تتفاقم منذ أسابيع أوضاع العراقيين، الذين تجاوز عددهم 3800 شخص، في دولة ليتوانيا الصغيرة على بحر البلطيق، في سياق سياسة ينتهجها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، لإغراق أوروبا بالمهاجرين.
ويُطلق الاتحاد الأوروبي على سياسة لوكاشينكو اسم "الضوء الأخضر لتدفق اللاجئين"، و"اتجار رسمي بالبشر"، لخوض ما يصفونه بـ"حرب هجينة"، انتقاماً منهم لمواقفهم المؤيدة للحركة الديمقراطية منذ رفض نتائج الانتخابات الرئاسية قبل نحو عام.
واعتمد لوكاشينكو، صيف العام الحالي، سياسة "الحدود المفتوحة" من خلال السماح بانتقال من تقطعت بهم السبل في عاصمة البلاد مينسك نحو الحدود الليتوانية، إذ إنّ نحو 650 كيلومتراً تفصل بين البلدين.
ويبدو أنّ بضع مئات لم تكن رقماً كافياً للضغط على الأوروبيين، الذين تحركوا سريعاً من خلال رئاسة المفوضية والمجلس الأوروبيين، لدعم إجراءات فيلنيوس من خلال المال وتعزيز دوريات وكالة حراسة الحدود الأوروبية "فرونتيكس"، فاختار لوكاشينكو تسيير رحلات مباشرة من العراق إلى مينسك، ومنها نحو حدود الاتحاد الأوروبي. فمقارنة بنحو 80 شخصاً عبروا حدود بيلاروسيا العام الماضي 2020، شهدت الأشهر القليلة الماضية تدفق ما يربو على 4 آلاف شخص.
وتتهم الدول الأوروبية بيلاروسيا بزيادة جداول "الخطوط الجوية العراقية"، وبشكل رئيس من البصرة والسليمانية وأربيل، مباشرة نحو مينسك، وهو ما يعتبره ساسة الاتحاد الأوروبي استغلالاً لظروف الناس في سياق لعبة سياسية كبيرة.
وذهب قبل أيام نائب وزير الداخلية البولندي، ماسيج واسيك، إلى اتهام مينسك بقيادة "حرب هجينة" ضد بلاده التي باتت تعاني، إلى جانب ليتوانيا، أيضاً من سياسة لوكاشينكو في الحدود المفتوحة أمام المهاجرين، بحسب ما نقلت عنه "رويترز".
ولا يبدو أن الشكوك البولندية في أن الأمر يسير بشكل منهجي وبتنظيم مباشر من لوكاشينكو لا تستند إلى وقائع، فعدا عن أن وارسو باتت توقف عراقيين أكثر يحاولون اجتياز حدودها، فإن تحقيقات صحافية لقناة تلفزيونية ليتوانية كشفت عن وجود مواقع تواصل اجتماعي عراقية مشفرة، وعلى موقع تليغرام باللغة العربية، تعد الناس بنقلهم من خلال بولندا، عبر مينسك، نحو ألمانيا.
ويتوسع الأمر في استغلال لوكاشينكو السياسي لأوضاع الناس في المنطقة نحو زيادة الرحلات الجوية المباشرة من دمشق، بحسب ما ذهب إليه موقع "إي يو أوبزرفر"، الذي كشف عن وعود مهربي البشر بالوصول إلى ألمانيا بالتهريب من خلال بولندا.
وبعيداً عن استغلال جناح اليمين المتشدد في دول الشمال، الإسكندينافي خصوصاً، لترجمات إحدى صفحات التهريب التي حملت صيغة "غزوة جديدة"، لتأكيد وجهة نظرها المعارضة لقدوم لاجئين، باعتباره غزواً للقارة، وهو التعبير الذي يعتمده رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان. إلا أنّ ما يلفت في تعاطي السياسيين والصحافة الأوروبية مع الظاهرة الجديدة أن السلطات العراقية "وعدت في يوليو/تموز الماضي، بعد زيارة وفد رسمي (ليتواني)، ببحث القضية والتدخل فيها، لكن الخطوط الجوية العراقية بعد أيام من زيارة الوفد زادت من رحلاتها إلى مينسك"، وفقاً لما ينقل تلفزيون "إل آر تي" الليتواني الناطق بالإنكليزية.
مشاهد التكدس العراقي المنقولة في الصحافة المحلية، وحصول صدامات بين هؤلاء والشرطة الليتوانية، توضح المأزق الذي يجد فيه الآلاف أنفسهم كرهائن في لعبة سياسية كبيرة يلعبها "آخر ديكتاتوريي أوروبا"، ألكسندر لوكاشينكو، كما تصفه الصحافة والسياسيون الأوروبيون، للتعبير عن امتعاضهم من العقوبات الأوروبية المتزايدة على نظامه بسبب قمعه للاحتجاجات الشعبية وارتكابه قرصنة جوية بإجبار طائرة مدنية على الهبوط في مينسك لاعتقال ناشط شاب على متنها.
الاتحاد الأوروبي، من ناحيته، لم يتردد في فهم الرسالة التي أرسلها لوكاشينكو في استغلاله مسألة الهجرة غير الشرعية كأداة ضغط سياسي على الاتحاد، فأكدت دوله أن القادمين من العراق برحلات جوية واختراق الحدود، سواء نحو بولندا أو ليتوانيا، سيُعادون جميعاً إلى وطنهم.
ودخلت ليتوانيا في مفاوضات مع بغداد الشهر الماضي، من خلال زيارة وزير خارجيتها غباريليوس لاندبيرغيس، الذي أكد أنه تم الاتفاق على مبادئ سياسية وبحث التفاصيل التقنية.
وإلى ذلك، أكدت أيضاً مفوضة الشؤون الداخلية في الاتحاد الأوروبي، إلفا يوهانسون، خلال زيارتها لفيلنيوس الأسبوع الماضي، أنه "يجب أن نوضح أنه لا توجد حرية وصول إلى دول الاتحاد الأوروبي، ويتعين على دول شينغن وليتوانيا وبقية الدول الأعضاء منع وصول غير المصرح لهم".
ودفعت التطورات الأخيرة الأوروبيين إلى تقديم حزمة مساعدات عاجلة مالية، وبعض التسريبات تتحدث عن 100 مليون يورو لاستكمال سياج فاصل مع بيلاروسيا، وتعزيز حرس الحدود الأوروبيين، مع تأمين 30 دورية إضافية وطائرتي هليكوبتر لمراقبة الحدود.
واعتبرت يوهانسون أن ما يقدم عليه لوكاشينكو من استغلال ظروف العراقيين وغيرهم في المنطقة أمر غير مقبول، و"هو بمثابة استفزاز مباشر، ومن المهم للغاية أن يقف الاتحاد الأوروبي موقفاً موحداً مع ليتوانيا لحماية حدودنا الخارجية مع بيلاروسيا".
وإلى أن تجري ترجمة تلك السياسة، التي تتهم مينسك برعاية رسمية للاتجار بالبشر، لا تزال أعداد العراقيين الذين يقعون ضحية مهربين يعدونهم بالوصول إلى ألمانيا والدول الإسكندينافية في تزايد مستمر مع استمرار الرحلات الجوية، التي في العادة يعاقب عليها القانون الأوروبي في حال نقل الشركات الناقلة أشخاصاً لا يحملون صفة دخول إلى دول الاتحاد الأوروبي.
ورغم غياب حدود برية بين ليتوانيا ودول المقصد للمهاجرين، يستمر البعض في استغلال مالي للراغبين بالوصول إلى وجهاتهم من خلال إيهامهم بأنهم يمكنهم الوصول من خلال العاصمة البيلاروسية إلى ألمانيا وإيطاليا.
ويسيطر ألكسندر لوكاشينكو، المدعوم من موسكو، على السلطة في بلاده منذ 27 سنة، واتُّهم العام الماضي من قبل الأوروبيين والمعارضة بتزوير نتائج الانتخابات الرئاسية.
وخلال عام من قمع الاحتجاجات، اعتُقل المئات من السياسيين والصحافيين، وفرّ آخرون إلى خارج البلاد خشية اعتقالهم، وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية متتالية على النظام، التي تهدف إلى "تجفيف أموال نظام لوكاشينكو"، بحسب ما صرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس في أعقاب الحزمة الرابعة من العقوبات في بداية الصيف الحالي.