الحرب على أوكرانيا هي أكثر حرب شهدت تغطية إعلامية من بين كل حروب العالم، كونها تدور في وقت تطورت فيه وسائل الإعلام والاتصال، وجرت في وسط القارة الأوروبية داخل منطقة مفتوحة، سهلّت انتقال محطات التلفزة والصحافيين، ومن دون رقابة مباشرة على الأخبار، كما حصل في الحروب الكبيرة التي جرت خلال العقدين الأخيرين في أفغانستان والعراق، حين تحكمت الولايات المتحدة بالصحافة والصحافيين. ومن بين البلدين المتحاربين استفادت أوكرانيا من الإعلام أكثر من روسيا، التي خسرت الجبهة الإعلامية منذ اليوم الأول للحرب.
وهناك أكثر من وجه للخسارة الروسية. أولها عدم امتلاك خطاب إعلامي مقنع ومحاولة تصدير حجج تاريخية وتهم غير قابلة للتسويق حتى في الداخل الروسي، مثل القضاء على "الحشاشين والنازيين الجدد" في أوكرانيا، والفشل في استخدام حرب التضليل التي مارستها في سورية، ونجحت في إلصاق تهمة الإرهاب بـ"الخوذ البيضاء" لأنها نقلت للعالم الجرائم الروسية ضد المرافق الإنسانية.
والثاني التحكم بوسائل الإعلام الروسية بطريقة سوفييتية من خلال الرقابة وفرض قوانين من أجل إعلام أحادي ورأي واحد. ومع سريان السرية والرقابة في روسيا، سيطرت أوكرانيا على الرواية من خلال إصدار تقارير عن الخسائر على كلا الجانبين، ومقاطع فيديو للجنود الروس الأسرى، ولقطات للدمار من الضربات الجوية الروسية.
وعلى الرغم من أن الإعلام الأوكراني لم يكن محصناً من المبالغة والعرض الانتقائي للحقائق، إلا أنه لا تمكن مقارنته بمحاولات روسيا خلق واقع مشوه موازٍ.
تجاهل روسي لوسائل الإعلام
والثالث إغلاق الأبواب بوجه وسائل الإعلام الأجنبية. ويبدو أن سبب هذا القرار هو الحسابات السياسية والعسكرية التي لم تأخذ في عين الاعتبار دور وسائل الإعلام، التي وصلت إلى عين المكان قبل إطلاق الرصاصة الأولى في 24 فبراير/شباط الماضي، وبقيت تتوافد إلى المدن الأوكرانية على الرغم من ضراوة القتال.
والرابع هو أن "فيسبوك" و"تويتر" حذفتا كل الأخبار والفيديوهات الروسية المضللة عن شبكاتها في وقت مبكر، وهذا ما دفع روسيا إلى حظرهما كلياً.
والسبب الخامس هو الفارق بين أسلوبي الرئيسين الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والروسي فلاديمير بوتين في إدارة المواجهة، الأول صريح ومباشر وفي الميدان، والثاني يعتمد على الخطب المسجلة، متعال ومتعجرف. وتبين أن أوكرانيا تمتلك خبرة مباشرة في مواجهة روايات الدعاية الروسية.
ووجّه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوماً شديداً لوسائل الإعلام خلال زيارته الأخيرة إلى الهند في الأول من إبريل/ نيسان الحالي، وظنّ بعض الصحافيين أنه يمازحهم، حين قال لهم إن استعمال تعابير "حرب" و"غزو" لوصف ما يجري في أوكرانيا ليس دقيقاً، ويعبّر عن تحامل على روسيا.
ووصف ما يجري بأنه عبارة عن "عملية عسكرية إنسانية خاصة بهدف حرمان كييف من قدراتها العسكرية". وحين شدد الوزير الروسي بقوة على هذه الجملة، فهم الصحافيون أن ما جاء على لسانه ليس من قبيل دعابات أول إبريل، بل هذا هو الموقف الروسي الرسمي الذي تبلغه الإعلام المحلي والأجنبي في 26 فبراير الماضي.
وجرى العمل به منذ ذلك الوقت، ولم يتغير فيه حرف واحد رغم العدد الكبير من الضحايا والمهجرين والنازحين الأوكرانيين الذين تجاوز عددهم 10 ملايين، والدمار الذي وصل في بعض المدن إلى 90 في المائة من العمران والبنى التحتية كما هو الحال في مدينة ماريوبول الساحلية، و30 في المائة لمدينة خاركيف المحاذية للحدود الروسية.
نجح زيلينسكي في قيادة الحرب الإعلامية عكس بوتين
لا تزال الرواية الروسية الرسمية تصر على أن ما يجري ليس حرباً، ولم تغير التهديدات باستخدام أسلحة نووية من موقف موسكو، في حين أن قوة عدوها الذي استنفرت لتقطع رأسه، فولوديمير زيلينسكي، تكمن في أنه لعب منذ اليوم الأول لعبة الإعلام، ما مكنه من خلط الأوراق الدولية وكسب الرأي العام إلى صفه.
وبالتالي، تحركت الحكومات لتزويده بالسلاح والمال وفتحت أبوابها أمام اللاجئين الأوكرانيين من النساء والأطفال الذين يشكلون عبئاً كبيراً في الحرب. ووجد زيلينسكي جيشاً أقوى من كل الجيوش: الإعلام الدولي الذي يقف معه لسببين.
الأول هو الوقوف ضد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي لم تفرق بين الأهداف المدنية والعسكرية، خصوصاً المستشفيات كما حصل مع قصف مستشفى الأطفال في مدينة ماريوبول.
والثاني هو الموقف من روسيا التي بدأ خطاب ومواقف رئيسها فلاديمير بوتين تثير قدراً كبيراً من القلق لدى الرأي العام، وخصوصا التلويح بالأسلحة النووية.
ومن أبرز أخطاء روسيا في إدارة المعركة الإعلامية، القانون الذي صدر عن الهيئة الناظمة للاتصالات في روسيا "روسكومنادزور" في 26 فبراير الماضي، الذي يلزم وسائل الإعلام، المحلية وغير المحلية، بحذف أي إشارة إلى "مدنيين قُتلوا على يد الجيش الروسي في أوكرانيا"، ومصطلحات "الغزو" أو "الهجوم" أو "إعلان الحرب"، من مضمون ما تنشره.
وجرى حصر المعلومات بالمصادر الرسمية الروسية، التي "لديها وحدها معلومات آنية وموثوقة"، فيما تصف موسكو رسمياً تدخلها في أوكرانيا بأنه "عملية عسكرية خاصة" تهدف إلى "حفظ السلام"، وهو المصطلح الذي استخدمه بوتين عندما أعلن أن القوات الروسية ستدخل أوكرانيا لحماية الناطقين بالروسية في الجمهوريتين الانفصاليتين اللتين اعترفت بهما موسكو قبل يومين من إعلان الحرب: جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية.
وهنا يطرح السؤال نفسه عن سبب تعاطي موسكو مع الإعلام على هذا النحو في اليوم الثالث للعملية العسكرية، في وقت لم تتضح فيه صورة المواقف الدولية، واتجاهات وسائل الإعلام المحلية والدولية، وحتى قبل أن تحظر الدول الغربية وسائل الاعلام الروسية التي تعمل من بعض البلدان الغربية، مثل قناة "روسيا اليوم" التي كانت تحتفظ بمكاتب ومراسلين عبر العالم.
ويمكن استنتاج أجوبة كثيرة، أولها أن موسكو لم تراهن على كسب وسائل الإعلام الدولية، أو المعارضة لها في الداخل مثل صحيفة "نوفايا غازيتا"، التي صنفتها في عداد وسائل الإعلام الروسية "العميلة للأجانب".
ولم تصمد هذه الصحيفة طويلاً وقررت التوقف عن الصدور في 28 مارس/آذار الماضي، إلى حين الانتهاء من "العملية العسكرية الخاصة".
وجاء ذلك بعد منع السلطات نشر المقابلة التي أجرتها مجموعة من الصحافيين الروس المستقلين مع زيلينسكي، وينتمي هؤلاء إلى صحيفتي "نوفايا غازيتا" و"كوميرسانت"، وقناة "تي في راين". والسبب الثاني هو أن الإعلام بالنسبة لروسيا لا يزال هو البروباغندا، التي تمتلك منها الكثير على مستوى العالم.
وهي تشتغل بشكل جيد في إطار التشويش على وسائل الإعلام ونشر الأخبار الكاذبة والشائعات، ولكن تأثيرها ظل محدوداً أمام الصور والتحقيقات التلفزية المهنية من الميدان، وكان يكفي نقل صور طوابير اللاجئين الأوكرانيين وهي تغادر ديارها لإدانة الغزو الروسي.
قمع إعلام الداخل الروسي
وما لم تحسب موسكو حسابه هو أن يتعرض إعلامها الرسمي إلى هزة من الداخل، وتحصل حركات تمرد واستقالات، وكانت البداية من الخطوة الشجاعة التي قامت بها الصحافية في القناة الأولى مارينا أوفسيانيكوفا، عندما خرقت جدار الصمت في 14 مارس الماضي، لتقطع البث التلفزيوني للقناة الأولى التي تعمل بها، وتعلن أمام الجميع رفضها الحرب.
وظهرت خلف المذيعة ترفع لافتة مكتوبة بخط اليد "لا للحرب" و"لا تصدق الدعاية. إنهم يكذبون عليك هنا". وسرعان ما انقطع البث، واعتُقلت الصحافية التي دعت في فيديو مسجل "اخرجوا واحتجوا"، "لا تخافوا. لا يمكنهم سجننا جميعاً".
موسكو لم تراهن على كسب وسائل الإعلام الدولية
وهذا ما حصل فعلاً، وتوالت ردود فعل من أوساط إعلامية، وقالت الصحافية الروسية يفغينيا ألباتس، التي تعد من أهم الوجوه الصحافية في موسكو، إنه "أورويل 1984، في هذا العالم.. الكذب حقيقة والحرب سلام".
وصرحت النجمة التلفزيونية ليليا جيلديفا "معظم الروس ليسوا مع ما يحدث الآن. كل هذا الجحيم والرعب"، ومن ثم استقالت من قناة "أن تي في" التابعة لعملاق الطاقة "غازبروم" بسبب الغزو، وغادرت روسيا.
وكان الرد الرسمي هو المزيد من القمع، وخلال الأسبوع الأول من شهر مارس وحده، حجبت روسيا ما يقرب من 30 موقعاً لوسائل الإعلام الروسية والأوكرانية المستقلة.
كما أوقف تلفزيون دوجد المستقل عملياته وسط ضغوط حكومية. كما أن محطة إذاعة صدى موسكو العريقة في المشهد الروسي، بوصفها رمز حريات الصحافة التي ظهرت في أوائل التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أُزيلت بشكل غير رسمي من موجات الأثير واستُبدلت ببرامج حكومية.
ومع ذلك، فإن صحيفة التابلويد الروسية "كومسومولسكايا برافدا" الشهيرة، والتي تعني "الحقيقة"، ظلت تصدر بمانشيتات رئيسية مثل "الأبطال على الخطوط الأمامية"، "الرقيب دمر 10 قوميين"، "البلطجية المحترفون من الفيلق الأجنبي الأوكراني يكسبون 5000 دولار في اليوم".
وظهرت تقارير مثيرة للسخرية مفادها أن روسيا تساعد أوكرانيا، و"منذ بداية العملية الخاصة، سلمت وزارة حالات الطوارئ الروسية أكثر من 2000 طن من المساعدات الإنسانية إلى سكان دونباس وأوكرانيا".
وكشفت حرب أوكرانيا عن أن الإعلام الرسمي، تحديداً التلفزيون الحكومي، ظل المصدر الأول للأخبار بالنسبة للروس، ولم ينافسه سوى عدد قليل من المواقع المستقلة والرقمية في كثير من الأحيان.
ولذا أصبحت مجموعة وسائل الإعلام المدعومة من الكرملين، بما في ذلك القناة الأولى وقناة "أن تي في" وقناة الأخبار "روسيا 24"، مصادر للبروباغندا وبث الأخبار الكاذبة.
وفي حين تركز في تقاريرها وأخبارها الموجهة للخارج إلى حد كبير على معاناة المدنيين الأوكرانيين، فإنها تقدم للروس قصصاً مختلفة تماماً عما يجري على أرض الواقع. وتعرض الشاشات روايات عن مهمة إنسانية، عن استهداف الضربات الجوية "الجراحية" القوميين الأوكرانيين وتجنّب المدنيين، وتواجه روسيا ما يقوم به "العملاء الأميركيون" لنشر أسلحة بيولوجية ضد روسيا، ومواجهة تحركات قادة أوكرانيا بشدة للحصول على أسلحة نووية لمهاجمة الوطن الروسي.
وفي جميع الشبكات، يعتبر المقاتلون الأوكرانيون "إرهابيين" و"متمردين"، وحلف شمال الأطلسي هو "سيد أوكرانيا في الخارج" والصواريخ الروسية تضرب أهدافاً عسكرية فقط، بينما تستخدم القوات الأوكرانية المستشفيات والمباني السكنية من أجل تخزين الأسلحة.