عقد أول ينقضي منذ انطلاق ثورة فبراير/شباط الشبابية في اليمن. عقد شهدت سنواته تحوّلات جوهرية في الأوضاع جنوباً، سواء ما يتعلق بالقضية الجنوبية أو الأطراف والمكونات السياسية والاجتماعية والعسكرية، إضافة إلى الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة، التي ساعدت على فتح الأوضاع على مصراعيها، لتحقيق مكاسب خلال السنوات العشر الماضية. وهي سنوات تغير فيها اللاعبون بشكل كبير.
لم يكن الجنوبيون بعيدين عن ثورة فبراير التي انطلقت في عام 2011 ضد نظام علي عبد الله صالح، فقد كانوا أحد عوامل قيام الثورة ومن روادها. ومنذ لحظاتها الأولى، انخرط الجنوبيون فيها بشكل كبير لإسقاط النظام، لكن عناصر عدة قلبت الطاولة على الثورة جنوباً. وبدلاً من أن يكون عامل قوة في إسقاط نظام صالح والقوى التقليدية، تحوّل الجنوب إلى ورقة ضغط لإسقاط الثورة وحجر عثرة أمام نجاحها. عوامل عدة أدت إلى هذا التبدل، أبرزها عدم وضوح رؤية الثوار والقوى السياسية والدينية والاجتماعية والعسكرية حيال القضية الجنوبية، فضلاً عن إقصائها شركاء الثورة. وهو ما سمح لأطراف جنوبية ونظام صالح، بإخراج الجنوب من ثورة فبراير وتحويله إلى بؤرة مناهضة لها. وبدأت أطراف جنوبية تدفع للحصول على مكاسب للجنوب، مستغلة مساعي مختلف الأطراف في صنعاء لاستقطاب الجنوبيين.
يعمل البعض على إعادة المشهد الجنوبي إلى حكم دولة الجنوب السابقة
في السياق، يؤكد الباحث الجنوبي محمد المرفدي، الذي كان من نشطاء الحراك الجنوبي منذ انطلاقته، وشارك مع المقاومة، أن الجنوب استفاد من ثورة فبراير من جهات عدة، من بينها كسر قيود حركة النشطاء الجنوبيين بين المحافظات والعاصمة عدن، فضلاً عن الملاحقات الأمنية من اعتقالات وغيرها. وهذا ما أعطى حركة أكثر للعمل في الجنوب، وساعد في دفع كثير ممن كانوا في السلطة جنوباً للانخراط في صفوف الحراك. ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد"، أن هذا الأمر زاد من الزخم الجماهيري، وبدّل من مسار الأحداث في الجنوب ووضعه في قلب التحولات. وهو ما ساعد الجنوبيين في تشكيل فصائل المقاومة الجنوبية، واليوم بات الجنوبيون حاضرين بقوة في المشهد السياسي وطرفاً قوياً يفرض خياراته.
في المقابل، ينظر طرف آخر للتحول في المشهد الجنوبي، من زاوية أخرى. وفي السياق، يقول الناشط السابق في الحراك، الضابط في "الجيش الوطني"، محمد عبد الرحمن، لـ"العربي الجديد"، إن الجنوبيين حققوا الكثير منذ انطلاق ثورة فبراير، التي أتاحت الفرصة لتوحيد الصفوف وانتزاع الحقوق، بعد أن ظهرت ملامحها قبل مؤتمر الحوار الوطني وأثناء انعقاده (2013 ـ 2014). كما جاءت الفرصة مع انقلاب الحوثي وصالح في صنعاء، ثم اندلاع الحرب وتمكّن الجنوبيين من إخراج الحوثيين من الجنوب. لكن هذه الفرصة الذهبية لم يستغلها الجنوبيون بشكل صحيح، وأظهروا وجهاً آخر لإدارة الدولة وهو الفشل.
ويشرح عبد الرحمن: ظهرت وجوه إقصائية لا تزال تعمل على إعادة المشهد الجنوبي إلى حكم دولة الجنوب السابقة، قبل الوحدة. وهذه الوجوه الممثلة تحت "المجلس الانتقالي الجنوبي"، أظهرت صورة سيئة لقضية الجنوب وشعبه، بل تحولت إلى مجرد بيدق بيد الممول الخارجي، ووضعت الجنوب في وضع الضحية لأطماع خارجية. ويعتبر أن "الانتقالي" الذي سيطر على مناطق عدة، فشل ولم يتمكن من التحول من الطابع المليشياوي إلى دولة، ولم يستغل الفرصة التي سنحت له بشكل صحيح، بل أدت أفعاله وتصرفاته وسياسته إلى إعادة لغة الإقصاء في الجنوب والصورة السيئة عن دولة الجنوب السابقة. كما ساهم بإعادة الانقسام المجتمعي، وكرس نزاعات حاول الجنوب.
وكانت التحولات التي طرأت على المشهد الجنوبي منذ انطلاق ثورة فبراير كبيرة، وشهدت سجالاً ساخناً في كثير من الأوقات، تمكّن فيه الجنوبيون من جعل القضية الجنوبية مفتاحاً لحل كل مشاكل اليمن، ونجحوا في إجبار البعثات الدولية على الاهتمام بها. وشكّلت الأطراف الجنوبية "المؤتمر الوطني لشعب الجنوب" الذي ترأسه محمد علي أحمد، للمشاركة في الحوار الوطني، وتم فرض المناصفة بين الشمال والجنوب. واعتُبر ذلك أول تحول مفصلي في تاريخ الجنوب. وحيال ذلك، اضطرت جميع الأطراف السياسية إلى دخول المحاصصة والمناصفة بين قياداتها الحزبية والسياسية وفي المناصب الحكومية التي أعطيت لها، لكن الحوثيين رفضوا حينها باسم "مشكلة صعدة"، وحاولوا مقارنتها بالقضية الجنوبية، وهو ما رفضه الجنوبيون. وحتى يحقق الجنوبيون انتصاراً بالحصول على مكاسب في السلطة، كان الجنوب بكل أطيافه ومكوناته وأحزابه السياسية يشارك في تظاهرات حاشدة في عدن وبعض المناطق الجنوبية، وبحضور كل القيادات التي لم تعد تحت الملاحقات والاعتقالات منذ وصول الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي إلى السلطة رئيساً توافقياً.
من جهته، يستفيض المتحدث الرسمي لمقاومة عدن خلال تحريرها من الحوثيين، علي الأحمدي، في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، عن التحولات التي طرأت في الجنوب. ويرى أن ثورة فبراير 2011 جاءت كحدث تاريخي ومؤثر في مسيرة الحراك الجنوبي الذي انطلق في عام 2007، وواجه القمع وملاحقة قياداته ونشطائه من قبل النظام السابق، ما أوصله إلى حالة من الانسداد والجمود في نهاية عام 2010، وانحصر وجوده في المناطق الريفية.
ويضيف أنه مع انطلاق ثورة فبراير، والتي توافقت في أهدافها مع كثير من أهداف ومسبّبات تشكُّل الحراك، عاد الحراك إلى المشهد بشكل مختلف وظروف جديدة. ويلفت إلى أن الكثير من قياداته عادت إلى عدن بعد تراخي القبضة الأمنية، وصارت تشارك في فعاليات الساحات وتعقد الندوات في الفنادق، وتلتقي السفراء والمنظمات. بالتالي فقد أصبح للحراك حضوره في عدن بشكل واضح.
ويؤكد الأحمدي أنه كان هناك التزام في ساحة الحراك في عدن بأهداف ثورة فبراير، ولم يُسمح برفع علم الدولة الجنوبية السابقة، ولا بطرح أي شعارات انفصالية في الطرح الثوري العام الذي يستهدف إسقاط النظام. لكن ما حصل من تحولات، خصوصاً منذ توقيع المبادرة الخليجية التي نصت على أن طرفي الأزمة هما "المؤتمر الشعبي" وحلفاؤه وأحزاب المشترك وشركاؤه، واستبعاد الحراك الجنوبي أو الاشارة بشكل واضح لقضيته، أدت بالحراك للدخول في مسار جديد ومستقل يختلف عن المسار العام لثورة فبراير، ويعتمد على تثوير الشارع الجنوبي وحشد الجماهير في فعاليات حاشدة.
ويشير الأحمدي إلى أنه على الرغم مما حققه الحراك في تلك الفترة من نجاحات جماهيرية، إلا أنه لم ينجح في تشكيل حامل سياسي لقضيته ولا التوصل إلى مشروع يمكن أن يقدّم حلولاً واقعية للقضية، تنقلها من الزخم الثوري إلى المسار السياسي. ويرى أن هادي عمل على إيجاد حلول للقضية عبر الحوار الوطني، الذي شاركت فيه كثير من المكونات السياسية والمجتمعية اليمنية وبعض فصائل الحراك الجنوبي، وأنتج مخرجات تعالج كافة القضايا وعلى رأسها قضية الجنوب. بالتالي فإن الحلول والضمانات المقدمة لقضية الجنوب، تُعتبر من أفضل ما تم التوصل إليه من حلول.
أما بعد حصول الانقلاب عام 2014، وهو تحوّل مفصلي، فيؤكد الأحمدي أن لغة الحوار تجمّدت وسيطرت لغة السلاح، وانخرطت بعض فصائل الحراك في مقاومة الحوثيين وإخراجهم مع قوات صالح من عدن وما حولها من محافظات. ويضيف أن هادي أشرك بعد ذلك المكونات الحراكية في مناصب الدولة، معيّناً عدداً منهم كمحافظين وقادة عسكريين وأمنيين، في إطار خطوات عملية لتحقيق التمكين والحلول للقضية الجنوبية. ويتابع: "غير أن الواقع المختلف بعد الحرب ودور تيارات الثورة المضادة في العالم العربي، أدى إلى استغلال ملف القضية الجنوبية لإيجاد نوع من عدم الاستقرار وإبقاء الشرعية ضعيفة وإفشال تجربة الثورة". ويعرب عن أسفه "لارتهان بعض القيادات الحراكية الجنوبية لهذه القوى الخارجية ما تسبّب بضرر للقضية الجنوبية، وكان لاستعداء هذه القيادات للشرعية ووقوفهم ضدها دور سلبي أدى لانجراف الجنوب إلى حالة صراع داخلي وصلت أوجها في أغسطس 2019، واستمرت حتى الوصول إلى حرب أبين التي عمقت الانقسام والخلاف الجنوبي ـ الجنوبي".
الحراك الجنوبي كانت أمامه فرصة بعد ثورة فبراير 2011 لكنه لم يغتنمها وبقي حبيس الفعل الثوري
ويعتبر الأحمدي أن الحراك الجنوبي كانت أمامه فرصة بعد ثورة فبراير 2011 لكنه لم يغتنمها وبقي حبيس الفعل الثوري، في حين كانت البلاد تموج بالاستحقاقات السياسية تحت رعاية إقليمية ودولية. ثم جاءت فرص أكبر بعد حرب 2015، التي نجح فيها الجنوبيون من السيطرة على غالبية محافظات الجنوب. وهو ما جعلهم مستعدين للمشاركة بفاعلية مع الشماليين وتحقيق كافة الضمانات للشراكة والعدالة والمساواة بين الجميع. إلا أنه تمّت إضاعة الفرصة مجدداً بإقحام قضية الجنوب في صراعات الثورات والثورات المضادة، التي استهدفت ما تحقق لليمنيين من منجزات بعد الثورة.
وبدا أن التحول الأبرز هو تداعيات انقلاب الحوثيين في صنعاء وسيطرتهم مع صالح على أغلب مناطق الشمال، وإن كان هناك تماه ومباركة لهذه الخطوة من حلفاء إيران في الجنوب، إلى جانب جزء من أحزاب "المؤتمر الشعبي العام" و"الاشتراكي" و"الناصري". غير أن غزو الجنوب من قبل الحوثيين وصالح، وبروز مقاومة جنوبية من أطراف ومكونات جنوبية، كتيارات الإسلام السياسي ومكونات حراكية والقبائل، وتدخّل دول التحالف العربي في "عاصفة الحزم"، غيّر الموازين في الجنوب بشكل كامل. وتمكّن الجنوبيون من السيطرة على الجنوب وطرد 47 لواء عسكرياً من الجنوب، فضلاً عن أن الكثير من الجنوبيين تمكنوا من تولي زمام السلطة، مستغلين التشتت في الشمال. وسمح هذا الأمر لأطراف جنوبية بإقامة علاقات مع أطراف خارجية، لا سيما داخل التحالف العربي، فضلاً عن تمكّن أطراف جنوبية من إنشاء قوات عسكرية، بعضها فضّل الانخراط تحت لواء الشرعية، هروباً من التحول إلى المليشيات. في المقابل، تمكن "المجلس الانتقالي الجنوبي"، وبدعم من الإمارات، من إنشاء مليشيات عسكرية تدين بالولاء له ولأبوظبي، نجحت في بسط السيطرة على بعض مناطق الجنوب، لكن الغضب بات يتزايد عليها في الفترة الأخيرة.