على الرغم من مرور 56 عامًا على هزيمة 1967، لا تزال مصر وأغلب الدّول العربيّة تعاني تداعياتها السياسيّة والاستراتيجيّة والإدراكيّة الممتدة، سيّما ما يتعلق بثلاثة عناصر؛ أوّلها "غياب المشروع العربيّ، أو غياب الرؤيّة الاستراتيجيّة"، وهيمنة منطق "ردات الأفعال"، وليس المبادرات على أغلب السياسات العربيّة.
ثانيها؛ تآكل "الهويّة العربيّة الجامعة"، وبروز هوياتٍ وانتماءاتٍ فرعيّةٍ/قَبْلِيّةٍ (قُطريّةٍ أو جهويّةٍ أو عشائريّةٍ)، خصوصًا مع افتقاد "الإطار العربيّ للحدّ الأدنى من التّماسك، بسبب الابتعاد الرسميّ العربيّ عن القضيّة الفلسطينيّة، وتصاعد سياسات إدماج إسرائيل في العالم العربيّ عبر عمليّة التّسوية والتّطبيع، وزيادة الضغوط الدّولية في حقبة "العولمة" أو "الأمركة"، في العقود الثلاثة الماضية.
وثالثها صعود أدوار القوى الإقليميّة غير العربيّة (تركيا، إيران، إسرائيل) في الشّرق الأوسط، ونجاحها، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، في توظيف المتغيرات الدّولية لاستكمال اختراق "الإطار العربيّ"، وتحوّلها فاعلًا مؤثرًا في أغلب القضايا العربيّة، (بدايةً من فلسطين والعراق، ومرورًا بلبنان وسوريّة، وليس انتهاءً بأمن الخليج وأمن البحر الأحمر، ناهيك عن تدخلاتها في الصراعات الأهليّة العربيّة في اليمن وليبيا والسودان وغيرها).
يبرز صراعٌ حول تحديد القضيّة المركزيّة للعرب، بين "مكافحة الإرهاب"؛ كما ترى القاهرة، وبين "الخطر الإيرانيّ"؛ كما ترى السعودية والإمارات والبحرين
وإذا جاز القول؛ إنّ الصعود المطّرد لدورَي أنقرة وطهران لم يبرز بوضوحٍ إلّا بعد حرب الكويت عام 1991، فإن هزيمة 1967، دشّنت عمليًّا دورًا إسرائيليًّا فاعلًا في إقليم الشّرق الأوسط، على حساب الأدوار العربيّة، خصوصًا دور القاهرة؛ إذ كرّست ثقافة "الهزيمة والعجز" في مواجهة إسرائيل، ودشّنت حقبةً من التراجعات السياسيّة/الإدراكيّة، على نحوٍ ما، اتضح في رفع الرئيس جمال عبد الناصر شعار "إزالة آثار العدوان"؛ إذ بات يَنظر إلى الصراع العربيّ الإسرائيليّ بوصفه "نزاعًا بين دول"، وليس "حالةً استعماريّةً" يجب تصفيتها. وكان هذا التحول واضحًا في قبوله، (في نوفمبر/ تشرين الثّاني 1967)، قرار مجلس الأمن رقم 242، والّذي جَمَعَ بين النصّ على "انسحاب إسرائيل من الأراضيّ الّتي احتلّتها في 1967، وبين حقّ جميع دول المنطقة، في العيش داخل حدودٍ دائمةٍ وآمنةٍ ومعترفٍ بها".
وعلى الرغم من "اللاءات الثلاث"، التي رفعتها القمّة العربيّة، في الخرطوم أغسطس/آب 1967، (لا سلام، لا اعتراف، لا مفاوضات)، فقد تآكلت هذه اللاءات تدريجيًّا في عشر سنواتٍ؛ إذ أدّى نهج "التّسوية المنفردة" لدى الرئيس المصريّ أنور السادات، (الذي زار إسرائيل عام 1977)، إلى انتقال مركز الثقل في القرارات العربيّة إلى العراق والسعودية، دون نجاحٍ كبيرٍ في وقف عمليّة تفكيك المواقف العربيّة من قضية فلسطين، أو تعويض غياب الدور العربيّ والأفريقيّ لمصر.
وهكذا ربّما يمكن الزعم باستمرار تداعيات هزيمة 1967، فلسطينيًّا وعربيًّا وإقليميًّا، مع غياب البدائل العربيّة في مواجهة إسرائيل وتصاعد دورها الإقليميّ "شبه المهيمن"؛ إذ أدّى تحكّم الولايات المتّحدة في عملية التّسوية إلى إدماج حليفها الإسرائيلي في نسيج المنطقة، بما يضمن أمنه وتفوقه، مقابل إضعاف الأطراف والأطر العربيّة والإقليميّة كافّةً، بغية تجريد الشعب الفلسطينيّ من أيّ دعمٍ عربيٍّ أو إقليميٍّ.
كما أدّت التّسوية إلى تشتيت الطاقات العربيّة، والانتقاص من شرعية "الإطار العربيّ"، وتغيّر مضمون السياسات العربيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة، الّتي تكاد تنحصر في: "الإدانات اللفظيّة" العربيّة للانتهاكات الإسرائيليّة، وإعادة طرح "مبادرة السّلام العربيّة" مرّاتٍ عدةٍ منذ عام 2002، ودعم مسارات التّسوية مع إسرائيل، بالتوازي مع تحفّظ أغلب الدول العربيّة على إقامة علاقاتٍ مع قوى المقاومة الفلسطينيّة، أقله من باب توسيع البدائل والخيارات العربيّة، بدلًا من استمرار الرهان على المفاوضات والتّسوية، بوصفها "خيارًا استراتيجيًّا عربيًّا".
ودون مبالغةٍ أو تبسيطٍ مخلٍّ، ربّما يكون الطّرفان الفلسطينيّ والمصريّ، الأكثر تضررًا من تداعيات هزيمة 1967، التي خلقت بيئة التّسوية مع إسرائيل، وزادت مستوى الترابط معها، سيّما بسبب غياب الرؤيّة الاستراتيجيّة لدى القيادات المصريّة، والإخفاق المتكرر في إعادة بناء الدّولة المصريّة على الصعد المؤسسيّة أو التنمويّة أو الدّيمقراطيّة، خصوصًا في عهد حسني مبارك (1981- 2011)، الذي عمل على "أمننة" (Securitization) علاقات مصر الإقليميّة، وتضييق مفهوم "الأمن القوميّ"، ليصبح مرادفًا لأمن النّظام الحاكم؛ إذ تحوّل "الأمن الاقتصاديّ" إلى قمّة الأولويّات، بعد تزايد اعتماده على النظم الخليجيّة، مع تجاهل مخاطر التغلغل الإسرائيليّ في القارة الأفريقيّة، سيّما دخول إسرائيل على خط مشاريع التعاون المائيّ مع إثيوبيا، بالتوازي مع توظيف مبارك فزّاعة صعود "الإرهاب الإسلاميّ" (في حال تخفيف قبضته عن السلطة، أو فسح المجال أمام مستوياتٍ من الانفتاح السياسيّ أو الانتخابات النزيهة).
بات يَنظر إلى الصراع العربيّ الإسرائيليّ بوصفه "نزاعًا بين دول"، وليس "حالةً استعماريّةً" يجب تصفيتها
بيد أنّ تداعيات غياب الرؤيّة الاستراتيجيّة لم تكتمل فصولها إلّا بعد تحوّل الإدراك المصريّ في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، نحو الشراكة مع إسرائيل، ما أدّى إلى تراجع دور مصر، ودورانها في فلك الأطراف المانحة (الخليجيّة والدّوليّة)؛ إذ أصبحت السياسة الخارجيّة تعكس هواجس النّظام داخليًّا وإقليميًّا، الّتي تهيمن عليها أولويّات "مكافحة الإرهاب" (عبر: مساندة الثّورات المضادّة لإجهاض أيّة إمكانيّةٍ للتحول الدّيمقراطيّ في العالم العربيّ، والتّماهيّ مع المصالح الإسرائيليّة، والعداء لتيارات الإسلام السياسيّ، خصوصًا حركة الإخوان المسلمين).
على صعيدٍ آخر، لم تستطع السّعودية (ولا غيرها من الدّول العربيّة) تعويض دور مصر، ولا بناء شبكة علاقاتٍ عربيّةٍ وإقليميّةٍ سليمةٍ، تستفيد من صعود الدوريْن التركيّ والإيرانيّ في الشّرق الأوسط، لدعم قضيّة فلسطين، وعزل إسرائيل وصدّ الضّغوط الأميركيّة الكثيفة؛ إذ بقي "الإطار العربيّ" يعاني تآكل مصادر قوته، وتفاقم مكامن ضعفه، حتى تكرّس الاختلال في أولويّات "الإطار العربيّ" لتتراجع قضيّة فلسطين عن مكانتها التقليديّة، لكي يبرز صراعٌ حول تحديد القضيّة المركزيّة للعرب، بين "مكافحة الإرهاب"؛ كما ترى القاهرة، وبين "الخطر الإيرانيّ"؛ كما ترى السعودية والإمارات والبحرين، التي كادت تتماهى مواقفها مع توجهات الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب (2017- 2020)، في تهميش قضيّة فلسطين والدفع بقضيّة خنق إيران إلى الواجهة، ولو عبر تكثيف التعاون والشراكة مع إسرائيل، الّتي أمعنت في سياساتها الاستيطانيّة، وفي تنفيذ مشروع الأبارتايد، واستكمال مخططاتها ضدّ الشّعب الفلسطينيّ.
وهذا يؤكد إجمالًا، أمرين؛ أحدهما خطورة "غياب المشروع العربيّ"، و"غياب الرؤية الاستراتيجيّة"، وتآكل الهويّة العربيّة، على نحوٍ أضعف تأثير البعد العربيّ في تحديد مستقبل المنطقة العربيّة، التي باتت رهينة صراعات/تجاذبات القوى الإقليميّة والدّوليّة، على الموارد والنفوذ في بلاد العرب. والآخر خطورة "التكيّف" مع السياسات الدّوليّة، خصوصًا الأميركيّة، تجاه إقليم الشّرق الأوسط، في ظلّ "استمراء" النّظم العربيّة سياسات العمل على إجهاض نهوض الشّعوب العربيّة، وإفشال ثوراتها ومطالبها العادلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعيّة، ما يفتح الباب أمام سيناريوهات مخيفة، تقترب من "الفوضى الإقليميّة" أو "الانهيارات الشاملة".