العين على نفوذ "فاغنر" في أفريقيا: إعادة حسابات مرتقبة

26 يونيو 2023
تظاهرة داعمة لـ"فاغنر" في بانغي، مارس الماضي (بربارا ديبو/فرانس برس)
+ الخط -

التزمت دول عدة تنتشر فيها مجموعة فاغنر، الصمت، إزاء التمرد المسلح الذي قادته المجموعة في روسيا يومي الجمعة والسبت الماضيين، لكن ذلك لا يعني أن تطورات الأحداث في موسكو، وإن جرى احتواؤها سريعاً، لم تتسبب في قلق واسع لدى هذه الدول، لا سيما أن دور المجموعة فيها تطور خلال السنوات السابقة، ولم يعد يقتصر على تأدية أدوار تلبي فيها مصالح الكرملين حصراً، بل انتقلت إلى لعب أدوار تخدم مصالح القادة الإقليميين الذي يستدعونها في مقابل تأمين التمويل الذاتي لها.

وتخشى الدول الأفريقية، التي توجد فيها "فاغنر" من فرضيات عدة، بما في ذلك الوصول إلى مرحلة تضطر فيها للاختيار بين روسيا والمرتزقة، لأسباب عدة، تبدأ في الأساس في الاعتماد المتزايد لهذه الدول على المجموعة المسلحة، خصوصاً بمنحها عقوداً في استثمار الموارد الطبيعية، من الذهب والألماس واليورانيوم والنفط وغيره.

كما تفرض التطورات الأخيرة تساؤلات بشأن ما إذا كان تغلغل "فاغنر" في المؤسسات العسكرية التابعة للعديد من الأنظمة في أفريقيا قد بلغ نقطة حرجة، بما يسمح للمرتزقة في السيطرة على مراكز القرار الرئيسية فيها.

وتجد الدول الأفريقية نفسها معنية أكثر من غيرها بتطورات علاقة زعيم  فاغنر يفغيني بريغوجين والمؤسسة الرسمية الروسية، خصوصاً أن خروج المرتزقة من الساحة السياسية في روسيا، كما هو متوقع، وأوكرانيا على الأرجح، سيعني أن المجموعة ستحول تركيزها على "الأعمال" التي تديرها بعيداً عن روسيا أي أفريقيا خصوصاً.

انتشار فاغنر

وتنتشر "فاغنر" بشكل علني في ليبيا والسودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي ومدغشقر وموزمبيق وسورية، غير أن انتشار عناصرها في بوركينا فاسو وغينيا وغينيا بيساو والكونغو الديمقراطية وأنغولا وزيمبابوي وتشاد، يبقى غير مؤكد.

وأبرز الأدوار التي تؤديها فاغنر في ليبيا على سبيل المثال، تتمثل في دعمها اللواء المتقاعد خليفة حفتر في حربه على طرابلس، فضلاً عن تزويده بالسلاح وتدريب عناصره. وسمح انتشار "فاغنر" بحصول عناصر حفتر على معدات عسكرية متطورة مقارنة مع باقي أطراف القتال في ليبيا، رغم أن حفتر حاول فرملة تصاعد نفوذ "فاغنر" إرضاءً للأميركيين، غير أنه فشل في ذلك حتى الآن.

وتنتشر المجموعة أيضاً في دارفور في السودان، حيث "تحمي" مناجم الذهب بموجب اتفاق أتمّته مع الرئيس المخلوع عمر البشير، وبالتعاون مع قائد "وحدات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي". ومنذ تفجر الاشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع في 15 إبريل/نيسان الماضي، انتشرت أنباء عن مشاركة "فاغنر" في الحرب إلى جانب حميدتي.


تنتشر المجموعة في دارفور في السودان، حيث "تحمي" مناجم الذهب

أما في جمهورية أفريقيا الوسطى، الغنية بالذهب والأخشاب الاستوائية الثمينة، دعمت "فاغنر" جيش البلد في مواجهة المتمردين، خصوصاً بعد أن كادت العاصمة بانغي تسقط أمام مقاتلي "الاتحاد من أجل السلام" في مطلع يناير/كانون الثاني 2021. وهو ما أكسبها المزيد من النفوذ في هذا البلد.

وفي مدغشقر، باتت "فاغنر" حارسة للنظام الذي يعاني من التوترات بشكل شبه دائم، خصوصاً أن الجزيرة الأفريقية تبقى الأكثر تعرّضاً للعواصف والأعاصير في القارة الأفريقية، ما يحدّ من فرص النمو السريع، الذي يستولد الاستقرار. فكان الحل بالنسبة للنظام هو الاستعانة بـ"فاغنر" ومنحها عقوداً في استثمار الثروات الطبيعية.

أما في موزمبيق، التي شهدت تمرداً لمجموعة مقرّبة من "حركة الشباب" الصومالية، فلجأت إلى "فاغنر" التي وضعت حداً للمسلحين، وباشرت الاستثمار في البلاد التي تمتلك موارد ضخمة غير مستغلة من الغاز الطبيعي المسال والمعادن النفيسة مثل الذهب والألماس. 

وفي مالي، فقد سيطرت المجموعة، وفق اتفاقيات، على مناجم ذهب وألماس وغيرها، استناداً إلى مجموعة عوامل، أبرزها الغضب الشعبي من الفرنسيين، الذين لم يتمكنوا من القضاء على المجموعات المسلحة في البلاد، فضلاً عن كون فرنسا المستعمرة السابقة لمالي.

وفي ظلّ الاستعدادات الفرنسية لمغادرة البلاد، دخلت "فاغنر" على الخط، وتمكنت من ملء الفراغ الفرنسي، بالتدريبات العسكرية والخطط الاستراتيجية، بالإضافة إلى تزويد انقلابيي مالي بالمستلزمات العسكرية. وهو ما سمح لباماكو بالتشديد إزاء تسليم السلطة للمدنيين بموجب انتخابات حرة.

وسمحت هذه الأنشطة المتعددة لـ"فاغنر" للبدء بالخروج التدريجي من جلباب الكرملين، حيث برز حرصها في السنوات الأخيرة على  تأمين التمويل الذاتي لها من جهة، وأيضاً الإمداد العسكري. ولا يستبعد أن تكون المجموعة في المرحلة المقبلة، أكثر تحرراً من سلطة الكرملين، لكنها ستضطر إلى تثبيت قوتها في الدول التي تنتشر فيها، حتى لا تتخلى عنها الأنظمة باسم "العلاقات مع روسيا".

مع العلم أن المجموعة التي برزت مع ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، انتشرت أولاً في سورية، بحسب وكالة "بلومبيرغ". ومن هناك بوشر التأسيس لانتشار "فاغنر" في أفريقيا، خصوصاً أن التدخل الروسي لنجدة رئيس النظام السوري بشار الأسد، في سبتمبر/ أيلول 2015، شمل انخراط عناصر "فاغنر" في القتال السوري، ثم بدء حملة تجنيد لنقل المقاتلين من هناك إلى الدول الأفريقية ونقل التجربة إليها.

وانتقلت "فاغنر"، وفق "بلومبيرغ"، من مجموعة تخوض حروباً لا يمكن للجيش الروسي تحمّل تداعياتها، إلى مجموعة تخدم مصالح القادة الإقليميين، الذين وجدوا فيها فرصة لترسيخ نفوذهم، بما لا يجبرهم على الاستعانة بقوات أمنية داخلية من جهة، وأيضاً بما يسمح لهم بتطوير التواصل مع روسيا من جهة أخرى.


شكّلت سورية نقطة انطلاق لـ"فاغنر" في أفريقيا

لكل هذه الوقائع، فإن التطورات الأخيرة في روسيا، تُزعج الدول المعتمدة على "فاغنر" وتفرض عليها إعادة حساباتها. وفي السياق، ذكرت وكالة "رويترز" أن تمرد فاغنر يُشكّل معضلة دبلوماسية لدولتي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، نظراً للدور المحوري الآخذ في التعاظم الذي تؤديه "فاغنر" فيهما.

ورفض متحدثان باسمي حكومتي البلدين التعليق لـ"رويترز" على تمرد "فاغنر"، ومدى تأثيرها على الاستراتيجيات الأمنية لبلديهما في مواجهة الجماعات المسلحة. لكن باماكو وبانغي متمسكتان باتفاقيات التعاون العسكري مع روسيا، واعتبرتا سابقاً أن الاتفاقيات كانت مع موسكو وليس مع "فاغنر"، رغم وجود عناصر المجموعة في أراضيهما.

وبالنسبة للمحلل السياسي في مالي بصيرو دومبيا، فإن "وجود فاغنر في مالي يرعاه الكرملين"، مضيفاً في حديثٍ لوكالة "رويترز": "إذا كانت فاغنر على خلاف مع الكرملين، فإن مالي ستعاني بطبيعة الحال من تبعات ذلك على الجبهة الأمنية".

وتشهد مالي اضطرابات أمنية، بعد انقلابين في عامي 2020 و2021، وانسحاب القوات الفرنسية والأوروبية منها، وتنامي نشاط المسلحين فيها. وأكد عسكر مالي مراراً أن القوات الروسية الموجودة في البلاد ليست من مرتزقة "فاغنر"، ولكن مدربين يساعدون القوات المحلية بعتاد اشترته البلاد من روسيا.

مع العلم أن باماكو تعتمد على موسكو في الوقود والأسمدة والمواد الغذائية، ووجود "فاغنر" فيها بعد التطورات الأخيرة، قد يعرقل وصول مثل هذه المساعدات.

وقال المحاضر في جامعة بروكسل للدراسات الدولية إيفان غيشاوا لـ"رويترز": "العواقب المحددة بالنسبة لمالي تعتمد في الواقع على عوامل غير معروفة إلى حد كبير، مثل الاستقلالية التنظيمية لفاغنر وتسلسل قيادتها، وبالطبع ما إذا كانت الأمور تتصاعد أم لا بين (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين والمجموعة".


استهدفت "فاغنر" المدنيين بنسبة 71% في جمهورية أفريقيا الوسطى

وقد يكون للصراع في روسيا تداعيات كبيرة أيضاً على جمهورية أفريقيا الوسطى حيث يقوم مئات العناصر من روسيا، ومن بينهم العديد من مقاتلي مجموعة "فاغنر"، بمساعدة الحكومة في محاربة العديد من الحركات المتمردة منذ عام 2018.

وفي تقرير لموقع "ذا كونفرسايشن"، فإن استعانة الحكام الأفارقة بـ"فاغنر"، يحصل بسبب مرونتها في نشر عناصرها وأسلحتها الحديثة وجرأتها في القتال، ذلك لأن القوى البديلة لضرب المسلحين في البلدان الأفريقية تبقى مقيّدة بعوامل عدة. فبعثات الأمم المتحدة تفتقر للصلاحيات النافذة، وبعثات الاتحاد الأفريقي تفتقر للسلاح، بينما يوحي وجود قوات أوروبية بماضٍ استعماري مليء بالقمع.

ومع أن انتشار "فاغنر" ساهم في حماية أنظمة أفريقية عدة، غير أنها لم تقدم شيئاً يُذكر للأفارقة. ووفقاً لإحصاء لمركز "أكليد" للأبحاث نُشر في أغسطس/آب 2022، فإن 40 في المائة من الاشتباكات بين ديسمبر/كانون الأول 2020 ويوليو/تموز 2022 في جمهورية أفريقيا الوسطى، شملت "فاغنر". واعتبر المركز أن ما بين 52 في المائة و71 في المائة من استهدافات "فاغنر" في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي طاولت المدنيين.

في الأساس لم تكن "فاغنر" لتحظى بهذا الانتشار الواسع، لولا أنها كانت أداة للحكومة الروسية الباحثة عن قواعد عسكرية في أفريقيا. وحتى قبل أن تتدخل المجموعة لأول مرة في أفريقيا في عام 2017، كان لدى روسيا بالفعل اتفاقيات تعاون عسكري مع 18 دولة أفريقية.

ودفع وجود "فاغنر" في أفريقيا إلى انكفاء العديد من دول القارة عن التصويت لمصلحة إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، أو لمصلحة إدانة ضم روسيا مناطق أوكرانية. وهو ما يمكن قراءته من زاوية أن بريغوجين ساهم في تعبيد طريق بوتين إلى العمق الأفريقي، لكن المرحلة المقبلة ستكون ضبابية ومربكة للأطراف الثلاثة: أفريقيا، روسيا و"فاغنر".
(العربي الجديد)