الذكرى الـ22 لهبة القدس والأقصى... مسوغات تفجرها مجدداً حاضرة

01 أكتوبر 2022
فلسطينيون يرشقون الاحتلال بالحجارة في الأقصى، إبريل الماضي (مصطفى الخاروف/الأناضول)
+ الخط -

يحيي الفلسطينيون في الداخل المحتل، في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، الذكرى الـ22 لهبة القدس والأقصى، وسط استشراس الاحتلال في سياسة الفصل العنصري والتهويد وتصعيد عمليات هدم البيوت العربية والاستحواذ على الأراضي والملاحقات والقمع الشرطي، واقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى، ووسط حالة من التشرذم والانقسامات بين الأحزاب العربية الفاعلة على الساحة السياسية الإسرائيلية، ولا سيما بعد تفكك القائمة المشتركة.

كما تحل الذكرى هذا العام وسط انفجار الأوضاع في الضفة الغربية المحتلة، وتصاعد جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، وارتقاء الشهداء.

وبيّن مدير مركز الدراسات المعاصرة، الباحث صالح لطفي، سياسات الاحتلال الإسرائيلي الفاشية التي تفاقمت منذ النكبة وصولاً لليوم.

جوني منصور: ذكرى هبّة أكتوبر تحل هذا العام والاحتلال يواصل تنفيذ مخططاته لاقتلاع الشعب الفلسطيني

وقال لطفي، لـ"العربي الجديد": "بداية لا بد من التشديد على مسألتين أساسيتين تتعلقان بهبة القدس والأقصى التي مضى عليها 22 سنة. المسألة الأولى أن هذه الهبة كانت متعلقة أساساً بموضوع المسجد الأقصى، واقتحام أرئيل شارون في تلك المرحلة التاريخية الهامة للأقصى، والذي نجمت عنه تداعيات في الداخل الفلسطيني، سقط على أثرها 13 شهيداً (12 من الداخل وشهيد من غزة)".

وأشار إلى أن "المسألة الثانية تتعلق بالمظلومية التي وقعت على شعبنا في الداخل الفلسطيني منذ قيام إسرائيل، وهي مستمرة للآن. لكن تلك المظلومية جاءت في سياقين، النكبة وتداعياتها بالحكم العسكري، واتفاقية أوسلو وتداعياتها على القضية الفلسطينية، والتي كان من المتوقع أن تكون في 2000، عام تحقيق الحلم الفلسطيني وقيام دولة على حدود عام 1967 في ظل المحددات الإسرائيلية التي وضعتها بالاتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية، وما بعدها مما نسميه سلطة أوسلو".

هبة القدس والأقصى حدث مفصلي

وأشار المؤرخ والباحث جوني منصور إلى أن هبة القدس والأقصى عام 2000 لم تكن مجرّد حدث عابر، أسوة بمواجهات مستمرة مع الاحتلال الاسرائيلي في مناطق مختلفة من فلسطين التاريخية.

وشدد منصور، في تصريح لـ"العربي الجديد"، على أنّه "حدث مفصلي عكس وجهة نظر دولة اسرائيل تجاه المواطنين العرب فيها. أي أنها تتعامل معهم بالحديد والنار عندما يعلنون تمسّكهم بحقوق شعبهم الفلسطيني، وفي مقدّمتها إقامة دولتهم على الأراضي الفلسطينية وعاصمتها القدس".

وأضاف منصور: "اعتقدت حكومة اسرائيل في حينه، ولا تزال، أن لجوءها إلى القوة المفرطة، لدرجة القتل المتعمَّد، يمكنها من كبح وإيقاف دعم فلسطينيي الـ48 لإخوانهم الرازحين تحت أبشع احتلال عرفه العالم منذ فجر التاريخ".

الظروف الحالية شبيهة بتلك التي فجرت الانتفاضة

ورغم مرور 22 سنة على انطلاق شرارة الانتفاضة الثانية، فإن الظروف حالياً لا تختلف كثيراً عن تلك التي فجرت انتفاضة الشعب الفلسطيني. فالأفق السياسي لحل سلمي مسدود بتعنت إسرائيلي، وجرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين، وإمعانه في سياسات الفصل العنصري، وتغوّل الاستيطان بالقدس والضفة الغربية، وإذكاء مخططات التهويد ومواصلة حصار قطاع غزة لما يزيد عن 17 سنة، تفاقمت وغدت أكثر وحشية وفاشية.

واعتبر منصور أنّ كلّ سنة مرّت منذ أكتوبر 2000 بيّنت استمرار رفض الحكومات الإسرائيلية قبول وجود الشعب الفلسطيني، وهي "تملك خطة واحدة، تهدف إلى استمرار حضور النكبة في حياة الشعب الفلسطيني وعدم السعي إلى أي حل سلمي يكون مؤسّساً على الحقوق الكاملة للشعب العربي الفلسطيني في أرضه التاريخية".

وأضاف أن "ذكرى هبّة أكتوبر تحل هذا العام، والاحتلال يواصل تنفيذ مخططاته لاقتلاع الشعب الفلسطيني، ليس فقط في الضفة الغربية، بل في الداخل الفلسطيني أيضاً، من خلال تفعيله رزمة من القوانين العنصرية التي لم تسبقها له أيّ دولة أو كيان آخر من قبل سوى الأنظمة التوتاليتارية".

واستعرضت حنين زعبي، النائبة السابقة والقيادية في حزب التجمع الوطني الديمقراطي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، التحولات على المشهد السياسي والفجوة العميقة بين الهوية الوطنية والفعل السياسي للفلسطينيين بالداخل، بعد مرور عقدين على الانتفاضة الثانية.

وقالت: "مرّت 22 سنة على الانتفاضة الثانية، لكننا نبعد هوة سحيقة عن عقد الانتفاضة الذي تميز بإعادة اللحمة بين الهوية الوطنية والشعور بأننا جزء عضوي من الشعب الفلسطيني وأدائنا ودورنا السياسي في الداخل ككل".

مواطنتنا لا تعني خروجنا من الصراع

وأضافت: لكن الآن أصبحت العلاقة بين هويتنا ودورنا السياسي عبارة عن "اجتهاد سياسي" وليست حقيقة وجودنا. إن عقد الانتفاضة الثانية كان عقد الإجماع الفلسطيني في الداخل، وعقد اغتراب عن الدولة العبرية بعد صدمة وبداية إدراك لحقيقة أن مواطنتنا لا تعني خروجنا من الصراع ــ استبدال الوجود والسيادة الفلسطينية بوجود وسيادة صهيونية ــ الذي يتخذ له أشكالاً وأدوات واستراتيجيات أخرى من خلال المواطنة.

حنين زعبي: الوهن السياسي وغياب المشروع الوطني أحد أسباب تلاشي بعض ملامح ومخرجات الانتفاضة الثانية

وتابعت: بالتالي طور الداخل خلال عقد الانتفاضة سردية سياسية ملتحمة مع التاريخ والهوية. وكان خطاب الانتماء الفلسطيني والعداء والاغتراب عن المجتمع والمؤسسات الإسرائيلية ملمحاً أساسياً من ملامح عقد الانتفاضة في الداخل، وسط هيمنة التيار الوطني على المشهد والخطاب السياسيين".

وتتفق الفعاليات السياسية الوطنية بالداخل والباحثين والمؤرخين أن هبة القدس والأقصى تؤكد بالمجمل العام على عدة ثوابت في مسيرة الداخل الفلسطيني.

وقال لطفي: "أولاً، نحن جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية والمهاجر والشتات. ثانياً، إن المقدس في الداخل الفلسطيني، أي الأقصى، خط أحمر، حيث لا يمكن أن يتحمل الفلسطينيون، في أي مكان كانوا، الاحتلال الإسرائيلي الذي يفضي إلى ترويع المصلين إلى حد القتل".

وأعطى مثالاً "ما حدث عام 2021 في المسجد الأقصى عندما أراد (رئيس الحكومة السابق بنيامين) نتنياهو استخدام المسجد الأقصى لافتة انتخابية دعائية، ومنع المصلين في رمضان من الوصول في ليلة القدر للمسجد، حيث انطلقت هبة الكرامة في عموم الداخل الفلسطيني، في النقب والجليل والمثلث وفي المدن الساحلية. وقد فاجأت هذه الهبة المؤسسة الإسرائيلية في كل مكوناتها السياسية والأمنية والحكومية على اختلاف مسمياتها".

وتابع لطفي: "ثالثاً، يحيي الداخل الفلسطيني هبة القدس والأقصى من باب التأكيد على الثوابت المتعلقة بفلسطين التاريخية، أرضاً ووطناً ومقدسات، والتأكيد على أن الفلسطيني في الداخل سيبقى فلسطينياً في جوهره وعرضه، ومنتمياً لشعبه الفلسطيني وأمته العربية وعالمه الإسلامي".

أسباب هبة القدس لم تشهد تغييراً يذكر

وأكد رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية بالداخل محمد بركة أن الظروف والعوامل والأسباب التي أدت إلى اندلاع هبة القدس والأقصى، لم تشهد تغييراً يذكر.

وقال لـ"العربي الجديد": "لا تزال الأسباب نفسها التي كانت قائمة في حينه حاضرة وبقوة، على الرغم من مرور 22 سنة على اندلاع الهبة والانتفاضة على المستوى الفلسطيني العام، حيث إن سياسات تهويد القدس والاقتحامات والانتهاكات للمسجد الأقصى وكنيسة القيامة ما زالت مستمرة".

وأضاف: "دون أدنى شك، فإن القضية الفلسطينية التي يحاولون وضعها تحت السجادة وخنقها كلياً، ما زالت جوهر الصراع في المنطقة، حتى لو ذهب البعض لمسارات التطبيع مع دولة الاحتلال، وحتى في ظل الانقسام المقيت الذي يعصف بالفلسطينيين والحالة السياسية الفلسطينية".

ورأى أن النضال الشعبي هو الخيار الأقوى والأنجع لتحقيق التحرر الوطني وإنهاء الاحتلال، وقال: "اعتقدنا دوماً وما زلنا نعتقد أن النضال الشعبي هو الوسيلة الأساسية للتعبير عن ضمير الشعب الفلسطيني وإرادته".

وقال: "لا يكفي أن تكون إرادة الشعب الفلسطيني متمثلة في قيادات وفصائل وطاولات مفاوضات، فالأمر الحاسم، والذي يمكن أن يغير موازين القوى، هو الانخراط الشعبي في النضال الوطني، كل وفق ساحاته وإمكانياته وأولوياته".

وأشار بركة إلى أن "أي مفاوضات تجري دون رديف شعبي وكفاحي محكومة لتوازن القوى على الطاولة، بمعنى أنها محكومة لإسرائيل". واعتبر أن "كل هبة وانتفاضة شعبية لا تحمل مشروعاً سياسياً عبارة عن شكل من أشكال التنفيس، وليس سعياً لتحقيق مشروع وطني، بمعنى أن المشروع السياسي والنضال الشعبي توأمان متلازمان، إذا غاب أحدهما عن الآخر فقد الآخر مكانته".

مخاوف من أفول ذكرى الانتفاضة الثانية

وفي ظل الوهن السياسي وتزاحم الهموم والقضايا المصيرية للفلسطينيين في الداخل، تحذر عوائل شهداء هبة القدس والأقصى من فقدان الذكرى زخمها الشعبي والإعلامي والسياسي. وقال إبراهيم أبو صيام، والد الشهيد أحمد، إنه "رغم مرور 22 سنة على استشهاد أبنائنا، إلا أنهم حاضرون بقلوبنا، فالجرح مفتوح ولن يلتئم ويؤلمنا أكثر من الجميع".

إبراهيم أبو صيام: أفول نجم ذكرى هبة القدس والأقصى ناجم عن عدة عوامل

وتابع أبو صيام، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنه "في العقد الأول للانتفاضة شهدنا التفافاً شعبياً واسعاً واهتماماً كبيراً بقضية الشهداء، ولكن في العقد الأخير طرأ تراجع في التعاطي مع القضية، على مستوى الوعي الجمعي وعلى المستوى السياسي والشعبي وأصابها التهميش، الأمر الذي يستوجب حماية الذاكرة".

ويدرك أبو صيام أن أفول نجم ذكرى هبة القدس والأقصى ناجم عن عدة عوامل، وقال: "نحن كأسر شهداء لا نوجه اللوم لأحد ولا للهيئات التمثيلية، فقد تراكمت علينا الأحداث، مثل مظاهر الجريمة والقتل وقضايا الأسرى في سجون الاحتلال وهدم البيوت وتدنيس الأقصى. كلها قضايا مصيرية طغت على هبة القدس والأقصى".

وأضاف: "لا نلوم لجنة المتابعة، ممثلنا الوطني والشعبي، على هذا التراجع، فهي تعالج وتتابع جملة من القضايا الحارقة، التي أجبرتنا مع السنوات على التنازل عن خطوة الإضراب الشامل بسبب كثرة الإضرابات التي نشهدها كمجتمع. ونحن ندرك أن هناك قضايا هامة يجب أن تأخذ حقها. ولا أخفي أملنا بأن تبقى الذكرى حاضرة على مدار كل السنة".

وناشد أبو صيام عموم الشعب الفلسطيني المشاركة في نشاطات إحياء ذكرى شهداء هبة القدس والأقصى، قائلاً إن "الذكرى غالية على قلوبنا كأهال، وأدعو كل أبناء وبنات شعبنا للوحدة في هذه الذكرى، وللمشاركة في المسيرة المركزية وفاء للشهداء وتخليداً لذكراهم. هذا اليوم بالنسبة لنا هو عيد، وفيه نستذكر شهداءنا بكل فخر وكبرياء، ونعتز لأنهم ارتقوا دفاعاً عن المسجد الأقصى وقضيتنا العادلة".

وتعزو حنين زعبي أحد أسباب تلاشي بعض ملامح ومخرجات الانتفاضة الثانية في أوساط فلسطيني الداخل، إلى الوهن السياسي وغياب المشروع الوطني.

وقالت: "بدل أن تتحول هيمنة التيار الوطني، في عقد الانتفاضة الأول، على المشهد والخطاب السياسيين، لإجماع حقيقي وتدل على تغيير حقيقي واستراتيجي في الداخل نحو صدام واضح بين المواطنة الإسرائيلية المعروضة على الفلسطينيين والانتماء الفلسطيني، فإن قطاعات سياسية واجتماعية من الداخل تراجعت نحو الرضوخ لما طورته إسرائيل في هذه الأثناء من وسائل الترهيب والترغيب".

واعتبرت أن "الداخل اليوم يمثل حالة انشقاق، بل انفصام، بين خيار صهيوني يمثله منصور عباس والجبهة وخيار وطني فلسطيني متصادم مع المواطنة المعروضة، تمثله حراكات شبابية وحركات وقوى وطنية، بينها التجمع الوطني الديمقراطي، ولا أرضية سياسية مشتركة بينهما".

وأكدت زعبي على أن "غياب مشروع وطني يفرز الشرعي عن غير الشرعي هو مأساة حقيقية للداخل أيضاً وليس فقط لشعبنا خارج الـ48. تحدي المرحلة هو عودة البوصلة الوطنية بقوة، لإعادة وصل الجغرافيات الفلسطينية المشتتة ولم شملها السياسي، وهذا أقل الوفاء لشهداء شعبنا ولانتفاضاته".

وكانت الانتفاضة الثانية (هبة القدس والأقصى) قد اندلعت في 28 سبتمبر/ أيلول 2000 عقب اقتحام شارون المسجد الأقصى، تحت حراسة مدججة بالسلاح، الأمر الذي استفز مشاعر الفلسطينيين ودفع باتجاه صدام ومواجهات امتدت إلى المدن والقرى الفلسطينية بالضفة الغربية وغزة والداخل، وأسفرت عن ارتقاء 13 شهيداً وإصابة المئات بجراح.

وقبيل اقتحام شارون المسجد الأقصى، عانى الفلسطينيون من انسداد الأفق السياسي وفشل مفاوضات كامب ديفيد بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس حكومة الاحتلال آنذاك إيهود باراك، برعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون. وكانت إسرائيل قد رفضت تنفيذ بنود الحل النهائي بحسب اتفاقية أوسلو، وسط إصرارها على استمرار سياسة الاستيطان بالضفة الغربية والقدس المحتلتين، وتجاهلها الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين. 

وجاء اقتحام شارون للمسجد الأقصى والتجول في حرمه، في ظل الشعور العام بالإحباط والاحتقان السياسي والغليان الشعبي، ليسطّر الفلسطينيون مرحلة مفصلية فارقة في نضالهم من أجل التحرر والاستقلال وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

المساهمون