في عام 1995، تمرد حزب "جبهة التحرير الوطني" (جهاز السلطة السياسي) على السلطة الفعلية (الجيش) في أتون أزمة أمنية دامية، وانحازت الجبهة إلى صف المعارضة التي كانت تطالب بالحوار والمصالحة. اضطرت السلطة حينها، وعشية الانتخابات النيابية منتصف عام 1997، إلى جمع شتات من الجمعيات والمنظمات لإنشاء حزب بديل "التجمع الوطني الديمقراطي"، والذي فاز بعد أربعة أشهر من إنشائه بالأغلبية في أكثر الانتخابات تزويراً، بحسب ما أثبتته لجنة تحقيق برلمانية حينها.
استرجعت السلطة لاحقاً "الجبهة" وأعادت تطويعها. بعد حراك فبراير/شباط 2019، تهشمت "الجبهة" و"التجمع" وكل الأحزاب التي كانت تشكل الحزام السياسي للسلطة. وفي الوقت الحالي وعشية الإعلان عن استدعاء الهيئة الناخبة للانتخابات النيابية المبكرة، تبحث السلطة عن حزام جديد، ولا تجد مفراً من إعادة تجربة عام 1997، بربط الجمعيات والمنظمات، من "حماية المستهلك" إلى "السلامة المرورية"، داخل ائتلاف مدني ذي وظيفة سياسية، يتوجه نحو خوض الانتخابات بقوائم مستقلة تصب في وعاء السلطة.
هل هي صدفة سياسية أم توارد للخواطر، أن تتم تسمية كل تكتل مدني وسياسي يساعد السلطة في استعادة السيطرة السياسية، في مصر وتونس والجزائر بالاسم نفسه؛ "نداء" و"وطن". من "نداء تونس" إلى نداء السيسي "مستقبل وطن"، إلى "نداء الوطن" في الجزائر (أشرف على إنشائه مستشار الرئيس الجزائري نزيه برمضان). حتى وإن كانت مكونات النداء الجزائري أقل اندفاعاً في دعم السلطة، وخجولة في التعبير عن ذلك بوضوح، وترفض الإقرار في الوقت الحالي بوظيفتها الأساس عشية الانتخابات النيابية، في مقابل تكتل آخر أسسته بقايا القوى الداعمة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وتحاول الأجهزة فرضه باسم "المسار الجديد".
في الواقع، لا أحد يمنع الرئيس الجزائري من إنشاء حزب أو ائتلاف، الدستور يتيح والسياسة تفرض. ما هو مقلق في الأمر، التحايل السياسي وتحويل روافد المجتمع المدني عن وظيفتها الأساسية من مؤسسات مدنية خادمة للمجتمع إلى خادمة للسلطة، والمس باستقلالية المجتمع المدني عن سلسلة الحكم، وإدخاله في مربع التأييد والمساندة الوظيفية للرئيس والحكومة (بوتفليقة فعل الأمر نفسه عام 1999 بإنشاء ما عرف بتنسيقيات دعم ومساندة برنامج رئيس الجمهورية). وأكثر من ذلك، الاحتيال على الناخبين باستخدام قوائم المجتمع المدني في الترشيحات، بينما الأساس الديمقراطي يقول إنّ الجمعية جمعية والحزب حزب، وأنّ وظيفة ممارسة السياسة تعود للحزب لا للجمعية التي يحصر القانون مجال نشاطها بأمور محددة.
لم يعد خافياً أنّ السلطة السياسية في الجزائر تنظر إلى ما بعد الانتخابات، وتفكر مبكراً في مسألة حكومة الرئيس وكيفية تشكيلها وأطرافها، وتسعى لضمان أكبر قدر من الكتل المؤيدة لها. بمعنى أنها ليست مستعدة لأن تسمح بانتقال تشكيل الحكومة وإدارتها إلى قوى المعارضة أو إلى قوى غير مضمونة بالنسبة لها على الأقل. واضح أنّ السلطة بصدد الانتقال من الحكم بالكتل الكبيرة، كما كان الحال في البرلمانات السابقة منذ انتخابات 1997، إلى الحكم في البرلمان المقبل بالمجموعات والكتل الصغيرة التي تحتويها السلطة في تحالف رئاسي موسّع. وهذا مدخل جديد لتمييع المشهد والالتفاف على المطلب الديمقراطي.