبة الأكبر منهم، إلى جانب جزء كبير للغاية من الأردنيين من أصول فلسطينيّة العاملين في قطاع التعليم)، باستثناء العلاوات التي تقرّر وقفها حتّى نهاية العام، فيما اتّخذت جملة من الإجراءات التي مكّنت أصحاب كبرى منشآت القطاع الخاص (التي تعود ملكيّة كثير منها إلى مواطنين من أصول فلسطينيّة) من تقليل خسائرها، أو حتّى وقفها تماماً، على حساب العاملين في هذه المنشآت، عبر إتاحة تخفيض رواتبهم دون تقليص ساعات عملهم.
البنوك كانت هي "الخطّ الأحمر" في ما يتعلّق بالإجراءات الحكوميّة لمواجهة جائحة كورونا، حيث إن الصيغة التي ورد وفقها قرار البنك المركزي لتأجيل الأقساط كانت مرنة إلى درجة شجّعت كثيراً من هذه البنوك، التي تعبّر عن حصّة الأسد من "رأس المال الفلسطيني"، على عدم التزام هذا القرار.
مقابل هذا لم تتمكّن الحكومة من حماية المنشآت الصغيرة والمتوسّطة، (سواء التي تعود ملكيّتها لأردنيين من أصول فلسطينيّة أو للشرق أردنيّين)، التي تفتقر إلى رأس المال الكافي لتمكينها من التكيّف أو الصمود، والتي تضرّرت تماماً بقرارات الإغلاق، إلى جانب ضعف محاولة إغاثة العاملين في القطاع غير المنظّم، سواء من خلال برامج صندوق مؤسّسة الضمان الاجتماعي، أو عبر جمع التبرّعات. أمّا الحلقة الأضعف، المتمثلة بأهالي المخيّمات، فما زالت ترزح تحت وطأة ظروف معيشيّة صعبة، كانت متفاقمة أصلاً قبل بدء أزمة كورونا، في ظلّ تخلّي الدول المانحة عن مسؤوليّاتها، وسوء أداء إدارتها الحاليّة.
وهكذا، فإن تداعيات جائحة كورونا على فلسطينيي الأردن كانت متباينة وفقاً لتباين الواقع الطبقي لمختلف شرائح هذا المكوّن الاجتماعي.. كبار رجال الاقتصاد، المنحدرين من أصول فلسطينيّة، تمكّنوا من التكيّف مع الإجراءات التي أعلنتها الحكومة لمواجهة أزمة كورونا، ولا سيّما في القطاعين المصرفي والصناعي، بل إن عدداً من المؤسّسات ازدهرت أعمالها بسبب الجائحة، كالمستشفيات الخاصّة وقطاع الصناعات الدوائيّة مثلاً، فيما تواجه المؤسّسات المتوسّطة والصغيرة الخاصّة في بعض القطاعات خطراً حقيقيّاً، رغم محاولات الحكومة الأردنيّة الرامية إلى إنقاذها. أمّا الفئات الشعبيّة العاملة في القطاع غير المنظّم، وخاصّة من أبناء المخيّمات، فقد انتقلت من فقرها المدقع إلى حالة أكثر بؤساً!