الجزائر... هناك مفهوم آخر

06 مارس 2024
تظاهرة ضد الحكومة، الجزائر، 2019 (محمد مسرة/EPA)
+ الخط -

كان "الأمن" بالمفهوم العام وظيفة. مجرد وظيفة تشتغل في حقلها أجهزة فحسب، تضيق بأساليب وأدوات محدودة، وتزدحم بأنماط عمل تبالغ في الخوف من كل مقاربات جديدة، لكنه صار في الوقت الراهن علماً قائماً بذاته، مدمجاً في تصورات الاقتصاد، وبناء مسالك وطرق التجارة وهندسة جغرافيا المدن والحواضر.

يشعر المجتمع الجزائري في حقول تنظيمه المدنية والنقابية والسياسية، منذ فترة، وفي فئاته الوظيفية والقطاعات المهنية كالإعلام والاقتصاد وغيرها، بأن هناك حضوراً أكبر للضوابط والضغوط التي تعيق حركته وتعطل الكثير من قواه الحية عن أداء دورها اللازم.

وهذا ليس بسرّ يُعلن، فالأحزاب السياسية، خصوصاً تلك الملتزمة بالمسألة الديمقراطية، تقول ذلك صراحة، منها ما قاله السكرتير الأول لـ"جبهة القوى الاشتراكية" يوسف أوشيش، السبت الماضي، من أن "المتطلبات المتعلقة بالأمن القومي، التي لا يشكك فيها أي وطني، خصوصاً في هذا الظرف الحساس، لا يجب أن تؤدي إلى إخراس المجتمع والتسبب في القضاء على أي حياة ديمقراطية بالبلاد"، أو ما عبر عنه تكتل النقابات المستقلة، والذي طالب بمراجعة قانون الحق النقابي لإتاحة أوسع للحريات.

لا بد من أن الاستمرار في هذا الوضع سيؤدي إلى استفحال الشك داخل تضاريس المجتمع الجزائري أكثر، بحيث يفقد ثقته في نفسه وفي نُخبه، ويجعله أكثر استقالة واتكالية على الدولة، وأقل قدرة على فهم الوقائع والأحداث المحيطة على حقيقتها، وهذا ليس في صالح الجزائر والجزائريين.

فالجزائريون هم الأكثر قدرة، بحكم تجارب سابقة وتطعيم ثوري، على تمييز الصالح والمصالح، والصديق من العدو، وقد قدّم الحراك الشعبي نموذجاً متجلياً عن ذلك بوضوح.

العقل الأمني جاف بطبعه، لأنه يرهن الوقائع للتوجّس، وإذا استحكم في السياسات الحكومية فإنه يجفف المنابع الأساسية للفكرة والتفكير خارج الصندوق.

كما أنه بطبعه يرفض الخروج عن النص السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويركن إلى الاستقرار الذي يفيد تجمّد الحال على ما هو عليه، خشية من كل مستحدث آت، يحاصر الابتكار والابداع في كل منحى وتحت دواعٍ مختلفة، ويقاتل ضد المبادرة في كل القطاعات.

وأساس تلك الخشية بالنسبة للعقل الأمني أنه كلما تحررت المبادرة وتوسعت هوامش الحريات والتفكير والتنظم، تقلّصت في المقابل مساحات هيمنته على الشأن العام.

تحتاج الجزائر إلى الخروج من كل هذا، والانتقال من "الأمن" الوظيفة إلى "الأمن" الشامل الذي يعني أكثر من جهة.

لأن ما يحقق الاستقرار المستدام والأمن بالأساس، هو النجاح في استعادة ثقة المجتمع في نفسه، ووضع تصورات لاقتصاد منتج، وتركيز قواعد منافسة سليمة تحتكم إلى الكفاءة إلى جانب السماح ببناء تنافسية سياسية ومدنية شفافة تتيح للمؤسسات المعنية بالرقابة، القيام بدورها والإسهام في التقدير، وإعادة الاعتبار إلى فضاءات الابتكار.

كذلك فالاستقرار والأمن يتحققان بالقطع مع الاحتكار العمومي للحلول والتصورات، وإنعاش روح المبادرة المجتمعية بكل أبعادها، بحيث تلعب المدن والحواضر دورها في تنشيط كل الديناميكيات واستيعاب الطاقات الحية... في الغالب الفرص التي تضيع لا تعود.

 
 

المساهمون