العقيدة النووية الروسية... ضبابية متعمدة لتوسيع الردع

14 يونيو 2024
طالبان عسكريان روسيان في معرض للطاقة النووية في موسكو، 6 ديسمبر 2023 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انطلقت المرحلة الثانية من مناورات القوات النووية غير الاستراتيجية الروسية وسط تصاعد التوترات مع الغرب، مع إشارة نائب وزير الخارجية الروسي إلى إمكانية تعديل العقيدة النووية الروسية لتتوافق مع الاحتياجات الحالية.
- خلال منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي، لمّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إمكانية تعديل العقيدة النووية الروسية، مما يثير التكهنات حول خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية في ظل التهديدات الغربية.
- تعليقات متباينة ظهرت حول مستقبل العقيدة النووية الروسية، مع تلميحات حول تغييرات قد تمنح روسيا الحق الرسمي في الرد نوويًا على هجمات، مما يعكس التوتر والمخاوف من تصعيد نووي محتمل في ظل الدعم الغربي لأوكرانيا.

تزامناً مع انطلاق المرحلة الثانية من مناورات القوات النووية الروسية غير الاستراتيجية، قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، الثلاثاء الماضي، إن تصرفات الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو) أثارت سؤالاً بالنسبة لبلاده حول كيفية تعديل الوثائق الأساسية في مجال الردع النووي "بما يتوافق بشكل أكبر مع الاحتياجات الحالية" ليعيد التساؤلات حول ما إذا كانت هناك مخططات بشأن تغييرات في العقيدة النووية الروسية القائمة حالياً. وجاءت تصريحات ريابكوف في إطار النقاش المتواصل في روسيا حول كيفية الرد على تزويد الغرب أوكرانيا بأسلحة متطورة، والسماح لها باستخدام هذه الأسلحة لضرب أهداف في الداخل الروسي. ولوّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للمرة الثانية في غضون أسبوعين، بحق بلاده باستخدام الأسلحة النووية رداً على الدعم الغربي لأوكرانيا.

وفي 7 يونيو/حزيران الحالي، وصف بوتين العقيدة النووية الروسية بأنها "أداة حية" في كلمته أمام منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي، ولم يستبعد أيضاً إمكانية إدخال تعديلات عليها، ولكنه حافظ على نوع من الغموض مع عدم تحديده التعديلات الممكنة، واحتمال تضمنها خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. ومنذ مطلع شهر مايو/أيار الماضي، وعلى خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول زيادة دعم أوكرانيا وضرورة السماح لها بضرب أهداف في العمق الروسي وعدم استبعاده إرسال قوات من "ناتو" إلى أوكرانيا، أمر بوتين بإجراء تدريبات للقوات النووية غير الاستراتيجية رداً على "التهديدات والاستفزازات" الغربية. وجرت المرحلة الأولى من مناورات الأسلحة النووية غير الاستراتيجية الروسية في 21 مايو الماضي في المنطقة العسكرية الجنوبية الواقعة على الحدود مع أوكرانيا، ولم تحدد وزارة الدفاع الروسية الموقع الدقيق لتلك المرحلة.

مناورات القوات النووية

وذكر تقرير صادر عن وزارة الدفاع الروسية، أول من أمس الأربعاء، أن المرحلة الثانية من مناورات القوات النووية غير الاستراتيجية انطلقت الثلاثاء الماضي. وأوضح التقرير أن "التشكيل الصاروخي لمنطقة لينينغراد العسكرية يتدرب على تسلّم ذخيرة لصاروخ إسكندر- إم"، وأن القوات الروسية "ستتدرب أيضاً على تجهيز مركبات الإطلاق والتقدم سراً إلى منطقة محددة استعداداً لإطلاق الصواريخ". وأشار البيان إلى أن "أفراد أطقم السفن البحرية المشاركين في التدريب سيقومون بتجهيز صواريخ كروز البحرية برؤوس حربية خاصة، للتدريب والدخول إلى مناطق الدوريات المحددة". ولم يُحدَّد تاريخ الانتهاء من المرحلة الثانية. وكانت وزارة الدفاع الروسية قد ذكرت في بيان سابق، الثلاثاء الماضي أيضاً، أن القوات المسلحة الروسية والبيلاروسية بدأت مناورات مشتركة على الأسلحة النووية غير الاستراتيجية، في "المرحلة الثانية" من التدريبات الأوسع التي أعلنتها موسكو الشهر الماضي. وشدّد البيان على أن المرحلة الأخيرة من "التدريبات تهدف إلى الحفاظ على جاهزية الأفراد ومعدات الوحدات للاستخدام القتالي للأسلحة النووية غير الاستراتيجية"، وأن التدريبات "ستضمن سيادة وسلامة أراضي" البلدين. وأظهر مقطع فيديو، نشرته وزارة الدفاع الروسية الثلاثاء الماضي، مركبات مدرعة وحاملات صواريخ سالكة عبر حقول، بالإضافة إلى طائرات وقاذفات قنابل أقلعت من مهبط للطائرات، ولم يحدد الجيش مكان إجراء التدريبات.


سيرغي كاراغانوف: العقيدة النووية الروسية ستخضع لتغييرات قريباً

ومثّلت التدريبات الروسية انعكاساً لنقاشات سياسية بدأت منذ أكثر من عامين في أوساط النخبة الروسية حول امكانية استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وعلّق ريابكوف، يوم الثلاثاء، على إمكانية تعديل المرسوم الرئاسي بالقول: "بشأن أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي، كل ما يمكنني قوله هو أن الوضع يتجه نحو مزيد من التدهور، والتحديات التي تتضاعف نتيجة التصرفات التصعيدية غير المقبولة للولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي، تثير دون أدنى شك السؤال الكامل: كيف يمكن جعل الوثائق الأساسية في مجال الردع النووي أكثر انسجاماً مع الاحتياجات الحالية؟". وفي لقائه مع الصحافيين في الجلسة العامة لمنتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي في 7 يونيو الحالي، قال بوتين إن "العقيدة النووية الروسية أداة حية، ونحن نراقب بعناية ما يحدث في العالم، من حولنا، ولا نستبعد إجراء بعض التغييرات على هذه العقيدة". ورد بوتين بعرض الخيارات النظرية للرد على تجاوز الغرب الخطوط الحمراء، وقال إنه لا ينوي استخدام أسلحة نووية غير استراتيجية، لكنه ذكّر بامتلاك روسيا الكثير منها، مشيراً إلى أن قوة كل شحنة أكبر بثلاث مرات من قوة القنبلتين النوويتين اللتين أسقطتهما الولايات المتحدة على مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في عام 1945. ولفت بوتين إلى أن لدى روسيا عقيدة حددت شروط استخدام الأسلحة النووية. وبرز في المنتدى تعليق مدير جلسة النقاش فيه سيرغي كاراغانوف، الذي قال فيه إن العقيدة النووية الروسية ستخضع لتغييرات قريباً تمنح بوتين "الحق الرسمي" في حال قرر الرد نووياً على أي هجمات على روسيا. وكاراغانوف هو أحد المتحمسين لاستخدام الأسلحة النووية لردع الغرب، والمدير العلمي لكلية الاقتصاد العالمي والسياسة العالمية بالمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، والرئيس الفخري لهيئة رئاسة مجلس السياسة الخارجية والدفاع.

ورداً على كاراغانوف، سعى بوتين إلى إبقاء حالة الغموض بالقول إن مثل هذا الأمر (تغيير العقيدة النووية الروسية) إجراء لا لزوم له، متسائلاً: "هل نحن بحاجة إلى تغيير هذا؟ لأي غرض؟ كل شيء يمكن أن يتغير، لكني لا أرى ضرورة لذلك". ومعلوم أن كاراغانوف دعا بوتين في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إلى إجراء تغييرات على العقيدة النووية الروسية وخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. وفي عام 2023، كتب كاراغانوف مقالاً بعنوان "قرار صعب ولكن ضروري"، دعا فيه إلى استخدام الأسلحة النووية ضد الدول الأوروبية لأنها "فقدت الخوف"، بهدف إحياء هذا الخوف. وشاطر عدد من المسؤولين الروس كاراغانوف رأيه، خصوصاً نائب رئيس مجلس الأمن الروسي الرئيس السابق دميتري ميدفيديف، المواظب على نشر تعليقات على قناته في منصة تليغرام حول استخدام الأسلحة النووية التكتيكية لردع الغرب، والتأكيد أنه لا يمكن هزم دولة نووية في أي حرب. ووقع بوتين على المرسوم الرئاسي الحالي "بشأن أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي" في 2 يونيو 2020. وتنص الوثيقة على أربع حالات يمكن لرئيس الدولة أن يقرر فيها استخدام الأسلحة النووية، وهي: أولاً تلقي معلومات موثوقة حول إطلاق صواريخ باليستية تهاجم أراضي الاتحاد الروسي و(أو) حلفائه. ثانياً: استخدام العدو الأسلحة النووية أو أنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل على أراضي الاتحاد الروسي و(أو) حلفائه. ثالثاً: تأثير العدو على المنشآت الحكومية أو العسكرية الحيوية للاتحاد الروسي، التي سيؤدي فشلها إلى تعطيل إجراءات الرد للقوات النووية. رابعاً: العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة ذاته مهدداً.


العقيدة النووية الروسية لم تقدم أي تفسير حول كيفية تحديد التهديدات

ونشرت روسيا أول نسخة من "أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي"، في فبراير/ شباط 2010 حين كان ميدفيديف رئيساً للبلاد (2008 ــ 2012)، ولم تختلف عن النسخة الأخيرة في الأحكام العامة لاستخدام الأسلحة النووية، المنشورة في يونيو 2020. في السابق، كانت هذه الوثائق سرية ولم تكن متاحة للعامة. كما أن العقيدة النووية الروسية اتسمت بعدم الوضوح مقارنة بالعقيدة العسكرية الروسية في عام 2000، حين كانت عتبة استخدام الأسلحة النووية مختلفة وأكثر وضوحاً، وجاء فيها: "يحتفظ الاتحاد الروسي بالحق في استخدام الأسلحة النووية رداً على استخدام الأسلحة النووية وغيرها من أنواع أسلحة الدمار الشامل ضده و(أو) ضد حلفائه، وكذلك رداً على عدوان واسع النطاق باستخدام الأسلحة التقليدية في المواقف الحرجة للأمن القومي للاتحاد الروسي". ومن الواضح أن عتبة اللجوء إلى النووي وفق صياغة "في المواقف الحاسمة للأمن القومي للاتحاد الروسي" أقل من "عندما يكون وجود الدولة في خطر". واللافت أن بوتين وريابكوف لم يوضحا في تعليقاتهما الأخيرة التغييرات المحددة التي جرت مناقشتها في العقيدة النووية الروسية الحالية، فيما طرح بوتين في لقاء مع الصحافيين الأسبوع الماضي، على هامش منتدى سانت بطرسبرغ، صياغة مختلفة نوعاً ما وهي: "إذا كانت تصرفات طرف ما تهدد سيادتنا وسلامتنا الإقليمية، فإننا نعتبر أنه من الممكن لنا استخدام جميع الوسائل المتاحة لنا". وكرر الفكرة ذاتها في الجلسة العامة للمنتدى بالقول: "إن استخدام (الأسلحة النووية) ممكن في حالات استثنائية، في حالة وجود تهديد لسيادة البلاد وسلامتها الإقليمية".

غموض العقيدة النووية الروسية

من الواضح أن العقيدة النووية الروسية لم تقدم أي تفسير حول كيفية تحديد التهديدات من أجل استخدام هذه الأسلحة. والأرجح أن النطاق الواسع من التفسيرات ليس خللاً، بل سمة ميّزت المفهوم الروسي للردع النووي من باب إتاحة المجال للعدو لتحديد أفعاله وعواقبها. وقبل الحرب الروسية على أوكرانيا، بدت "الميزة" جيدة، ولكن مع تجاوز الغرب الكثير من الخطوط الحمراء في دعم أوكرانيا، بدا أن العقيدة النووية الروسية غامضة التفاصيل، إلا في الموقف المتعلق بـ"تعرّض البلاد لهجوم نووي مباشر من قبل العدو". وهذا ما دفع مسؤولين غربيين إلى الاعتقاد أن بوتين كان مخادعاً ببساطة.

وكررت روسيا رسمياً عدم نيتها استخدام الأسلحة النووية، رغم اختلاف التبريرات في ضوابط العقيدة النووية الروسية بهذا الخصوص، فضلاً عن عدم الحاجة لهذا النوع من الأسلحة في ظل الظروف الميدانية ووقائع الحرب في أوكرانيا. في المقابل، وللمرة الثانية منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، ازدادت المخاوف من احتمال استخدام القوات الروسية الأسلحة النووية. في المرة الأولى وعلى خلفية التقدم الأوكراني في مقاطعة خاركيف، شمال شرقي أوكرانيا، في خريف 2022، وانسحاب روسيا من مدينة خيرسون، جنوبي أوكرانيا، ارتفعت المخاطر من احتمال استخدام روسيا أسلحة نووية تكتيكية لمنع مزيد من الانهيار على الجبهات. والأرجح أن مسؤولين غربيين انطلقوا في تقديراتهم للتهديدات النووية من تعليقات محللين ومسؤولين سابقين في موسكو، ووصفوها بأنها "للابتزاز والضغط على الغرب". وبعد عام ونصف عام على الموجة الأولى من المخاوف، عادت الأحاديث حول التهديد بالتصعيد غير المنضبط نحو حرب نووية في شكل جديد، وفي ظل ظروف مختلفة. ومع التلميحات الروسية والتلويح بالنووي لفظياً وعبر مناورات، ربما رأى صنّاع القرار في الكرملين أنه بات لزاماً على الغرب الإقرار بما إذا كان مستعداً للتصعيد من أجل إنقاذ أوكرانيا، في تهديد، من الناحية النظرية، لاحتمالات نشوب صراع نووي حقيقي.

المساهمون