الصين: تخبط سياسي بعد التخلي عن "صفر كوفيد"

16 يناير 2023
محطة قطار في بكين، الجمعة (تينغسو وانغ/رويترز)
+ الخط -

لا تزال الصين تكافح من أجل احتواء تداعيات قرارها المفاجئ في التخلي عن سياسة "صفر كوفيد" التي استمرت لنحو ثلاث سنوات، ما أدى إلى تدهور الوضع الصحي في البلاد، خصوصاً مع إعلان السلطات، أول من أمس السبت، تسجيل نحو 60 ألف حالة وفاة مرتبطة بكوفيد بين 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي و12 يناير/كانون الثاني الحالي. وهي المرة الأولى التي تصدر فيها الصين حصيلة وفيات جديدة منذ أن توقفت عن فعل ذلك في 7 ديسمبر الماضي.

عوامل سياسية وغياب الاستراتيجية الواضحة

ويعتقد خبراء بأن بكين لم تكن لديها استراتيجية واضحة للخروج من الأزمة والتراجع عن سياسة "صفر كوفيد"، ولم تكن مستعدة لذلك، بل جاء القرار استجابة لضغوط شعبية عقب الاحتجاجات المفاجئة التي تفجرت في البلاد وعوامل سياسية أخرى، مرتبطة بصورة البلاد في الخارج وبمكانة الرئيس الصيني شي جين بينغ، زعيماً مطلقاً خلفاً للزعيم الراحل ماو تسي تونغ.



خوا شوي: العديد من النشطاء تلقوا رسائل تفيد بأنهم تحت المراقبة

وكانت بكين أطلقت استراتيجيتها الحكومية المعروفة بـ"سياسة صفر كوفيد"، بعد ظهور الوباء في مدينة ووهان، وسط الصين، في نهاية عام 2019، ولجأت السلطات إلى التعقب السريع للعدوى من خلال الاختبارات الجماعية لملايين السكان والحجر الصحي الإلزامي لمكافحة تفشي الوباء. وتمكنت هذه السياسة من الحفاظ على حد أدنى من الإصابات والوفيات مقارنة بدول أخرى.

وروّجت وسائل الإعلام الرسمية لـ"الإنجاز" باعتباره دليلاً واضحاً على تفوق الاستراتيجية الشيوعية على الأنظمة الديمقراطية التي قررت التعايش مع الوباء.

ولكن مع استمرار الإجراءات الصارمة، وإغلاق المدن لفترات طويلة، بدأ التذمر الشعبي يأخذ منحى آخر، تجلى في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين أدى اندلاع حريق في مجمع سكني بمدينة أورومتشي، قيل إنه كان قيد الإغلاق، إلى مقتل عشرة أشخاص، مما أثار موجة من الاحتجاجات الشعبية في عموم البلاد.

وقد ردد المتظاهرون شعارات تدعو إلى وضع حد لاستراتيجية "صفر كوفيد"، وتجرأ بعضهم على المطالبة بتغيير النظام. ولم تمض أيام حتى استجابت الحكومة لمطالب المحتجين من خلال تخفيف القيود، قبل أن تعلن بصورة رسمية في 7 ديسمبر الماضي وقف العمل بسياسة "صفر كوفيد"، في تحوّل مفاجئ وغير متوقع.

ومع ذلك، لم تعترف بكين صراحة بأن الاحتجاجات الشعبية كانت أحد الأسباب الرئيسية للتخلي عن استراتيجيتها، بل ذهبت إلى تبرير ذلك بأنه تتويج لجهود السلطات الصحية في الحد من تأثير الفيروس وانتشار العدوى، وكذلك تطور الطب التقليدي الصيني، واستكمال سياسة التطعيم وصولاً إلى تحقيق مناعة القطيع. وهو أمر اعتبره خبراء مؤشراً على مستوى القلق والتخبط الذي تعيشه القيادة الصينية بسبب التطورات الأخيرة.

لكن على الرغم من مرور نحو شهرين على اندلاع الاحتجاجات، فإن تأثيرها لا يزال قائماً، وصدى أصوات المتظاهرين لا يزال يربك الحسابات ويقلق صنّاع القرار. فخلال الأيام الأولى من الحركة الطلابية ضد سياسة "صفر كوفيد"، اعتقلت السلطات عدداً غير محدد من الطلاب في أكثر من مائة جامعة وكلية في جميع أنحاء البلاد، وقامت بتحديد إقامة المئات منهم.

وحسب الناشطة الحقوقية خوا شوي، فإن وزارة الأمن الصينية لم تغلق ملف المحتجين حتى بعد إنهاء سياسة "صفر كوفيد". وتكشف خوا، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "العديد من النشطاء تلقوا رسائل تفيد بأنهم تحت المراقبة"، مضيفة أن "السلطات لجأت إلى سجلات الهواتف النقالة لمعرفة الذين شاركوا في الوقفات الاحتجاجية، كما استخدمت في تعقبهم تقنية التعرف على الوجوه من خلال بصمة العين".

وتوضح أن "ذلك يبرز حجم المخاوف التي تسيطر على الحكومة من تجدد التظاهرات"، لكنها تستبعد ذلك على "اعتبار أن أسباب التظاهر قد سقطت مع الإعلان رسمياً عن إنهاء العمل بسياسة صفر كوفيد".

من جهته، يتحدث أستاذ الدراسات السياسية في جامعة تايبيه الوطنية، جين توي، لـ"العربي الجديد"، عن "التداعيات السياسية لتخلي بكين عن استراتيجيتها، وتأثير ذلك على مكانة الرئيس شي، والتحديات التي قد تواجه الحزب (الشيوعي الحاكم) في المستقبل".

ويرى أنه "بغض النظر عما يسوّقه الإعلام الرسمي في تبرير ذلك، فإن الشعب الصيني وصل إلى درجة من اليقين بأن قرار وقف صفر كوفيد هو بمثابة إعلان فشل للسياسة الحكومية، أي فشل استراتيجية الحزب والرئيس". ويضع ذلك في خانة "الشعور العام بعدم الثقة في القيادة، وأن قراراتها قد تخطئ وتصيب، وليست منزّهة ومثالية كما تصورها آلة الدعاية الحزبية".


لي يوان مارتن: الحكومة لم تقدم تفسيراً بشأن انخفاض معدلات التطعيم في صفوف المسنين وقلة الموارد الصحية

ويلفت جين إلى أن "الأخطر من ذلك هو أن حالة الإخفاق في سياسة صفر كوفيد كسرت حاجز الخوف، وجعلت الناس تتجرأ حتى على شخص الرئيس، كما أن رضوخ السلطات لمطالب المحتجين، جعل الناس تدرك بأن هناك جدوى من التظاهر والعصيان المدني، وهذا الأمر أكثر ما يقلق القيادة الصينية".

ويتوقع جين بأنه "سيكون من الصعب على الحزب بعد ذلك، ضمان امتثال المواطنين والتسامح الاجتماعي مع عدم كفاءة الحكومة". ويعتبر الأكاديمي المقيم في تايوان، أن "الطريقة التي أدار بها الحزب الحالة الوبائية من خلال إعطائها طابعاً سياسياً، وتصوير مكافحة الوباء على أنه معركة ضد قوى رأسمالية تستهدف النهوض الشيوعي، أضرّت بصورة الصين ليس فقط في الداخل، بل أيضاً في الخارج".

ويرى أن "ذلك من شأنه أن يعيق جهود الرئيس الصيني شي جين بينغ، لإثبات أن بلاده لديها نظام حوكمة متميز ومتطور يؤهلها لإصلاح وقيادة نظام الحوكمة العالمية".

ويشير جين إلى أن "بكين أهدرت وقتاً طويلاً في الالتزام بسياسة غير ناجعة، في وقت كانت فيه الدول الأخرى تتعافى بعد انتهاج سياسة التعايش مع الوباء، فثمن ثلاث سنوات من الامتثال الصارم، كان مزيداً من الإصابات والوفيات والانهيار الاقتصادي".

ويشدّد على أنه "ربما تستطيع الصين أن تتجاوز الأزمة الاقتصادية، لكن لا يمكن بأي حال إعادة ترميم الثقة بين الشعب والحزب، فالندوب التي تركتها سياسة صفر كوفيد ستظل آثارها باقية لعقود طويلة".

لا تفسير للتخلي عن سياسة "صفر كوفيد"

من جهته، يقول الباحث في مركز كولون (مقره هونغ كونغ) للدراسات السياسية، لي يوان مارتن، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "من الواضح أن السلطات الصينية لم تكن لديها خطة جاهزة للخروج من الأزمة، ولم تشرح خطواتها بشكل مسبق ولم تهيئ الرأي العام لرفع القيود والتخلي عن السياسات الصارمة، الأمر الذي يؤكد حالة التخبط وسوء التخطيط".

ويوضح أن "الحكومة لم تقدم تفسيراً بشأن التحول في مسألتين هامتين شكلتا دعامة أساسية لتبرير سياسة صفر كوفيد على مدار الثلاث سنوات الماضية، وهما: انخفاض معدلات التطعيم في صفوف المسنين، وقلة الموارد الصحية، بينما نشهد اليوم طفرة الوفيات بالنسبة للمسنين بسبب رفع القيود، وكذلك عدم قدرة المستشفيات على استيعاب المصابين نتيجة قلة الأسرّة والإمدادات الطبية.

ويرى لي أن "القرار جاء مباغتاً حتى بالنسبة للعاملين في المجال الطبي، وهو أمر يشير إلى أن التخلي عن سياسة صفر كوفيد لا يمكن تفسيره خارج دائرة الضغط السياسي والاجتماعي الذي تعرضت له بكين بسبب الاحتجاجات الشعبية".

ويضيف أن "وسائل الإعلام الصينية انتقدت في السابق فكرة التعايش مع الوباء باعتبارها سياسة صحية غير مسؤولة، وقالت إن الصين أعطت الأولوية لحياة الناس على الرغم من الأضرار الاقتصادية. لكنها اليوم تنتهج نفس السياسة، وتقدم مبررات جديدة غير منطقية".

المساهمون